إنتهت ورد من التبضع كما انتهت من سرد قصة مريم على ليث الذي كان مأخوذا بها، يتبعها أينما دخلت يراقب حركاتها وسكناتها وحتى طريقة لمسها للقماش يأسره بشكل غريب وكان يلجم عينيه بمشقة مُنيَ بها لأول مرة...عادا إلى المركز وتركها ليستعلم عن مريم فرجع إليها بالأخبار. ¤ إنها في مكتب ميساء ومعهما طبيبة المركز. نظرت ورد الى أسفل رجليها وتمسكت بالكيس البلاستيكي بحياء تخفيه والحقيبة باليد الأخرى، تغمغم بجيد قبل أن تلمح نظراته الغريبة. ¤كيف تفعلين ذلك؟ ارتفع حاجباها بتساؤل فأردف. ¤كيف تثقين بفتاة لم تعرفيها بحياتك وتقدمين لها المساعدة بل وتفتحين لها بيتك؟ ماذا إن خذلتك؟ ماذا إن خرجت الطبيبة الآن و أخبرتك بعكس ما قالته؟ ابتسمت ورد بجمود تقول. ¤ ببساطة صادفت حالة إنسانية تستحق مني مساعدة وأنا أملك إمكانية مساعدتها ففعلت. سألتها أجابتني، صدقتها وقررت المساعدة إن كذبت علي وكشفت كذبها كل ما سأفعله أنني سأحاول الحصول على ثقتها لأعرف كيف أساعدها لأنني في الأصل تقربت منها لأساعدها لم أطلب وفاءها وحبها . استغرب ليث منطقها كثيرا لكن على الأقل بدأ يفهمها. ¤لكن إن صدقت الآن ستكون أول درجة على سلم الثقة ...وعلى حسب تعاملاتنا مع مرور الوقت سأقرر إذا كنا نصلح لنكون صداقة أم لا ...هذا كل شيء. لمحا خروج الطبيبة و من ورائها ميساء التي توجهت إليهما رأسا، تخاطبها ببعض الإشفاق. ¤من الأفضل أن تدخلي إليها، فنحن لم نستطع إيقافها عن البكاء. قطبت ورد جبينها تتأهب. ¤ لماذا؟ ماذا حدث؟ ربتت ميساء على كتفها تفسر لها. ¤ تعلمين كيف أن هذا الموقف محرج للفتيات يعتبرنه إهانة بحق كبريائهن، لذلك هدئيها قليلا ثم اسأليها إذا أرادت إتهام الحقير الذي ضُبط معها. ¤ أين هو ؟ لازال في الحجز ؟ سألت ورد ببرود غاضب فأومأت ميساء بنعم لتلتفت إلى ليث تستدرك. ¤ ها هي الحقيقة أمامك، ظلم و فتاة لن تستطيع القصاص منه إلا بمعاناة مع محاكم لن تتحملها أعصابها... إذن أريني ماذا ستفعل؟ جمع ليث فمه بابتسامة مكر تعرف ميساء مغزاها جيدا ثم قال. ¤ إهتمي بالفتاة سأقضي أمرا و أعود بسرعة لأقلكما إلى البيت. إنصرف ليث تحت أنظار ورد وميساء التي قالت وهي تبتعد... ** في خبر كان لقد وقع بيد الضابط الجندي* أجفل ضحكها ورد التي تنبهت أن ليث لبي طلبها حقا، فابتسمت هذه المرة إبتسامة وصلت لعينيها ثم توجهت نحو مريم...دخلت إلى مكتب ميساء فوجدتها على أحد الكراسي تكتم شهقاتها بكفها، تألمت لألمها فأخدتها في حضنها تحاول بثها بعض الأمان و الأمل بالغد. تشبثت مريم بحضن ورد تبكي كل الذل الذي عاشته وحزن فقدان والديها. منحتها ورد الوقت الكامل لتخرج ما بصدرها من أوجاع ثم أمسكت بوجهها لتمسح دموعها بينما تهادنها بالقول المرح. ¤ هل تحسنت أم أقسمت على إغراق المركز بكل مرافقه؟ إن كان ذلك هدفك.. أساعدك لننتهي باكرا، أريد العودة إلى البيت ...لم أتخيل أنني سأشتاق إليه يوما ما لهذه الدرجة. تبسمت مريم من بين دموعها، تجيبها بحزن كدر ملامحها الجميلة. ¤ لا أظنك تعرفين كيف تذرفين الدموع فأنت قوية ورد... ما شاء الله وحفظك من كل سوء. زمت شفتيها ورفعت حاجبيها تحرك مقلتيها بطريقة مضحكة لا تفعلها سوى مع أطفال الميتم، ¤ نعم... فوت ذلك الدرس و لم يكن الوحيد فأنا كنت تلميذة فاشلة ...هيا خذي هذا الكيس و ادخلي إلى الحمام، غسلي وجهك و غيري ثيابك وأسرعي قبل أن تعود الضابطة ميساء و تطردنا من هنا. تناولت الكيس منها بتردد فتحثها ورد لتستعجل وبخطوات متعثرة حاولت الإسراع إلى الحمام حيث غسلت وجهها ثم غيرت ثيابها التي أعجبتها ما إن رأتها، كانت عبارة عن فستان طويل إلى الكاحل أسود مزين بورود حمراء صغيرة ومغلق عند الرقبة بكمين طويلين معه سترة سوداء وحجاب من نفس اللون وأخيرا حذاء منبسط أسود. تطلعت لانعكاسها وأخذت نفسا لتهدأ تشكر الله أن أرسل إليها من يساعدها ويدعمها ثم خرجت من الحمام ...تأملتها ورد برضى تسحبها متجاهلة كلمات شكرها لتغادر بها المكتب وكان ليث بانتظارهما حين باغته هشام من خلفه يهمس بأذنه. ¤ ماذا تفعل هنا؟ لمح ورد فأضاف بمكر. ¤أم أن الهوى رماك ل.... بُتِرت كلماته حين لمح تلك الجنية البيضاء صاحبة الحاجبين الأحمرين التي تسحبها ورد كطفلة صغيرة تائهة، لم يشعر بيديه الجامدتين على كتفي ليث إلا حين أزالهما الأخير بسخط مزعوم يعيد عليه همسه. ¤ أظن بأن الهوى قد عصف بك أنت، فأغلق فمك يا أبله وغض بصرك. هتفت ورد باستغراب. ¤ لديك نفس شكل ولون عيني مريم يا ضابط هشام سبحان الله. بلع ريقه يشعر حقا بأنه ينظر إلى المرآة واستغرب شعوره هذا، فما أحس به هشام ليس فقط إعجاب و لكن ألفة إرتباط خيط ما يصله بها ...