في غرفة نوم تسبح بفوضى عارمة تتسم بطابع ذكوري بحت بستائر سوداء و طلاء الجدران الرمادي، يتوسطها سرير بشراشف تحمل من الأسود والرمادي على حد سواء، يرقد عليه ليث عاريا سوى من سروال داخلي وبقية الملابس ملقاة على الأرض هنا و هناك. علا رنين المحمول الملقى أيضا على السرير بجانبه، فحاول إطفاءه بينما ملامحه تتكوم بانزعاج ولكن في لحظة استحضر عقله القضية، فرد على مضض. ¤ليث الجندي....من معي؟ جاءه رد هشام الساخر. ¤تشرفنا بك يا سيد ليث يا جندي، لا تزال نائما؟ يا ويلي! أنا على باب البناية انتظرك وأنت تتقلب على سريرك، متى ستجهز نفسك، لقد تأخر الوقت. انقلب ليث على ظهره يجيبه بضيق ولم يفتح عينيه بعد. ¤شششش! يا الله! مذياع مفتوح بعلو صوته، لقد كنت تعبا و مريضا...من دون كلام كثير، هناك مقهى تحت البناية تعرفه جيدا، اشرب شيئا لتهدأ سأجهز في ربع ساعة و أكون عندك، سلام . هز هشام رأسه بيأس من صديقه الصدوق و توجه إلى المقهى ليهدئ أعصابه التي دائما ما يتلفها ليث بلامبالاته، ربع ساعة بالتمام وهذا الأخير يقف أمامه بكامل أناقته التي تُدير رؤوس النساء و الرجال بهيبته و طلته الوسيمة و الصارمة في نفس الوقت. نهض هشام وقبل أن يتمكن من قول شيء خطف ليث مفاتيح السيارة على سطح الطاولة، لأنهما اتفقا سابقا باستقلال سيارة هشام و طبعا لن يقودها إلا هو فهو قائد بالفطرة ولا يحب الانصياع. **** في قصر مهيب بحديقة واسعة مزينة بشتى أنواع الأضواء و بألوان تسر العين، تعبر إليها عبر بوابة كبير مزدوجة عليها أعمدة حادة كالرماح مصطفة و مزينة ببثلاث من الورد كأنها بوابة من القرون الوسطى لأحد قصور الملوك آنذاك...."الحب و الحرب"... فكرت ورد بمرح وهي تعبر الممر المزين بأحجار من يراها يحسبها نوع من الكريستال تحدها من الجانبين مروج خضراء زُينت بجلسات هنا وهناك مصنوعة أيضا من أعمدة حديدية يتناثر عليها الورد و الأضواء،وصلت الباب الداخلي للقصر، فحبست أنفاسها كتشجيع ذاتي. ¤هيا يا ورد، هذه ليست أول مرة تستحملين بها ما لا يعجبك، أنت قوية أنت قوية، اللعنة، ليس أنت! بداية محبطة. ¤مرحبا حلوتي، أ تعلمين كم من الوقت انتظرتك؟ لو لم تؤكد لي أختك مجيئك لما صدقت. اشتد غضب ورد وفي لحظة فكرت بأن ترمي كل شيء وراء ظهرها و تخرج من ذلك المكان، لكن هيهات لن تكون ورد إن فعلت ذلك وستخرج من هنا بمبلغ كبير يشعرها بقيمة ما تعتبره تضحية. أجابته بوجه اكتسحه البرود المعتاد رافقته باشمئزاز لا تخفيه خصوصا عن هذا الشخص الذي مع كل بهاء طلته ببدلة سوداء أنيقة لم تقلل من سماجته شيء. ¤تامر.. أرجوك لا تحسسني بالغرور، وأنت تترك كل حسناوات الحفل و تلاحقني. رد وابتسامة مكر تتعلق بشفتيه، لا يكل من محاولاته السمجة للإطاحة بها لا لسبب فقط لتدخل الصف الطويل لحريمه و يشهد له في وسطه التافه مثله بالدونجوان الذي لا تستعصي عليه امرأة. ¤يحق لك حبيبتي أن