-قبض على الأوراق التي بين يديه حتى برزت عروقه، وطرق على سطح المكتب بقوة غير عابئ بالآلم المصاحبة لفعلته، وقف كالمجنون، ثائر كالأسد يدور حول نفسه، يلعن كل مَن يستغل حوائج الناس، وحدة كانت أو مال. -هل ستقضي باقي يومك في غرفة المكتب يا "ناصر"؟ تأفف بضجر من سلوك صديقه الذي لم يتغير ونهره قائلًا وهو يجز على أسنان ه: -ألم يوجد باب تطرق عليه ؟ قهقه الآخر وجلس أمامه على زاوية المكتب وأكمل: -دعك من كل هذا وقل لي ما آخر الأخبار؟ منذ البارحة وأنت لم ترفع عنقك عن أوراق الساحرة الجميلة . نفى برأسه وهو يغمغم بكلام غير مفهوم، ثم أخذ معطفه وهو ينوي الخروج ،فاعترض صديق ه ووقف أمامه، فحدجه بنظرات نارية، فرفع الآخر يده قائلًا : ناصر ماذا سنفعل؟ الوقت يمَر . أدار مقبض الباب والتفت بنصف جسمه قائلا قبل أن يغلقه خلفه: ل تقلق "راش د"، سوف أجدهم جميعا وكلُ منهم سيأخذ عقابه، هاشم وعصابته تدميرهم على يدي. تبعه في صمت، بعد أن لحق به، جلس بجواره في سيارته، وتفكيرهما منصب على شيء واحد. التفت راشد وهو يمط شفتيه للأمام قائلًا : معنا صورة لها عندما التقطتها أنت في مُراقبتك لها، والسلسال عليه اسمها الحقيقي، وعنوان هاشم كاملًا، ماذا ننتظر بعد؟ ! -لم يرد عليه فقط عيناه على الطريق، يقبض على المقود بقوة، يعلم مدى تهور صديقه، وهو ل يريد أن يخسر أحًدً ا، وأيضًا يعلم أن هناك المزيد لم تتحدث هي عنه، لذلك يريد رؤيتها أولً وهذا ما سيفعله. صف سيارته بجانب الطريق أمام مبنى ضخم بحي هادئ، وجاب الشارع والمارة بعينيه عبر المرآة. تأف ف راشد وتململ في جلسته، هو يعلم أن ناصر غيره، حكيم، رزين، غير متهور على الإطلاق، لكنه بطيء جًدً ا من وجهة نظره. -لماذا نحن هنا؟ وإلى متى سنظل هكذا؟ سأل راشد بغضب ظهر جل يًا على ملامح وجهه. فأجابه الآخر وهو يُشير بيده على فجر وهي تترجل من سيارتها: كنت أنتظرها، وإن لم تتحكم في تهورك هذا فعليك المغادرة دون كلام. فغر فاهه وهو يقول بإعجاب واستغراب: متى عرفت مكانها ؟ -ماذا نعمل يا صاح؟! لم ينتظر الرد، ترجل من السيارة ودخل المبني وراءها؛ لم تفُاجأ بل ابتسمت له وهي تفتح المصعد وهو معها، لم يتحدث أحدهما؛ فقط نظرات يشوبها القلق والراحة في آ ن واحد، حين توقف المصعد الكهربائي أخرجت سلسال مفاتيحها، دخلا معًا شقتها التي تقطن بها بالدور الرابع، جلس على أول مقعد قابله، أخرج علبة سجائره وأشعل واحدة، ونفث دخانها وهو يقول ببطء: كن ت تعرفين أنني أراقبك؟ ابتلعت ريقها، وأغمضت عي نيها قائلة بصدق: في البداية ل، لكن رجاء هي مَن لفتت انتباهي لك، لذلك وجب عل ي استغلالك. رفع أحد حاجبيه من صراحتها الفجة في أنها تستغله، نظر لها من رأسها إلى أخمص قدميها بنظرة هي تعرفها جيًدً ا. التمعت الدموع في مقلتيها: ألم تصدق ما قرأته ؟ رفع رأسه للأعلى وهو يدور به ناظرً ا للسقف: ل، لكن يجب عليك تغيير ذلك، ماذا حدث بعد أن قابلت ك رجاء ؟ جلست على مقعد مقابل له، تفر ك في يديها تارة وتمسك بجانب فستانها تارة أخرى، بللت شفتيها بطرف لسانها، وتنحنحت بحسرة سار دة ما تبقى: -حين عدت إلى البيت أخبرت أبي بكل شيء، فلم يكن أمامه سوى أن يأخذنا إلى القاهرة، حيث ل نعرف أحًدً ا ول أحد يعرفنا، ظنًا منه أنه هكذا يحميني، لكن كما ذكرت من قبل كلها محاولت واهية، فبعد شهرين -ستين يومًا بالعدد- كان قد عثر علينا هاشم . اختنقت عبارتها وتعثرت ولم تخرج من حلقها، ازدادت الدموع -كنه ر - تسيل على خديها، وارتعشت أوصالها مما جعل ناصر يقطب جبينه بعدم فهم، نظر للشمال وجد كو بًا من الماء مُغطى بطب ق صغير، فمد يده لها به ،فالتقطته وارتشفت القليل ووضعته جانبًا وأكملت: ذات صباح وجدنا مَن يطرق بابنا بعنف في السادسة صباحًا، خرجنا أنا وأمي كلُ منا من غرفته مذعو رًا، وتجمدت أطرافنا حينما فتحت أمي الباب ووجدنا اث نين من الرجال ينك سان رأسيهما للأرض، كنا نعرفهما جيدا فأبي قد تعرف عليهما في صلاة الفجر، وأصبحوا أصدقاء. انفلتت مني شهقة وتلجلجت وأنا أسألهم بخوف يقبض قلبي: ماذا حدث لأبي؟ -تطوع أحدهما وأجابني: البقاء لله يا ابنت ي. -اتسعت عيناي من فرط الذهول والذعر: ماذا ؟ -كُنا نسير مع بعضنا، وأخذنا الحديث، ولم نشعر إ ل ووالدك طائرً ا في الهواء وبعدها مستقراً على الطريق والدماء تغطي المكان، ولم يكن منا إل أننا نَ قله لأقرب مستشفى. تحركنا سريعًا وأمي تبكي وتنوح، وعلى الطريق شاهدت دماء أبي، وحينها اعترفت ولأول مرة أنني قد خسرت الأمان، الحب، الظهر والسند، حينها فقط أدركت أنني كنت مخطئة في كل شيء. ل أعلم كيف وصلنا أو متى، لكنى وجدت أمي تحتضن رأس أبي ودموعها لم تنضب، ومن حين لآخر تنظر لي بقهر وهي تنفي برأسها. فيما بعد قد عرفنا أنها حادث بفعل فاعل ولم نتمكن من الإمساك بالمجرم! ! جفت الدموع شيئاً فشي ئاً وقالت وه ي تكفكف آخر أثر لها: كنت قد نويت النتحار بالفعل، لكنك ظهرت فجأة، وحين علمت هويتك كان ل بد أن ألفت نظرك لي. طالعها بدهشة، فاستطردت: نعم الثلاثة رجال رجاء هي مَن أتت بهم، وكُنا نعلم أنك لن تتخلى عن فتاة يزعجها مثل هؤلء، بعد الحادث جاءني هاشم بنفسه وابتسامة بغيضة ترتسم على وجهه، كم تمنيت أن أخنقه وقتها لكن لم يعطني الفرصة ولم يكن لد ي الشجاعة. -قاطع حديثهما امرأة في العقد الربع من عمرها، ترتدي جلبا بً ا أسودَ ووشا حًا من نفس اللون، ذابلة الملامح، وجهها مستدير، عي ناها منتفختان من كثرة البكاء. جلست على قرُب منهما دون حديث. فنقل ناصر نظرة بينها وبين فجر التي بدورها وجهت حديثها لأمها قائلة: أمي هذا ناصر الضابط الذي حدثتك عنه من قبل. لم تتلَقَ منها كلمة، ربتت على يدها ورجعت ببصرها للجالس أمامها غير مستوعب لشيء قائلة: هذه سلمى أمي، هكذا حالها منذ الحادث. هز رأسه وتزاحمت الأسئلة، وشعر بالتيه، ماذا سيفعل في كل هذا؟ انتشلته بصوتها الذي جاء رقي قًا جًدً ا وهي تقول: عدت من القاهرة أنا وأمي معه ،ولم يُج د الهرب نفعًا، وكان أمامي جميع الختيارا ت فاخترت تجارة المخدرات كان وما زال سافلًا لكنه لم يجبر أحًدً ا على شيء هو يطرح ونحن نختار. -ولماذا جاءت فكرة النتحار الآن ؟ -سألها بعدم فهم، فردت: لأنه يريدني أن أكون عاهرة. قهقه عال يًا بغضب داخلي لن يظهره لها حتى الآن، وأخرج سيجارة أخرى وأشعلها: وما الفارق بين هذا وذاك؟ -تغاضت عن سؤاله وتجاهلته وأكملت: حين رفضت عرضه الجديد، هددني بأن يلحق أمي بأبي، لهذا جاءتني فكرة النتحار عَلني أنقذ أمي من بين براثنه، والباقي أنت تعلمه. -ما الفارق بين هذا وذاك؟ عاود السؤال مجدًدً ا. فأجابت على مضض: ل يوجد، لكنها معتقدات ليس أكثر، فأنا ل أريد أن أكون بأحضان أحدهم كل ليلة. هَب واقفًا وهي معه، نظر لوالدتها بإشفاق وهو يمط شفتيه ولم يعُلق، ثم وقبل أن يخرج من المنزل نظر لها قائلًا أريد رؤية رجاء، اليوم.