لم يعلم إبان تفكيره الشارد أنه يبحلق بها دون رمشة عين و الأدهى أنها أيضا كذلك، فهل يا ترى تشعر بنفس ... ¤ هيييه هشام! يا رجل ركز ! إلتفت هشام إلى صديقه كأنه الآن تذكر وجوده وورد تبتسم بمرح مستغربة نظرات مريم المذهولة نحو هشام. ¤ضابط هشام هذه صديقتي مريم وقعت بمشكلة والحمد لله حلت بسرعة وإن سمحت لنا نريد من الضابط ليث أن يوصلنا إلى بيتي. أومأ بتفهم ما يزال ينظر إلى مريم التي استجابت لدعوة ورد بأن تتأبط ذراعها وهما تلحقان بليث... *** في قاعة لا تختلف عن السابقة إلا بكبر الحجم وكثرة القاعدين فيها، يجلس هناك في الزاوية على الأرض رجلا ضخما ذو هيئة إجرام فجة يثني إليه ركبته و يريح الأخرى وقد بدأ يتململ من جلسته و يتأفف بينما يتساءل عن تأخر الرجل؟ هل الفتاة لم تستجب لتهديده بعد؟ نعته بالحمق وتوعده إن نسي أمره سيعاقبه أشد عقاب، متحسرا على ضياع ليلة حمراء كان ليقضيها كما تمنى بخياله المنحرف مع الفتاة الجميلة وينفذ ما طلب منه بالمرة! قطع أفكاره القذرة صياحا باسمه، فرفع رأسه إلى الحارس ليتأكد من مناداته قبل أن يقوم سائرا نحوه مبتهجا، يحسب بأن القضية قد انتهت ولكن ما إن جره الحارس بوحشية تسلل الشك إلى صدره خصوصا حين وجهه إلى حجرة جانبية خالية إلا من ثلاث حراس آخرين، تقدم إليه أحدهم يعاجله بلكمة قوية على وجهه بينما يهتف باستحقار. ¤ لننظفه من وساخته يا رجال عسى أن يتعلم توقير حرمات الناس. وفي تلك الحجرة تعلم المجرم درسا لن ينساه بحياته أبدا من أجل فتاة لا يعرفها ولم يلمسها لكن فضحها وأساء لسمعتها، فكان ما تلقاه من عقاب لظلمه لمريم ولما مضى. أوصلهما ليث لبيت ورد وفتح كرم الباب الكبير بفرح لعودة رئيسته يرحب بهم بحفاوة وطلب من ليث الدخول بدعوة من محمود و والدته المنتظرين على الباب الداخلي مع سهى وزوجها ونعيمة فاستجاب ليث للدعوة بفرح لم يظهره. رحب بها الجميع، طبعا السيدة عائشة بعناق طويل كأنها كانت في غزوة وسهى ونعيمة أيضا لكن ما لاحظه ليث أن ورد إكتفت بالتحدث بحرارة أخوية فقط مع محمود لم تلمسه ولم يلمسها أو حتى يسلم عليها، لم يفكر كثيرا بالأمر وعزى ذلك لكونها أخته بالرضاعة وليست شقيقته غير متأكد من صحة استنتاجه فما يعرفه أن الأخوة بالرضاعة لها نفس أحكام الأخوة العادية. عرفتهم بمريم التي لاقت ترحيبا محبا دافئا منهم إلى درجة أنها استعادت شعورها بأهلها بينما تتلقى الأكل على طبقها تارةً من عائشة وأخرى من سهى وحتى الخادمة ولم يختلف شعور ليث أيضا وهو يأكل بشهية كان يفتقدها ويبدو أنه بدأ باستعادة مشاعر كثيرة فقدها في حياته منذ أن دخلتها... ورد. *** على باب المركز وقف رجل أشيب قصير نحيف، يتحدث مع آخر يبدو أنه المحامي بهتاف نزق يكاد يفقد وعيه. ¤ ماذا تقول؟ كيف خرجت .. وكيف ليس هناك قضية؟ أنا لا أفهم شيئا. تشنجت ملامح المحامي بضيق بينما يجيبه بنفاذ صبر. ¤ يا أستاذ بهاء إفهم، الفتاة عذراء بشهادة طبيبة تابعة للمركز، فلا أساس لقضية فساد وقد أطلقوا سراحها... إذهب و اتركني لأشغالي . إنصرف المحامي تاركا إياه يكلم نفسه بضيق ممتعض... ¤أعلم بأنها عذراء فما كنت لأغامر بذلك و أخسر الرجل الغني الذي سأبيعها له من بعد أن آخذ منها الشقة لكن كيف تصرفت وأين ذهبت، بالطبع إلى بيتها لذا .. أاآآآه! كماشتين بشريتين بقوة الحديد سحبتاه إلى سيارة سوداء كبيرة ولم يتمكن من رؤية شيء لأن أول ما فعلوه هو تغطية رأسه بقماش ثم صفدوا رسغيه النحيفين. سارت السيارة لمدة بصمت إلا من صوت استجداءه إلى أن توقفت السيارة ليدفعوا به منها و بعد برهة، بدأ الضربات تنهال من كل اتجاه تترك أثرها الموجع على جسمه بينما يسمع جملة واحدة تتكرر خلف كل ضربة مبرحة" ابتعد عن بنات الناس" يرددها من يضربونه بالتناوب وعقل بهاء العاق يوصل له جملة واحدة "مريم أصبح لها ظهر وسند". *** ضج بيت ورد بأفراد العائلة والضيفان، محمود يحتسي القهوة برفقة ليث وحمزة بالأريكتين وسط بهو الاستقبال بينما سهى ووالدتها تثرثران بغرفة الضيوف المفتوحة على البهو، قبالة مريم الباسمة بصمت كورد التي تتثاءب تعبا تنتظر ذهاب ليث لتلجأ لغرفتها وكأن الله استجاب لها حين ارتفع رنين هاتفه لكن ليس تماما كما تمنت لأن ليث انتفض قائما يقطب جبهته ولم ينطق سوى بكلمة واحدة "قادم" ثم ودعهم بكلمات مقتضبة ليغادر تحت أنظارهم المستغربة. تلقت ورد مكالمة من والدها، طمأنته عليها كما أخبرها على *قرصة الأذن* قبل أن يوصيها بالراحة... رافقت مريم بعدها إلى غرفتها التي أعجبتها كثيرا وأتتها بمنامة من مناماتها، استحت مريم من سخاء ورد معها، تشكرها بصدق وامتنان. ¤ أشكرك ورد على كل ما فعلته من أجلي لن أنسى صنيعك أبدا ....