-كانت الساعة قبل الخامسة ببضع دقائق، عندما أخذت السماء ظلال اللون البرتقالي أثناء غروبها ،إنه اللون الذي يمنح الأمل دائمًا، فعندما يغرب سيشرق من جديد؛ بأحلام وأمنيات أخرى. لكن هذا المساء مختلف تماماً، فكانت النهاية قد كُتبت على أيدي شياطين لم يوجد في قلوبهم أي رحمة، الجشع والطمع يطغيا ن على أرواحهم ونفوسهم السوداء، غير عابئين بما سيتركون من ضحايا خلفهم. صدح صوت بوق سيارة يأتي من بعيد، نظر هاشم بترقب، وساد لحظات من صمت بعدها عندما اقتربت السيارة الجيب السوداء، ل بل كانتا سيار تين من نفس اللون والماركة، نزل من كل واحدة منهما أربعة رجال أقوياء البنية، كل منهم يرتدى بذلة أنيقة باهظة الثمن، تتراوح أعمارهم ما بين الأربعين والخمسين عامًا ل أكثر. ابتسم هاشم بتوتر من هيئتهم، ففي الحقيقة هذه المرة الأولى التي يراهم فيها وجهًا لوجه. من بعيد كان يقترب عليهم رجل عجوز قد تعدى عمره الستين يتك ئ على عصا، يرتدي جلبابًا واسعًا من اللون الأخضر الداكن، وفي عنقه العديد من المسا بيح، وعلى رأسه عمة مزيج من اللونين الأبيض والأخضر. وقف أمامهم، متهجم الوجه، يطالعهم بنظرات ثاقبة، أخرج من جيب جلبابه زجاجة صغيرة الحجم، وأخذ ينثر ما بها على الأرض وهو يتمتم بكلام غير مفهوم، دون أن يلقي عليهم السلام. نقل هاشم نظراته بينهم جميعا ثم أردف: لقد أحضرت لك الفتيات سيدي، جميعهن في السيارات، هل يمكنني الذهاب ؟ طالعه الرجل بنظرة غير مُطمئنة قائلا: سأحتاج إل ي ك. أومأ هاشم برأسه ووقف على بعد أمتار بسيطة وقلبه غير مطمئن. ابتسم العجوز وهو يقول بفرحة عارمة: الحفر على بعد خمسة عشر متر اً. صاروا جميعًا خلفه وكأنهم مُغيبون . قد أرخى الظلام سدوله، ولم يعد الشخص يرى كف يده ، فأشعلوا القناديل وأصبحت الصحراء كضوء النهار! تطلع هاشم لساعة يده وأردف بصو ت مسموع للجميع: -قد تفيق الفتيات في أي لحظة، فلم أضع لهن سوى القليل من المخدر في العصائر التي تناولنها. -وأنا أريده ن يقظات جميعًا، هكذا طلب الأسياد . أردف العجوز بعبارته وواصل التمتمة غير المفهومة. تناوب الثمانية رجال على الحفر، وتبدلت ملابسهم وأصبحت في حالة مُ زرية، واكتست ملامحهم بالرمال الصفراء! نظر العجوز لهاشم ومن ثم تقدم لأحد الرجال ويسمى خالد قائلًا لهلهُ: -علينا أن نفتتح به ومن ثم بالفتيات. أومأ خالد برأسه قائلا دون تفكير: فليكن ما تريد. حاوط الرجال هاشم، ووقف هو وال ذعر يكسو ملامح وجهه، يدور حول نفسه غير مصدق أو مستوعب لأي شيء، وسؤال يراوده: هل ستكون النهاية بهذا الشكل؟! * ***************** -في إحدى سيارات الفتيات كانت رجاء تفتح عين يها وتغلقهما بتشوش، تتحسس رأسها بيدها وتفر ك في جبهتها، والصداع يفتك برأسها. نظرت حولها قائلة بتساؤل: -أين نحن؟ ربتت شمس على يدها وهي تبتسم لها قائلة: -في الصحراء ،اهدئي، أن ت فقط كنت مُخدرة . ردت بدهشة وخوف: -ماذا؟ -نعم ذاك الحقير قد وضع لنا مُخدرً ا في العصائر لكننا كُنا نتوقع شيئ اً مثل هذا لذلك لم نشرب منه، لكن تركنا ك تشربين فأن ت في كل الأحوال لن يكون ل ك أي دور في المواجهة . جحظت عيناها، ودب الرعب في قلبها وأردفت: أين هو ولماذا نحن هنا للآن ،وكيف لم يكتشف أمر عدم تناولكن للعصائر؟! ابتسمت شمس وهي تشير بيدها إلى حقيبة بلاستيكية سوداء أسفل الكرسي الخلفي وقالت: قد أفرغنا المحتوى بأكمله هنا عندما شاهدنا ك تغطين في سبات عميق ،وتركنا العلب فارغة. -وأين هو، ولماذا لم يتم القبض عليهم حتى الآن ؟ -إنه مع الرجال والدجال، لقد رأيناه هو وهؤلء الشياطين الآخرين، انظري إنهم محاطون بهاشم بعد أن كانوا يحفرون في الرمال. -أين ناصر ورجاله لماذا لم يأتوا ؟ -هم بالقرب منا، فهم يتتبعون كل خطواتنا، لكن تلك اللحظة الحاسمة لم تأ ت بعد. * ************ -ماذا ترُيدون من ي؟ سأل هاشم وهو يعلم الإجابة جيدا لكنه غير مُصدق . فتطوع الدجال وأجاب نيابة عن البقية قائلًا : سنفتتح بك، أريدك عشرة أجزاء، كل جزء في مكا ن غير الآخر هنا في الصحراء، لكن ذبحك يجب أن يكون هنا أمام المقبرة أولً. فغر فاهه وهو غير قادر على الستيعاب لما سمعه. تقدم خالد منه، وربت على ذراعه قائلا: الم أقل لك أنني سأحتاج إليك ؟ حاول الفرار لكنهم لم يعطوه فرصة للخروج من بين دائرتهم. حاوطوا الدجال بنظرهم فرفع يده بعد أن أخرج سكينًا حادًا قائلًا: واحد منكم من يفعلها، أنا فقط مرسال. تقدم خالد وأخذ السكين منه وهو يقترب من هاشم المُلقى على الأرض، وأحباله الصوتية التي تهدجت من كثرة العويل مُطالبًا برحمة لن يعرفها، والذعر يأكل أحشاءه. * ************* -من بعيد كان ناصر يراقبهم بتأهب، وعندما وجد النصل يضيء ببريق لمع، أمر رجاله بالمشي خلفه، لم تكن المسافة بعيدة فالمكان الذي يحفرون فيه بين جبلين، وهو ورجاله يختبؤ ون حول أحدهم. -اطرح ما بين يديك أرضًا. هكذا أمرهم ناصر الذي هبط عليهم من العدم! نظروا لبعضهم البعض ورجال الشرطة تحاوطهم من كل اتجاه. ولم تسعفهم الكلمات فكل شيء أمام الجميع. الغريب في الأمر هي فرحة هاشم بحضور رجال الشرطة، رغم تيقنه أنه لن ينجو من العقوبة، لكن هذا كان أهون بكثير مما كانوا سيفعلونه به. -ظهرت الفتيات وكل منهن ممسكة بسلاحها، ينظرن لهاشم بكر ه، وكل منهن تريد أن تنقض عليه وتأخذ روحه بيدها. فأخذ يقهقه عال يًا على غبائه الذي أوصله إلى تلك النقطة السوداء. * *************** -جن جنونها عندما عَلمت بكل التفاصيل، احمرت عين اها من كثرة الغضب، واسود وجهها من النفعال، ل ترغب في التصديق، يجب عليها أل تصدق كل ذلك الهراء، نعم، هاشم لم يتم القبض عليه، ولن تسمح بذلك أبًدً ا. جابت الغرفة ذهابًا وإيابًا وكأنها كالسمكة على الفحم . جسدها مشتعل كالجمر، تريد إحراق الجميع. وقفت فجأة ومن ثم طرقت رأسها بالجدار، لم يعد لها مكان يأويها، ول أحد تأخذ منه ما تريد من نقود، كيف ستدبر أمرها دونه؟ أسئلة كثيرة تراكمت داخل عقلها الصغير ولن تجد لها إجابة، كانت تحب عملها، تتقنه حتى تنال ما تتمنى، لكنها لم تكن تحسب حسبانًا لوقوع هاشم أبدً ا. وقفت بشموخ وكأنها على حق ثم أردفت لنفسها: بالتأكيد سأجد الكثير مثل هاشم وإن لم أجد، سأفعلها أنا وبنفسي وسأك ون شبكَتي الخاصة. * ***************** -سمعت صوت رنين الباب، فتقدمت تتعثر في خطواتها، تخشى أنه لم يأخذ العقاب المناسب كما تمنت، تريد الثأر لروحها التي دهسها تحت قدمي ه غير عابئ بتوسلاتها بأن يرحمها، بأل يستحل جسدها دون وجه حق. -تقدم ناصر منها والبسمة تزين شفتيه، تنحت جان بًا فمر للداخل، وعندما هَمت بأن تغلق الباب وجدت رجاء تصيح: توقفي يا حمقاء إنني هنا. هزت رأسها للأمام والخلف ،فاحتضنتها الأخرى وهي تدور بها قائلة بفرحة: لقد حُ ولت أوراقه لمفتي الديار المصرية، إعدام والحمد لله. جلسوا جميعهم حتى سلمى خرجت من صومعتها، وجلست بجوارهم تطلع لهم بترقب غريب وعجيب في آن واحد. أخرج ناصر هاتفه وهو يقوم بتشغيل فيديو المحاكمة. طالعته فجر بفرحة عارمة تجتاح كيانها كاملًا، وهي ترى عويله الذي يصدر من حلقه المبحوح كعويل النساء، وضعت الهاتف جانبًا وهي ترسل نظرات الشكر والمتنان لناصر الذي استقبلها بنظرات الشفقة عليها، فلم ينت ه المطاف إلى هنا أبًدً ا، فهناك توابع لم تمر مرور الكرام أبًدً ا، وعليها مواجهتها. -لقد أخذ ما يستحق، ول خوف بعد اليوم. أومأت برأسها وهي تقول بتي ه : نحن نقطة في بحر، هناك الكثيرات لم يجدن الفرصة كي يتخلصن من هذا الوكر اللعين مثلنا، ولم يكن هاشم فقط من يعمل في مثل هذه الأعمال غير المشروعة بل هناك الكثير والكثير. -فوجئت بسلمى وهي تحتضنها وتبكي، بكاء استغربه الجميع، فجميعهم كانوا يظنونها في واديها البعيد عن واقعهم. -الحمد الله يا بنُيتي لقد أخذ الله بحقنا، والآن سيرتاح أبوك في نومته، وسيطمئن قلبي عليك. ابتسمت في وجه والدتها ولم تجد رًدًا. -لد ي عمل لكما، في مكان محترم، وستتقاض يان رواتب تكفيكما، لن تكون مثل ما كنتما تجنيانه من وراء هاشم لكنها بالحلال. صوب نظرة لرجاء قائلًا بتساؤل: ماذا ستفعلين بخصوص أمر عائلتك؟ أول مرة تشعر بتلك الوخزة التي انتابتها داخل صدرها، تنهدت بألم وهي تضع يدها على فمها تكتم آهاتها وأردفت بعد أن استجمعت شتات نفسها: لن أعود، هذا كان اختياري من البداية، كنت ناقمة من عيشة ابنة البواب فتركت كل شيء وراء ظهري فأصبحت كما أنا عليه الآن، أما صفية شقيقتي الصغيرة التي عاشت وتعايشت على ما وجدت نفسها عليه أصبحت طبيبة؛ فبأي حق أعود لهم وأطالبهم بالمسامحة؟! وكيف سيكون حال صفية مع أهل زوجها؟ لن أفعلها أبدا، إذ لم أكن أعلم ما هي أهمية العائلة وقتها ،ف الآن أنا أعلم جيدا، سأحيا في طريقي الجديد، حتى ألتقي روحي مرة أخرى. لم تستمع فجر لحديثهما، حيث كانت تغوص في عالمها، وشتا ن ما بين الآن وذي قبل، ترُاجع بعدسة عينيها ما كانت فيه وما أصبحت عليه؟! فوجدت نفسها لم تحصد إل الخواء في كل شيء حتى بداخلها. لم تحسب حسبانًا لقلبها الذي بين ضلوعها، حيث استقر به سهم الحب، الذي جاءها في الوقت الخاطئ، ولم يخطر ببالها عندما خطت أول خطوتها في عالم اللا رجعة أنها ستكون الخاسرة الوحيدة. تود لو كانت تملكُ عصا سحريةً كالموجودة بقصص الأساطير، لكانت غيرت كل شيء، لكنها على أرض الواقع، فعادت أدراجها تجر أذيال الخيبة مطأطئة الرأس. تمت بفضل الله.