غدا إن شاء الله سأذهب إلى بيتي لأجلب ثيابي و أوراقي و .... قاطعتها ورد بسبابتها تلوح بها يمينا و يسارا. ¤ لا آنستي أنت لن تذهبي إلى ذلك الحي بعد الآن ... نامي وارتاحي وغدا إن شاء الله إسمعي إقتراحي إن لم يعجبك نبحث عن آخر لا يتضمن ذهابك إلى هناك.. أومأت لها موافقة تتنفس الصعداء لأنها بالفعل لن تستطيع مواجهة أهل الحي بعد الفضيحة التي ألحقت بها، عند تلك الفكرة دمعت خضراوتاها فشعرت ورد بما تفكر به لذا ضمت سبابتها لإبهامها تستدرك ببعض المكر. ¤ هل يعزيك ولو بهذا القدر إن أخبرتك أن الحقيرين قد تلقيا عقابا صارما؟ نظرت إليها بتساؤل، تكفكف دموعها، فأكملت ورد بغموض ماكر. ¤ لنقل أنهما لن ينسياه لمدة طويلة. ابتسمت مريم بحزن تضم ورد إليها بامتنان. ¤شكرا لك حقا ...و نعم إنه يعزيني وسأنام براحة أكبر. خرجت من غرفة مريم بعد أن اطمأنت بأنها هدأت وتوجهت لغرفتها حيث وجدت والدتها تنتظرها وقد حضّرت لها الحمام و الثياب، قبلت والدتها بحب وتوجهت للحمام تستمع بالمياه الساخنة تهدئ بها أنين أطرافها ثم ارتدت ثيابها و آوت الى فراشها الوثير، ضمت والدتها بشدة ولم يطل بها الأمر حتى غرقت بين أحضانها الحانية في سبات عميق. أما هو فقد أسرع بسيارته إلى الطريق الساحلي للمدينة، فمنزل عائلة الجندي العريق ينتصب بشموخ على البحر، دخل مسرعا حتى أنه لم يسلم على من يعملون عندهم كما عودهم يعذرون انشغاله، فكيف لا وهي المرأة الأحب إليه بل إليهم جميعهم، إنها جدته السيدة 'طيبة' إسمها كطبعها وهي تغدق بطيبتها عليه منذ ولادته حتى أصبحت قطعة من روحه والآن يتصلون به ليخبروه بأنها مريضة. اقتحم البهو الكبير و منه إلى الدرج بهرولة حتى بلغ جناح جده يتوغل دون أن يعير إنتباهه للفتاتين على الباب وهناك لمحها على سريريها المرتفع العتيق ذو الأعمدة. رأته فابتسمت له بحنان كعادتها و بجانبها والده السيد يوسف بضحكته السمحة وعلى الجانب الآخر يقف جده السيد أحمد لمحه هو الآخر فرماه بنظرة صارمة لا تخلو من الحنان، أما والدته السيدة زهرة فما إن رأته حتى هتفت بإسمه لكن سرعان ما رسمت الغضب على وجهها ورفعت رأسها باستعلاء مزعوم، تجمد مكانه على قرب منهم ولم يتجرأ على التحرك خطوة حتى بسطت جدته كفها تناديه. ¤ تعال بني... اقترب! اقترب منها و ضم يدها بين يديه يقبل وجنتها بعد أن جلس بجانبها، هل ازدادت تجاعيد وجهها؟ هل هي شاحبة حقا؟ يتساءل ليث بقلق يعصف به يخشى فقدانها. ¤ أخيرا جئت بني ...إنهم يحبسونني هنا وجاءوا بطبيب أيضا يقولون بأنني كبرت و مرضت، أخبرهم حبيبي أنني لست مريضة وأريد استعادة حريتي . إبتسم ليث يشد على يدها بحب بينما والده يعقب بمرح. ¤ أمي من يسمعك يحسب بأننا نقيدك إلى السرير، نحن خائفين عليك أمي. فهتف الجد بنزق مزعوم.. ¤لست مريضة؟ من وجدناه مغما عليه في الصالة إذن؟.. لا أستطيع التخيل لو حدث هذا على الدرج لا قدر الله ما كان ليصيبك. نظرت نحوه تجيبه بحنق طفولي تتصف به عند استفزازه لها. ¤ لم يحدث الحمد لله لقد أخبرتكم بأنني نسيت دواء السكر لذا ارتفع ...إنها المرة الأولى ولن يحدث مجددا بإذن الله، فدعوني أقوم لأشغالي. رد الجد بحزم مصطنع. ¤ طبعا لن يحدث وجلبث ممرضة خصيصا لك. ضمت يديها لصدرها بغضب ترد بغيرة رسمت البسمات على ثغور الحاضرين. ¤ جلبثها لي أم لتخضر عيناك بجمال الصبية؟ أو لنقل تزرق عينيك يا أزرق العينين. كتم الجميع ضحكاتهم بينما الجد يرنوها بحب، رفيقة دربه التي لم تتغير حتى بعد تعديها السبعين ولا زالت تحبه بجنون وتغار عليه. حاد بزرقاوتيه نحو ليث، يخاطبه بحزم. ¤ عندما تنتهي من تملق جدتك وافني إلى المكتب، أريدك بموضوع مهم ...هيا يا يوسف فحبيبها الحقيقي قد جاءها وسيغير مزاجها. تمتم يوسف بحاضر ثم خاطب ابنه بحنو. ¤ كيف حالك بني؟ إشتقت إليك.. حرر يدا من يديه ليمسك يد أبيه يقبلها بينما يقول. ¤ أنا آسف أبي أعلم أنني تأخرت ولكن كان يجب أن أجد نفسي ابتسم والده بدفء يلمس جانب وجهه، لطالما كان يوسف متفهما لأبنائه أكثر من والدتهما. نهض عن مكانه يقول بلطف. ¤ أنت هنا الآن و هذا هو المهم ...إياك و الهرب من جدك نحن ننتظرك في المكتب. انصرف والده والتفت إلى أمه التي لم تنطق بكلمة منذ أن هتفت باسمه، هم أن يحدثها فقالت ببرود. ¤أمي إذا أردت شيئا فأرسلي لي الخادمة. ثم انصرفت و هي تتجاهل ليث، فتحدث بمكر. ¤ أنا عطشان جدتي، ميت من العطش، جئت أجري حتى انقطعت أنفاسي. ضحكت الجدة بمكر ما إن خرجت زهرة من الغرفة، تلمس بيدها جانب وجهه بينما تفصح بحنو. ¤ إنها غاضبة منك لأنك ابتعدت ونأيت بنفسك عنا نحن عائلتك، لكنها تحبك وستعود بعد قليل بكأس ماء وآخر بالعصير الذي تحبه، لن تقاوم. ارتخى جسد ليث قبالة جدته يربت على كفيها بينما يقول بوجوم. ¤ أعرف جدتي ..الكل غاضب مني لكن هي أكثر لأنني لم أقبل الزواج بابنة أختها الوحيدة، ماذا أفعل إن كنت أراها كإسراء شقيقتي وإحساسي تجاهها إحساس أخوي وحين فشل اختياري وجدتها فرصة لتضغط علي أكثر لذا اضطررت لأبتعد ..ولو بقيت لكنت فعلت أحد الأمرين إما الزواج بالفتاة فأدمر حياتها كما تدمرت حياتي أو أغضب أمي بقولٍ سيسخطها علي. عقبت الجدة بتفهم. ¤لذلك حبيبي الكل تفهم بعدك بل جدك و والدك أيّداك ... لكن الآن يجب أن تقرر بني لتجعل الأمور بنصابها. رمقها ليث بريبة يستفسر. ¤ ماذا تقصدين؟ أمسكت يدي ليث بيديها وشدت عليهم بحجرها، تفسر. ¤ جدك يرغب بتزويجك. هم ليث بالقيام مستنكرا، فمنعته وزادت على شد يديه تكمل بحزم حاني. ¤ جدك محق بني ...لا تنس بأنك حفيده الذكر الوحيد وقد سبق وفرضت عليه ووالدك خيارك بسلوك طريق غير أعمال العائلة وسانداك و الآن دورك لتساندهما حبيبي وتمنح العائلة أبناء من صلبهم ويستمر نسل العائلة. هم بالرد فدخلت والدته تتقدمها خادمة بكأسين واحد للماء والثاني بعصير الخوخ المفضل لدى ليث، تقول بحنق . ¤ لا تتعبي نفسك لن يفعل إلا ما يريده. ضحك ليث بمكر ونهض ليضم أمه التي حاولت التملص ولم يسمح لها حتى استسلمت وحضنته، تتشمم رائحته العزيزة على قلبها. أطلق سراحها أخيرا يتناول العصير بينما يعقب بمرح. ¤ ترى هل تدبر جدي أمر العروس أيضا أم سيتركني أختار؟ ابتسمت الجدة بقبول ليث للأمر وهي متأكدة بأن حفيدها به تغيير ما لكن سرعان ما وجمت حين سمعت كنتها تتدخل بمحاولاتها العقيمة. ¤ولماذا نبحت عن عروس وهي موجودة؟ إبنة خالتك تحبك وماتزال تنتظرك. عقد ليث جبينه، يخاطبها مشيرا لجانب رأسه. ¤ أمي كفي عن حشو رأس الفتاة بهكذا كلام، فأنا لن أتزوجها وهي بالنسبة لي مثل إسراء تماما، فدعيها ترى مستقبلها لأنه حين يضيع لن تلوم سواك. إشتد غضب السيدة زهرة ترد غير مدركة للنتائج كالعادة عند غضبها. ¤ وماذا ستفعل ها؟ هل ستدخل علينا رهف جديدة لتشوه سمعة العائلة مجددا؟ "طرااااش".... صوت تكسر الكأس بيد ليث أفجع قلب الجدة التي شهقت بشدة وحتى والدته التي تنبهت لخطورة ما قالته، فركضت إليه لكنه أوقفها بإشارة من يده وحين نظرت إلى عينيه هوى قلبها بين قدميها بينما ترى لأول مرة زُرقتي ولدها تغيم بدموع حبيسة. ¤ إياك أمي إياك! ...أقسم أمي بأني أحبك لكنك تجرحين القلوب بسكاكين لو جربتها لوقعت صريعة. ثم انصرف من الغرفة كالإعصار والجدة تقول بعتاب بينما تقوم عن السرير بتثاقل لتلحق به. ¤أشهد لك بالجنون يا امرأة. وتركتها جامدة مع لسان حالها يغمغم *ماذا فعلت يا غبية؟ كنت ستبكين من لم تعرف الدموع إلى مقلتيه طريقا من قبل* خرج من الغرفة والشرر يتطاير أمامه ولم يلق بالا لتلك الدامعة التي كانت تصغي إليهم، يكمل طريقه إلى المطبخ ليضمد جرحه النازف بيده، أما الذي بقلبه فيعلم أن دوائه ليس بمنزل الجندي، ولج المطبخ حيث هرعت إليه الخالة سعاد ما إن رأته وبيدها منشفة، تقول بمرح تغطي به هلعها. ¤ ماذا حدث يا ولد؟ منذ أول يوم؟ ماذا تركت للأيام القادمة؟ لم تلقى صدى لطرفتها بوجهه المتغضن والتفتا نحو باب المطبخ الذي دخلت منه الجدة بيدها معقم وغطاء طبي لاصق، أجلسته على أحد كراسي طاولة المطبخ وجاورته تمسك يده بحنان تنظفه محافظة على صمتٍ تعلم جيدا أنه بحاجته الآن حتى انتهت من تضميد جرحه ورفعت رأسها تلمح المرأة مساعدة الخالة سعاد تلقي عليهم نظرات فضول لذا سحبته خارج المطبخ باتجاه المكتب و عندما وصلا إليه أوقفته تخبره بحنو. ¤ سندخل وتخبر جدك بما تريده وأنا سأساندك و ليكن ما يكون، إن كنت بحاجة للمزيد من الوقت فستحصل عليه ..وإن لم ترد الزواج أبدا فليكن و أنا سأزوج أباك حتى تتعلم أمك الدرس وحتى ترتاح أنت من وجع الرأس. ضحك ليث بحزن على طرفتها، فهو يعلم يقينا بأنها تمزح لتخفف عنه. قبض على يدها الصغيرة الهشة يستمد منها الدفء ودخلا إلى المكتب حيث يجلس جده خلف طاولة مكتبه المهيب كعادته ووالده على الكرسي الجانبي. هتف جده ما إن رآهما ساخرا بمرح. ¤ أرأيت يا يوسف! يعرف جيدا كيف يتملقها وها هي تتقدمه حامية. أجابته بحنق تتدلل .. ¤ هل لديك اعتراض؟ قام إليها الجد يمسك بيدها يقبل ظهره بحب، يقول. ¤ بالتأكيد لا و لكن حذاري فقضيتك خاسرة. جلست على الكرسي أمام إبنها وضحكت بمكر تعقب بغموض. ¤ من يدري؟ يجعل أسبابه بأضعف خلقه. صمت ليث أعلمهم بتوتر الأمور وزاد يقينهم بجرح يده الذي لم يدخل به القصر. سحبه يوسف من ذراعه ليجس وخاطبه يفتح بابا للمناقشة. ¤ هل علمت بالحفل الخيري الذي سنقوم به هنا هذا الأسبوع؟ رفع ليث رأسه إليهم و قد أراد أن ينهي حيرة قلبه قبل قلوبهم وإسعادهم، هم الذين لطالما كانوا بعونه، يمدونه بالحنان والتفهم ...فنظر إلى جده يبادره باندفاع. ¤ هل سترضى باختياري هذه المرة أيضا؟ فهم الجد قصده وتهلل قلبه بالأمل لمَ سيقوله حفيده يرد عليه. ¤ سابقا لم أثق باختيارك ومع ذلك قبلت لأنني دائما أؤمن بأن التجربة خير درس للمرء، أما الآن فسأقبل باختيارك مغمض العينين لأنك تعلمت أن تختار الدواخل لا الظواهر فقط.... أعترف أنك تعلمت بأصعب الطرق لكنه درس للحياة بمجملها. حزم أمره و نظر إليهم للحظات يئد بها توتره وتردده. ¤ سأدعو عائلتها والسيد العميد مصطفى الشهدي للحفل، فهو صديقهم وأعرفهم إليكم. ابتسم الجميع بحماس، يسأله جده. ¤ هل عائلتها من المعارف؟ تردد ليث قليلا يضع كفه المضمدة على ركبته ثم أفصح. ¤ عائلة الخطاب. ضم يوسف فمه يفكر بأن الإسم مألوف لأذنيه، بينما الجد يرمقه بمكر يستوضح منه بفكاهة. ¤ هل أفرجت عنها أولا لتقوم بخطبتها؟ يصعب علينا التقدم إليها وهي بالسجن. شهقت الجدة ترفع كفها لتبسطه على صدرها، في حين تذكر يوسف أين قرأ الإسم فضحك لمكر والده، أما ليث فصدم من متابعة جده لأخباره وللحظة توجس من رد فعلهم... هتفت الجدة بقلق. ¤ بني هل تحب مجرمة؟ أجابها ليث باندفاع ولم ينتبه لكلمة تحب. ¤إنها مكيدة جدتي و لقد أفرج عنها صباح اليوم. عقب الجد متهكما. ¤طبعا سيكيدون لها إن ظلت تحشر أنفها بما لا يعنيها. نظر إليه ليث بريبة يتساءل. ¤ هل تعرفها جدي؟ أرخى ظهره على مسند مقعده يضحك عاليا ثم قال. ¤ ناصرة حقوق الإنسان، بلى أعرفها ووالدك أيضا، فهي تعلم جيدا كيف تجعلنا نوقع لها على الصكوك بمبالغ ضخمة لجمعية الحنين. حينها هتفت الجدة بظفر، تقول بحماس. ¤ آه نعم، تلك الفتاة المحتشمة جامعة الأموال، أعرفها أيضا قابلتها بحفل خيري وأقنعتني حينها بأن الأيتام أحق بالمال من ذلك العقد الثمين الذي يزين رقبتي وحين أخبرتها أنه من زوجي و لا أستطيع التبرع به تأثرت وأقنعتني بأن أتبرع بثمنه لكي يحفظ الله علي نعمه ...تلك المحتالة الصغيرة. ضحكوا جميعا حتى أن ليث نسي جرح أمه له، ولدى رؤيتهم ضحكته الصافية تيقن الثلاثة بأن ليث قد عثر على دواء أحزانه وآلامه. ¤ سننتظرهم إن شاء الله لكن بني لا تترك المنزل بعد اليوم. طلب منه جده فترققت أنظاره بتوسل صادق. ¤ أرجوكم إسمحوا لي أن لا أعود إلا مع عروسي. أومأوا له بتفهم وقلوبهم قد غمرها الرضا أخيرا. غادرت الجدة المكتب، متأبطة ذراع ليث وابتسامتها تملأ وجهها، فأصبح أقل تشنجا وكأنها صغرت لبضع سنين في بضع دقائق ...سحبته إلى الشرفة الأرضية المطلة على البحر حيث وجدا فيها الفتاتان. ارتمت إسراء بين أحضانه تهتف بفرح. ¤ أخي إشتقت إليك ... أجلت مقابلتك حتى تنتهي مع أفراد العائلة لأنفرد بك. ضمها إليه بحنان يليق برقتها، فقلبه عشقها منذ أن وضعوها بين يديه وهو لازال مراهقا بالخامس عشر، يشاكسها بالقول. ¤ هل ازددت طولا أم ماذا يا صغيرتي؟ وقفت منتصبة بفخر، تقول بأنفة. ¤ بالتأكيد... لقد غبت كثيرا وأنا قد أتممت الثامن عشر عزيزي. ضحك بسخرية يعقب. ¤ وإن صرت بالخمسين، ستظلين صغيرتي و الآن يا حلوة أخبريني عن أحوال المدرسة. ابتهجت تحكي له وصاحبة القلب المفطور تتأمل حبيبها بصمت كما العادة، وكأنه شعر بها فالتفت إليها لترمش بجفنيها ارتباكا تبتسم له. ¤ كيف حالك بيان؟ أجابته باستحياء وهي تعيد خصلة من شعرها الأحمر الغامق خلف أذنها. ¤ أنا بخير شكرا لك و أنت؟ أجابها بحزن على فتاة يعتبرها أختا له، فهي يتيمة تربت معه بنفس البيت ولأنها أصغر منه بأربع سنوات وجد بها الأخت الونيسة لوحدته بمنزل كبير وكذلك كانت هي الأخرى لولا والدته التي بدأت تملأ رأسها بأوهام إلى أن صدقتها، فأضحت تنظر إليه وكأنه خذلها . ¤بخير... أنا بخير . استأذن من جدته للمغادرة و تجاهل والدته علها تشعر به و بالفتاة التي تدمر مستقبلها ثم انصرف. *** *بعد أسبوع* على باب مدرسة "نور العلم" ركنت ورد سيارتها، ترافقها مريم، فتح لهما العم سعيد مرحبا بها كالعادة و أخبرته بأنها ستأتي لزيارة بيته مساء .كانت قد اقترحت على مريم أن تؤجر من يجمع لها أثاث البيت وتخزنه بقبو منزلها ثم تبيع شقتها لتضع المال بوديعة إلى أن تحتاجهم، و بما أن السنة الآن قد تجاوزت منتصفها فمن الافضل لها الاهتمام بالتدريب على الوظيفة التي أمنتها لها وهي أن تدرس اللغة الإنجليزية للمرحلة الابتدائية بما أنها أنهت سنتها الأولى الجامعية ثم بمطلع العام الجديد تلتحق بالجامعة وما كان من مريم إلا أن وافقت شاكرة... في مكتب السيدة كنزة وبعد حديث طال للحظات تسألها عن وضعها القانوني وأحوالها، عرفتهما إلى بعضهما، تقول. ¤ سيدة كنزة، هذه مريم صديقتي التي حكيت لك عنها. صافحتها كنزة بلطف ثم طلبت منها ورد أن تهتم بها وانصرفت على أن تعود لتقلها ولم ترى تلك العينين الخضراوين التان كانتا ترصدهما أو بالأحرى ترصد عينين شبيهتين لهما. *هشام ماذا دهاك؟ لم تكن تتبع فتاة هكذا من قبل، أصبحت تنظر للمرآة فقط لتلمح طيف مقلتيها آه لعينين خضراوين و حاجبين أحمرين قضوا مضجعي! وأصبحت شاعرا أيضا، المهم أنكِ ظهرت أخيرا وخرجت من كهفك، يجب أن أجد طريقة لأحدثها و أحدد مشاعري*.....قطع رنين الهاتف حديثه نفسه داخل سيارته فمد كفه يفتح الخط. ¤ نعم ليث.. ¤ أين أنت يا رجل؟ لقد تأخرت ...هل هي مسألة خالتك لم تجدها بسجلات الوفيات؟ أجابه هشام يتأفف بضجر. ¤ البحت بالسجلات ليس سهلا مع عدم علمي بالتاريخ لذلك سيطول الأمر. ¤إذن كلف شخصا آخر فأنا أحتاجك هنا... على فكرة هل أخبرت عائلتك عن الحفل، هل ستأتون؟ ابتسم هشام بمكر بينما يضع أحد كفيه على المقود. ¤ عائلتي ستأتي أما أنا فعلى حسب .... ¤ حسب ماذا بالضبط؟ جاءته نبرة ليث متهكمة، فابتسم هشام يجيبه. ¤أن تجلب خطيبتك صديقتها. ¤جعلتها خطيبتي؟ كف عن الحسد يا هشام، سوف يفشل كل شيء حتى قبل أن يبدأ بسبب عينيك الجميلتين، فورد لا تعرف بعد أنني سأخطبها ولا أعلم ردها. ضحك هشام عاليا يعقب. ¤ ومن يقاوم سحر الجندي .....اسمع! أنت صاحب الحفل، قم بدعوتها إلا إنس! لن آتي. رد عليه ليث بحنق مزعوم. ¤ سوف تأتي رغما عنك . وأغلق الخط بوجه هشام الضاحك على توتر صديقه كحاله و هو يقول بينما يهم بتشغيل سيارته. ¤ أصبحنا مراهقين يا صديقي . *** خارج سور دار الأمل تقف شاهي مترددة بعد أن زارت الدار مرتين خلال الأسبوع المنصرم بعلة متابعة سير خطة الإدارة لدى فاطمة وإبان ذلك تبحت عن الفتاة الصغيرة التي بالمناسبة اسمها أمل على اسم الدار، .... تلعب معها وتدخلها عالم البراءة ساحر، عرفتها إلى صديقاتها الصغيرات طبعا باسم سنبلة، أنسوها حياتها ووسطها لم تعد ترى صديقاتها إلا لمما لكن دائما ما كانت تبحت عن شيء آخر، ربما عينين رماديتين وشعر أشيب. هزت رأسها كأنها تنفض عنها تلك الأفكار وحددت سبب زيارتها اليوم بما أنه يوم ورشات الأعمال اليدوية وما لم تعلم به شاهي أنها بالأصل لا تحتاج سببا للقدوم إلى الدار، فهي نائبة رئيسة الجمعية المكلفة بالدار، لكن كما يقولون مرآة الحب عمياء ...أليس كذلك؟ ولجت تتمشى بدلال كما اعتادت، بقميصها الأحمر دون حمالات عاري الكتفين وأول الصدر لكن ولحسن الحظ ارتدت سروالا قطنيا أسود واسع بعض الشيء. قصدت الورشة وما إن وصلتها تجمدت، شعرت بسائل بارد يجمد كل عروقها حتى ارتعشت ووصل إلى دماغها فتجمد عن إعطاء أوامر للجسد فظلت ثابته بمكانها، إنه هو!...هناك يعلم الأطفال طريقة تزيين الفناجين الخزفية. ماذا يرتدي؟ سروال قصير رجالي ذاك الذي يتعدى الركبة بقليل وكنزة....ما هذه الرسمة عليها؟ هل هي قلوب حمراء، ما هذا الرجل؟ ولماذا بحق الله تهتم؟ لماذا لا تستطيع التحرك عن مكانها، و أين دقات قلبها؟ هل جمدت هي الأخرى؟ ¤ سنبلة! صاحت بها الصغيرة وهي تعدو نحوها والجميع يلتفت إليها بمن فيه هو الذي ما إن رأى ملبسها و معه تحديق الشباب غلى الدم بعروقه وبخطوات واسعة و صل إليها، يخبر للصغيرة وعينيه على وجهها تتحداها الاعتراض. ¤ اذهبي يا صغيرة وأحضري وشاحا لسنبلتك قبل أن أقطفها وأفتتها أمامك. شهقت الصغيرة بخوف تركض لتحضر لها وشاحا قبل أن يقطفها و يفتتها وهو يكمل بجفاء ساخر وعينيه مازالتا تحاصران عينيها. ¤ على الأقل القديسة كانت محتشمة. لحظة إدراكها أنه يفضل عليها ورد انتفض قلبها بغيرة قديمة وحرقة جديدة، تنطق من بين فكيها المطبقين شراسة. ¤ لا شأن لك بي، أرتدي ما أريده، أعيش كما أريد ليس لك دخل! في الثانية التالية وجدت نفسها بالبهو المظلل مثبتة إلى الحائط من حائط آخر ناطق، لأنه قال بحزم خافت و هو ينظر إلى شفتيها الورديتين تارة و إلى زرقتيها تارة أخرى. ¤ أقسم يا آنسة شاهيناز إن رأيتك عارية مرة أخرى، علقتك على باب الدار الخلفي وآت بكرسي وأجلس عليه أراقبك إلى أن أمل لتعتبري ولتفعلي بعدها ما ترينه مناسب، كيف تأتين هكذا هنا؟ بل كيف تخرجين هكذا من بيتك؟ ..هل رأيت نفسك بالمرآة؟ كانت شاهي تقاوم بكل شراسة بينما هو يثبتها متجاوزا حده لأول مرة بحياته معترفا بأن قراره بإخافتها جاء بغير صالحه وهو يستشعر نعومة ذراعيها تحت قبضتيه، بدأت تستكين بكلماته التي تعبر عنها صدق عينيه قبل شفتيه، فأكمل و هو يستشعر استكانتها و تحديقها به وكأنها تسمع هذه الكلمات لأول مرة. ¤ لم أرى بحياتي مثل زرقة عينيك وخصلات شعرك الذهبية، كأنها حرير قُدّت من الشمس، ثم هذه البشرة ببياضها ونعومتها لا فكرة لديك عما جعلت عقلي ينشغل به. ثم اشتدت نبرة صوته كما قوة قبضتيه جفاء، يضيف. ¤ إذا كان هذا تفكيري فإن كل رجل مررت عليه فكر بنفس الشيء... تبا يا فتاة! أليس لك والد أو أخ غيور؟ كيف سمحوا لك بالخروج هكذا؟ كسر الجمود بعروقها وتحول الى حمم، فاستجمعت قواها تدفعه بكل ما أوتيت به من قوة، تصيح. ¤ نعم لدي والدين ونعم سمحا لي بالخروج هكذا... أتريد معرفة ما قالته ماما؟ ...*أوو ابنتي أنا الفاتنة أنت أجمل من بنات صديقاتي، مُري علي بالنادي لكي يروك ويمتن كمدا وغيظا*... احتد صوتها بآخر حديثها باستهزاء مرير تقلد والدتها بينما هو مصدوم قبالة استرسالها الساخر. ¤ وبابا أخبرني بأن أصدقائه سيرغبون بي لأبنائهم وقال بالحرف ....*أنا فخورة بك يا دميتي الجميلة* .. ما رأيك؟ ¤ لقد أحضرت الوشاح سنبلة، إنه أحمر ككنزتك ....أرجوك عم سمسم لا تقطفها. ابتسم الإتنان بحزن رغما عنهما لصوت الصغيرة الخائف بصدق، واقترب منها سمير ليتسلم منها الوشاح ثم التف حول شاهي من وراء ظهرها ليغطيها به هامسا بهدوء. ¤ حجر الماس يطمع به الجميع بجشع من أجل المال، ولا يستحقه سوى من يقدره ويعتني به جيدا. قشعريرة أصابتها على طول جسدها، تجهل سببها تحديدا أهو قربه أم همسه أم كلماته التي عرفت طريقها رأسا إلى قلبها. أمسك بكف أمل يبتسم لها بطفولية والصغيرة لم تنس سحب كف شاهي إلى الورشة، حيث علمها كيف تزين الفناجين يعاملها كالصغار برقة تحررت لها دقات قلبها ولسان حالها يردد مغيظا عقلها ومتحدا مع قلبها... أنا أحب. **** عادت ورد من الجمعية حيث شرحت لهن ملابسات القضية وبأنها لا تطلب منهن إعادتها إلى المنصب السابق، فهي تكتفي بالعضوية لتمارس نفس المهام وبعد أن تحملت تكبرهن و مواساتهن المزيفة انفردت بناديا لتشرح لها البرنامج الذي كانت تتبعه لأنشطة الجمعية ثم عادت إلى المدرسة، ولأنها مبكرة انتظرت بسيارتها... رن هاتفها يومض باسم والدها، فضمت شفتيها بحنق تدرك ما يريده وفتحت الخط تسمعه نبرته الحانية. ¤ ورد حبيبتي، كيف حالك؟ ¤ بخير أبي وأنت؟ ¤ بخير ما دمت أنت بخير. رق قلبها لأبيها ونبرة الحب بصوته تصغي لاستدراكه. ¤ هل ستأتين للحفل بنيتي؟ حاولت مناقشته بوهن، تقول. ¤ أبي لقد أقسمت بأن لا أقصد حفلا بعد تلك الليلة التي قضيتها بالسجن ...ثم لست بمزاج لمواجهة نظرات الشك و الاتهام. جاءها رد والدها ساخرا. ¤وكأنك تهتمين حبيبتي، أنا أعرفك جيدا ..يجب أن تذهبي هذه المرة فقط من أجلي.. الحفل من تنظيم عائلة محترمة وسيكون هادئا، فأنا أيضا المرة الماضية كنت مرغما على الحضور... لكن هذه العائلة أنا أعرفهم. سألته بريبة تسللت إليها من نبرة صوته الغامضة. ¤ لماذا أبي؟ ما المهم هذه المرة؟ ¤ سآتي الليلة لنتحدث. أجابته بتردد. ¤ هل نسيت مريم؟ ¤الجميع يعلم بأنني صديق والدك، سنتحدث بالصالون. ردت بينما تلمح مريم قادمة. ¤حاضر أبي سأنتظرك إن شاء الله. أنهت المكالمة عندما دخلت مريم مبتسمة إلى سيارتها، سلمت عليها تسألها عن وجهتهما فردت ورد بغموض. ¤زيارة تأخرت كثيرا عن موعدها وحان وقتها اليوم . رمقتها مريم بفضول، فلم تجبها و عندما يئست من ردها إلتفتت إلى الطريق ولاحظت بأنهما تسلكان طريق الجهة الأخرى من المدينة ولو لم تكن باعت شقتها لاعتقدت أنهما ذاهبتان إليها. دخلت بسيارتها أحد الأحياء البسيطة وتوقفت أمام بناية تخبر صديقتها ببسمة متحمسة. ¤ هنا يقطن العم سعيد، تعرفينه حارس المدرسة؟ أومأت مريم بنعم وظلت تنظر إليها بمعنى ماذا نفعل هنا؟ فأكملت تفسر لها. ¤ أعرف العم سعيد وزوجته منذ أربع سنوات ...لديه ثلاث فتيات الكبرى منهن ستدخل الجامعة مطلع العام المقبل وأنا أشعر بأنها مسؤولة مني لذا يجب أن نناقش اختياراتها وتعلم أن لها أخت تعتمد عليها . ضحكت مريم بخفة، تعقب بإعجاب. ¤ هل هناك أحدا لستِ مسؤولة عنه؟ أجابتها بحنق. ¤ أنصحك بالابتعاد عن سهى، لأنها تؤثر عليك بطرافتها. دقت ورد جرس البيت بينما مريم تبتسم بمرح زادها تألقا وبهجة ...رنة واحدة وفتحت لهم فتاة صغيرة نحيفة بعوينات كبيرة بزجاج سميك، شعرها بني مجموع بديل حصان، إبتسمت حين رأت ورد وقبلتها الأخيرة بحرارة ثم عرفتها إلى مريم. خرجت إليهن والدتها سيدة من المطبخ، سلمت عليهما بترحاب وأدخلتهما إلى الصالة وما هي إلا لحظات حتى انضمت إليهم سلوى الابنة الوسطى ...سلمت عليهن و جلست معهن. لاحظت ورد توتر الجو إذ أن سيدة وابنتيها تتبادلان النظرات، فسألت بتوجس. ¤أين فاتن؟ تلكأت سيدة بالرد، فهتفت الصغيرة ببراءة. ¤ لا تريد الزواج وأبي مصر. ¤ اخرسي مروة واذهبي لغرفتك! زجرت سلوى شقيقتها الصغرى، فأشارت لها ورد تعاتبها ثم سحبت مروة تربت على رأسها بلطف تطلب منها جلب فاتن. دخلت عليهن فتاة بالثامنة عشر من عمرها، متوسطة الطول، رشيقة هادئة الملامح عينين زيتونيتين بوجه على شكل قلب صغير ككل تقاسيمه و شعر طويل إلى منتصف ظهرها، بني مائل لسواد ...صافحت ورد ثم مريم و أفسحت لها ورد لتجلس بجانبها ...ربتت على ظهرها تخاطبها. ¤ هل ستخبرينني بالذي يحدث؟ تجمعت الدموع بعينيها، تجيب بخفوت حزين. ¤ أبي يريد تزويجي ....تصوري يا ورد، بعد كل المجهود الذي قمت به بالدراسة، يضيع كل شيء وأنتهي بالزواج. ¤من قال بأنها النهاية؟ أنا قلت تزوجي وليس موتي! إلتفتت العيون إلى العم سعيد الذي دخل إلى الصالون على إثر أصواتهن، فأحنت فاتن رأسها محرجة. توجه العم سعيد إلى الكرسي قبالة ورد يقعد عليه مصغيا لحديثها. ¤ يا عم سعيد، لماذا تريد تزويج فاتن الآن؟ ما تزال صغيرة ...ألم نتفق على أن تكمل دراستها وتعمل؟ أجابها بحزم رغم هدوء نبرته. ¤ يا بنتي لا ضير إن حضرت قسمتها أن تتزوج، فكل فتاة مصيرها إلى الزواج. إستغربت ورد من تغير رأي العم وإصراره، فشعرت بوجوب الحذر حتى تعلم السر دون أن تشعره بأنها تريد فرض رأيها. ¤ يا عمي هل تستطيع إجبار فاتن حبيبتك المدللة على شيء لا تريده ...خصوصا الزواج؟ لانت ملامحه ثم نظر إلى وجه فاتن الباكي، يجيب بضيق. ¤ الصراحة يا بنتي الرجل لا يرفض ...أنت تعرفينه إنه الأستاذ طه فاروق. ضمت ورد فمها قليلا بتفكير بينما العم يكمل بحزم معبرا عن قناعته. ¤ لا أظن بأنه سيرفض دراستها وحتى إن فعل، فلتحمد ربها أن شخصا مثله أعجب بها ويريدها زوجة له. انتحبت فاتن تحاول كتم شهقاتها، فسحبتها أمها إلى حضنها. قامت ورد تطلب من العم سعيد. ¤ عم سعيد أريد التحدث معك على انفراد لو سمحت. نهض وأشار لها لتتقدمه وتوجها إلى الشرفة الصغيرة المطلة على الشارع، جلسا على كرسيين متقابلان، فسبقت ورد بقولها. ¤ إسمعنني عمي و حاول أن تفهمني ....منذ أن ذكر الزواج وأنا رافضة بالمطلق لأن فاتن مازالت صغيرة يجب أن تنضج وتكمل دراستها وخصوصا أنني وعدتك بالتكفل بدراستها. هم بالرد لكنها أشارت بيدها تستدرك. ¤لكن عند ذكرك لإسم الأستاذ طه، أعدت التفكير بكل الأمر. سكن العم سعيد عند هذه الجملة وفضل السكوت حتى تكمل كلامها. ¤ الأستاذ طه فاروق من أشد الناس إحتراما الذين عرفتهم بحياتي ....وبصراحة أعتقد بأنه مناسب جدا لفاتن بل هو من سيحتويها ويحقق كل أحلامها... لكن! إنطفأت الإبتسامة التي ملأت وجهه حين صادقت على قراره، يستفسر بتوجس. ¤لكن ماذا يا بنتي؟ أنت قلت بنفسك محترم و مقتدر و صعب جدا أن تجد مثل هذه الصفتين برجل واحد. تحدثت ورد تحاول اختيار الكلمات المناسبة. ¤ يا عمي تكون الأرض منبسطة وجاهزة للبناء والتصميم أيضا من رسم أفضل المهندسين لكن إن بدأ البناء على خطأ وقع مع أول هزة أو حتى دون هزة. فغر العم فمه بغباء يستشعر حكمة ما. ¤ ماذا تقصدين لم أفهمك؟ ¤ ما أقصده يا عمي أن الطريقة التي تفرض بها الموضوع على فاتن يجعلها تتمرد وترفضه مع أنه مناسب لها ....لماذا تحسسها بالنقصان يا عم؟ هتف العم باستنكار. ¤ أنا؟ متى؟ فاتن ابنتي ليس ناقصة أبدا. ردت عليه بجدية. ¤إذن لماذا تخبرها بأن تحمد ربها لأن رجلا مثل الأستاذ طه فكر بها؟ لاحظت جموده حين علم أخيرا خطأه، تكمل بلوم. ¤ فاتن الآن على أعتاب النضوج، يعني الشباب بكل كبريائه و عنفوانه وأمانيه، فعندما تأمرها بالتخلي عن كل أحلامها من أجل رجل تَفضّل عليها بالزواج وهي حتى لا ترقى إلى مستواه، فمن الطبيعي أن تتمرد وستكره هذا الرجل حتى وإن كان ملاكا هل تفهمني يا عمي؟ . أومأ بتفهم ثم سألها بنبرة رجاء. ¤ماذا أفعل يا بنتي، فأنا بالفعل لا أريد رد الأستاذ لكن أيضا أحب ابنتي ولا أريد خسارتها. إبتسمت برضا تجيبه. ¤ سنجعلها هي توافق عليه. تطلع إليها بأمل، تضيف. ¤ تخرج الآن واثقا تخبرها بأنك ستشترط على طه متابعة دراستها ثم تطلب منها أن تقابله و تحكم عليه بعقلها الراجح الذي تثق به ....واترك علي الباقي ولن يكون إلا ما يريده الله. وافق على طلبها ونفذه بالحرف وزاد يقينا بصحة قراره ما إن رأى تبدل ملامح فاتن من الكآبة إلى السرور واتفقا على لقاء فاتن بالأستاذ طه لتحكم عليه ولذلك فكرت ورد أنها يجب أن تقابل طه قبل مقابلته لفاتن، يجب أن تطلعه على الوضع كي يتفهم موقف فاتن و لا تتعقد الأمور. ودعتا العائلة بعد أخذهما الضيافة و شكرت فاتن ورد بحرارة، بعدها توجهتا إلى البيت حيث موضوعا مشابها في انتظارها ولكنها أبدا ليست كفاتن. ***