تغتري، فأنا لا أرى غيرك فاتنة وسأكون سعيدا إن قبلتِ رفقتي بالحفل. هم بإمساك يدها، فتراجعت خطوة إلى الوراء توقفه بإشارة من يدها، تقول بصرامة محذرة: ¤توقف! أقسم إن لمستني فقط بإصبع من أصابعك لصرخت و جمعت القصر كله بمن فيه حولنا وأنت تعلم بأن القصر الليلة يحوي كبار الجهاز الأمني للمدينة و ستكون فضيحة الموسم في حقك سيد تامر ... وأنا لست ولن أكون حبيبتك فكف عن قولها لأنك كرهتني بها، أما الرفيقة فأنت لن تعجز عن إيجاد بديلة، هناك العديد ممن سيقبلن بكل سرور لن تجده عندي فارحمني و لا تدعني ألمح طيفك باقي السهرة! تركته مصدوما مبهوتا، تفاجئه كل مرة بتصرف أقسى من قبله وكلما اطمئن بأنه وجد طريقا إليها سدّته بالإسمنت في وجهه لكن سرعان ما رجعت إليه ابتسامة المكر و لسان حاله يقول: ¤قريبا يا ورد.... قريبا جدا. *** غير بعيد عنهما في زاوية مظلمة قليلا ضحك هشام بقوله المرح. ¤أووووف! أريت كيف عصفت به؟ أحرجته احراجا محترما. نظر إلى صاحبه الذي انتفخت أوداجه غضبا وبات الأزرق بعينيه مظلما وكأنه ينوي اقتراف جريمة قتل، يعقب من بين أسنانه. ¤ لا أعلم كيف أقنعتني بالبقاء مع هذا الحيوان في مكان واحد دون أن انقض عليه لأنتقم منه. ¤إهدأ ليث، ألم تنسى لحد الآن؟ لقد مر وقت طويل، ثم أنت لم ترى العميد بعد لكي تنصرف ..لماذا تخلي له الساحة؟ هو من يجدر به الحياء حتى من النظر إلى وجهك. ¤حياء؟ تامر و الحياء! أنت تمزح. استنكر ليث بينما يدس كفيه بجيبي سروال بدلته. ¤على العموم يبدو أن الآنسة 'ممنوع اللمس' تنتقم لك منه بالجديد والقديم و القادم أيضا. التفت إليه بتساؤله المتعجب. ¤ 'ممنوع اللمس' ماذا تقصد؟ ارتد رأس هشام بملامحه العابثة يجيبه. ¤لا... لا تخبرني بأنك لا تعرف آنسة ورد الخطاب، إنها رئيسة جمعية "الحنين" وهي أول فتاة تحصل على ذلك المنصب في مثل سنها الصغير، .هذا غير أعمالها الأخرى وهي هنا فقط لجمع الأموال، وصدقني هي بارعة في ذلك جدا . عقب ليث بلا مبالاة وقد هدأ عليه الغضب قليلا. ¤سمعت عن جمعية الحنين و انجازاتها الأخيرة ولم أعتقد بأن رئيستها صغيرة لكن بما أنها تكره ذلك الوغد فإنها تستحق. أجابه هشام بنظرة لاهية من بين ضحكاته العالية. ¤آه نعم فقط بسبب ذلك. التمعت عيناه ببريق لم يلاحظه ليث ثم لاحت ابتسامة مكر على شفتيه بينما يستدرك. ¤أتعلم ماذا سيجعل تامر يغضب بشدة فتنتقم منه شر انتقام. التفت إليه ليث بسرعة يسأله مستغربا ابتسامة صديقه الماكرة. ¤ماذا يا حكيم زمانك؟ رفع حاجبيه مرات عدة يلهو بهما ساخرا بقوله. ¤أن تخطف منه تلك الفتاة، فهو يكاد يموت عليها من صغرها، فعائلتيهما أصدقاء حتى أنني سمعت بأنهم أصبحوا أنسباء، شقيقه حمزه.. تعرفه متزوج من أختها سهى. رد عليه ليث بتهكم. ¤يا إلهي هشام! وأنت تسأل بكل بجاحه عن سبب تأخرنا بالقضية، فأنت الضابط الممتاز استبدلت الشرطة بخدمة شائعات المجتمع المخملي، ماذا تركت للعجائز. تصنع هشام الوجوم بينما يجيبه. ¤أنا بارع بعملي وبشهادة المتميزين، منهم حضرتك لكنني لا أدفن نفسي مثلك فأنا أخالط الناس و أعيش.. ثم إنني أستمع إلى ثرثرات أختي صغيرتي، بل وأستمتع بها أم هل صدقت بأنني هنا من أجل النساء، لا صديقي فأنا أتحمل هذه الحفلات فقط من أجل أن أحيط بها من هذا الجمع "المبارك" رفع كفيه يحدد الكلمة الأخيرة مستهزئا يسترسل. ¤ التي بالمناسبة لا ألمحها منذ دقائق، فهي أصبحت تتهرب مني، تتهمني بإحراجها أمام أصدقائها... أتصدق؟ أنا هشام السّالمي الذي ترتمي الفتيات عليه يحرجها. ضحك بصخب، فرد عليه ليث بهزؤ. ¤اذهب أيها الوسيم القاتل، وابحت عن أختك قبل أن يلتهمها أحد حيتان هذا الحفل وأنا سأبحت عن العميد لأغادر، أرغب بنيل قسط من النوم، فلدينا عمل كثير . ¤سأتركك قليلا، وفكر في عرضي، ستمرح قليلا حتى إن لم تنجح فأنا أشك مع لقبها ذاك، لكن على الأقل سيجن جنونه من مجرد محاولتك. فر بجلده قبل أن يجهز عليه و هما يضحكان من قلبيهما، فكلاهما يحب ويثق بالآخر ليس فقط كأصدقاء و لكن كإخوة يحمي كل واحد منهما ضهر الآخر حتى لو بالدم . *** تركت ورد ذلك السمج تنفضه عن ذاكرتها في تلك اللحظة على الأقل وما إن تراءت لها أختها حتى توجهت إليها رأسا تتألق ببسمة تخبو كلما تعرفت إلى الفتيات حولها ...فتاة بالخصوص بشعر أشقر حريري و جمال صارخ لا تستحِ من إبرازه، فتتساءل مجددا لماذا دواخل الانسان تختلف عن الظواهر و لماذا لا يريد أحدا أن يهون عليها هذه الليلة! حين بلغت مكانهن ماتت البسمة داخلها على غرار ثغرها الذي تجمد على هيئة التبسم حتى أحست بتشنج بالأعصاب المحيطة بالفم. ¤مرحبا حبيبتي، تأخرتِ. رحبت بها سهى بحب بينما تحضنها. ¤لا عزيزتي سهى، فورد وصلت بالمعاد لكن سلفك كما المعتاد من أخرها باستقباله يقدم لها فروض الطاعة. تجمدت الفتيات في انتظار جواب ورد، فهن معتادات على أجوبتها الحارقة وهذه ليست أول مرة خصوصا مع الشقراء الفاتنة. فكرت ورد * آه تريدين تقديم عرض أمام التافهات أمثالك ليصدقن بأنني من حريمه، لا... لن تكون لك أيتها ال ....اه إلهي! يجب أن أخرج من هنا، إنهم يفسدون أخلاقي استغفر الله* لذا ابتسمت بنعومة مزعومة تجيبها بدهاء. ¤شاهي عزيزتي، اشتقت إليك وسمعت بأنك خطبتِ لتامر، هل هذا صحيح؟ سألت تامر عن الشائعة إذا كانت صحيحة، حتى أنني كنت أنوي مخاصمة شقيقتي إن كان الخبر صحيحا و لم تبلغني و هي تعلم مقدار حبي لك و لتامر على حد سواء، صدقا أتمنى أن تسعدا ولا تنسي دعوتي إلى حفل الزفاف....بالأذن حبيباتي أريد شقيقتي، فلقد اشتقت إليها، حمزة يستأثر بها لنفسه و لم أعد أراها . انصرفت ورد تجذب أختها من يدها إلى ركن لوحدهما كي تتنفس الصعداء وتركت شاهي مع صدمة لا تقل عن صدمة الفتيات حولها، ينهلن عليها بالأسئلة و العتاب بينما لسان حالها يقول 'مما صنعت هذه الفتاة' ¤يا إلهي ورد! من أين تأتين بهذه الأفكار؟ لقد تنبأت بكل رد فعل لك وما قلته حبيبتي، لقد تفوقت على نفسك هذه المرة. أجابتها ورد تلهث من الضحك على بلادة شاهي المصدومة. ¤ تعمدت ذلك، فأنت تعلمين الشائعات في هذا الوسط كيف تتحقق وأنا أعلم عن علاقة جمعتهما لم تكتمل، فلعل الله يستجيب لي و يتزوجا ويرحمانني من ظرافتهما. ¤أتمنى مع أنني لا أحبذ معاشرتها لكن من أجلك لا مشكلة. علّقت ورد بتهكم شقي: ¤من أجلي؟ أم لأنه لن يؤثر عليك، فجناحك بقصرهم بعيدا كل البعد عن جناح تامر حتى لن تضطري لرؤيتهم إذا أردت. تجهم وجه سهى تقول بحزن. ¤مع ذلك لم تزوريني و لا مرة واحدة، ألن تخبريني السبب؟ لأنني أعلم يقينا مقدار حبك لي وأكاد أجن لأعلم السبب غير تامر. عبر بؤبؤا عيني ورد بريق خاطف اختفى بسرعة لتعود تلك النظرة الصارمة تجيب بنبرة عادية. ¤أنت تعلمين رأي جيدا بعائلة زوجك و لولا يقيني من أخلاق حمزة، ولو شككت فقط مجرد شك أنه كشقيقه أو والده ما وافقت على زواجك منه ولو على جثتي.. تفاجأت سهى من صراحة ورد هذه المرة، فلطالما علمت موقفها من عائلة المنشاوي، فعَزت ذلك لتامر بسبب تذمرها منه باستمرار لكنها لم تقل رأيها بهذا الوضوح حتى عندما طلب حمزة منها الزواج، كل ما طلبته منها التفكير جيدا، ثم هل قالت كوالده؟ ماذا تقصد؟ ما به عم حلمي؟ ¤ماذا تقصدين ورد؟ ما به .... ¤أنت! ..ما هذا الذي قلته الآن أمام الفتيات؟ كيف تجرأت وألفت هكذا خبر؟ لأول مرة تشكر ورد شاهي بسرها، مرحبة بتدخلها الساخط، كانت ستقترف خطأ شنيعا، تتمنى أن تنس سهى ما سمعته ولا تستفسر منها لاحقا، ستظل تتهرب منها إلى أن تنس، نعم هذا ما ستفعله. التفتت إلى شاهي ترد ببرودها المعتاد. ¤لا تتصنعي السخط شاهي، فأنت تتمنين و أنا فقط أحرك الماء الراكد. وجهت إليها نظرات حارقة مثل عبارتها. ¤وأنت ما شأنك بي ها؟ من أنت لتتدخلي بخصوصياتي؟ ¤خصوصياتك؟ شاهي... سأسلك سؤالا أسأله لنفسي منذ أن وجدتني مضطرة للتعامل معك تلكأت تكمل بجدية. ¤ لماذا بحق الله تكرهينني؟ ...ها! حقا لماذا؟ فأنا و أنت لا وجه مقارنة بيننا حتى في لون الشعر... وأنت تفوقينني بجمالك الصارخ الذي يُرضخ القديس بمحرابه، وأنا لست حتى بنصف جمالك، أنت خريجة علوم سياسية بتقدير ممتاز وأنا الأدب وبتقدير متوسط و قلما كنت أحضر لولا حبي للغة العربية ما استطعت النجاح طوال الثلاث سنوات، عائلتك عريقة و أغنى من عائلتي، فحقا ما هذا الذي يجعلك تكرهينني لهذا الحد؟ صدقيني إنه أمر غير صحي ابدا. أجفلت شاهي من سؤالها للحظة، وسرعان ما استردت نظرة الكره بعينها تجيبها. ¤بلى، أنا أفضل منك بمراحل ولكنني أكرهك، أكرهك من كل قلبي وأحتقرك وأتمنى أن تختفي من الوجود و لا أضطر يوما حتى للمحك بمكان ما. حينها ردت عليها ورد بعزم محاربة لم تصدم من مشاعر عدو مباشر. ¤إذا عزيزتي لن أستطيع و عدك بالاختفاء من الوجود، فهذا بيد الله وحده والحمد الله على ذلك، فعليك الدعوة و التضرع إليه عسى أن يستجيب لك أما بالنسبة لهذه الحفلات فأنا نفسي أحضرها مضطرة ولن أغيب عنها إلا بشرط واحد فقط، إن حققته لي لن تلمحي طرفي أبدا بحفلاتك و اشبعي بها. لاحت ابتسامة نصر على فم شاهي و هي تسألها باستهزاء متصنع: ¤و ما هذا الشرط الذي سيرحمني من طلتك البهية؟ ¤المال... قالتها ورد بجرأة محت بها ابتسامة شاهي تردد وراءها باستغراب. ¤المال... ماذا تقصدين؟ ¤أقصد عملي هنا يا جميلة، هل تعتقدين بأنني أتسكع في الحفلات مثلكن؟ لا ...فأنا هنا من أجل جمع المال للجمعية... فإذا جمعت نفس المبالغ التي أجمعها عادة، سوف أترك لك هذه المهمة و بشرط أن تسلميهم فور جمعهم لسهى. ارتفع رأس شاهي بغرور تؤكد بتصميم. ¤إنها مهمة سهلة و سأجمع أكثر مما تجمعين. ¤سوف نرى، هيا ابدأي الآن و أرني براعتك وكما وعدتك إن فقط نجحت، تركت لك تلك المهمة لكن ما إن ينزل المبلغ عن المألوف ستجدينني بالمرصاد. أسرعت شاهي لكي تحقق نصرها المزعوم غافلة عن ضحكة المكر التي لا تغمر صدر ورد إلا إذا عزمت على تغيير حياة أحد وهذا الأحد هذه المرة هي شاهي، فهل ستنجح بقتل ذلك الكره و الحقد بقلبها لتملأه بنور الحب؟ وهناك في ركن قصي تختفي عينين زرقاوين لم تغفل عن تلك الضحكة والنظرة الماكرة. *** بعدما أوكلت ورد مهمتها لشاهي قررت الهروب لإحدى الشرفات و الاختباء هناك إلى حين وقت ذهابها وقد تخلصت من أختها أيضا و الفضل لزوجها الذي خطفها و غادرا. ¤بنيتي كيف حالك؟ اشتقت إليك. التفتت جانبا تتساءل باستغراب ثم قلق. ¤ أأ .... أنت... ماذا تفعل هنا؟ أرجوك اذهب! سنلتقي لاحقا. تقدم نحوها الرجل الخمسيني، يربت على ظهرها بحنو وهي ترمقه بنظرات حب صافية: ¤لا تخافي ورد، لن يرانا أحد، آسف حبيبتي، فلقد انشغلت مؤخرا ولم أستطع التسحب لملاقاتك. حسنا من يرى وجه ورد الآن لن يصدق بأنها نفس الفتاة، أصبح وجهها حنونا مع لمحة قلق وهي تنظر لهذا الرجل ببدلته الأنيقة الزرقاء، يتمتع بلياقة بدنية عالية بعضلاته المفتولة ولا يدل على سنه سوى بعض الخصلات البيضاء التي تخللت شعره الأسود، المحيط بوجهه الأبيض وعينان سوداوين بنظرتهما الثاقبة وملامح صارمة لا تلين إلا لهذه الفتاة... ورد. ¤أرجوك سيادة العميد اذهب، فالقصر كله ملغم بالفضوليين وأنا لن أتحمل أكثر وسأرتمي بين أحضانك، اشتقت إليك كثيرا . ضحك مجيبا بينما يحتفظ بيديه بعيدا عنها. ¤أنت محقة، أتيت فقط لأخبرك بأنك جميلة كعادتك وأنني فخور بك صغيرتي و سآتي قريبا لأراك إن شاء الله. قالها وانصرف أمام نظراتها الرقيقة تستنشق هواء الشرفة النقي وبعد لحظات من الهدوء، علا رنين هاتفها ما إن أجابت واستمعت قليلا حتى تغضن وجهها وأضحت ملامحها لا تفسر. منذ أن تركه صديقه و هو يدعي أنه منزو كعادته في الحفلات، يتطلع هنا وهناك حتى يلمح العميد و يأتيه الإفراج لكن عينيه لم تكن ترصد سوى تلك ال "ممنوع اللمس" كلما شرد انتباهه عن البحت خانته عيناه تفر نحوها، يجهل السبب، فتلك الفاتنة التي بدت له تكرهها أكثر منها جمالا و رشيقة كعارضات الأزياء و الأخرى جسمها مملوء بعض الشيء بالأماكن المناسبة حتى أن ذلك التوب المفروض به محتشم يظهرها ك... أين لمح تلك الهيئة؟ آه نعم، ذلك الإعلان السخيف لأحد المسلسلات التركية للعهد العثماني. إنها تملك المنحنيات ال ماذا؟ توقف يتساءل باستعجاب. *بماذا أهذي؟ سامحك الله يا هشام، أنا أفكر في المنحنيات، سيتدهور القسم على أيدينا ونحوله لمرتع ليلي* .... لمحها تتسلل نحو إحدى الشرفات، كان يهم بالذهاب وراءها حين قاطعه صوت من أكره الأصوات إليه. ¤ليث الجندي بجلالة قدره هنا، يا لحظي الرائع لأراك، فلقد اشتقت إليك كثيرا يا صديقي. اسود وجه ليث الوسيم واعتلت ملامحه مزيجا من الاشمئزاز و الألم و الكره، يجيبه بنفور. ¤أما أنا فالموت أحب إلي من رؤيتك، لو كنت مكانك لتفاديتني إلى أن أذهب أو ستظهر غدا على صفحات كبرى جرائد المدينة ولن تكون وسيما أبدا. أجابه تامر بجمود، فلقد كان ليث من أصدقائه المقربين أو هذا ما اعتقده هذا الأخير لكن كما العادة الطبع غالبا ما يغلب و تامر غلبثه حقارته و خان أقرب أصدقائه. ¤تؤ تؤ تؤ.. اهدأ صديقي، أنت شرطي و يجب أن تحافظ دائما على أعصابك. رماه بنظرة محتقرة عليه بينما يهم بالمغادرة، فإن بقي لدقيقة أخرى لا يضمن نفسه. ¤ابتعد عني وابحث لك عن صديق آخر واحرص على أن يكون متزوجا من فاتنة لتستمتع بخيانتك له، فأنا كما ترى لم يعد لدي زوجة!..... وغد حقير. وأسرع من أمامه باتجاه الشرفة و هو يتمتم 'سأنتقم منك يوما ما لا أعلم كيف؟ لكن سأنتقم و سأجعل منك عبرة للخونة'. ¤على رسلك يا ولد، ما بك مسرع هكذا كالقطار؟ و لماذا تحدث نفسك؟ هل جننت أخيرا من كثرة القضايا؟ تغيرت ملامح ليث في لحظة وهو يكاد يصطدم بالعميد مصطفى الشهدي، فأصبح الاحترام هو ما يكتسحه الآن. .. الاحترام الخالص لهذا الرجل المهيب ذي المكانة الكبيرة، ليس في قلبه فقط و لكن في قلوب كل من حظي بشرف العمل معه، ففضله على كثير من عناصر الأمن بمختلف رتبهم و هو واحد منهم إلى جانب بطولاته التي حققها في سبيل الوطن الذي من أجله أفنى كل حياته، فلم يعرف له أحدا عائلة ولا أولاد و لكن هذا أفضل له، فما فعله من أجل وطنه أكسبه أعداء إذا وجدو له نقطة ضعف واحدة لن يتوانوا عن الضغط بها عليه . ¤احترامي سيدي، أنا آسف، كنت أنوي الذهاب للشرفة لاستنشاق هواء نقي ....لقد كنت أبحث عنك سيدي لأراك قبل أن أغادر، فأنت خير من يعلم بضغط العمل. قاطعه العميد و هو يتأمل هذا الشاب بنظرات أبوية، يكن له محبة كابن له وقد كان مدربه لمدة طويلة، عاشره فيها و علم عن معدنه الأصيل حتى في تلك المحنة التي كادت أن تدمره لولا رب العالمين هداه إلى طريقة ناجحة أخرجه بها من الاكتئاب الذي كاد أن يودي بعمله. ¤استرخي ليث، نحن في حفلة، ثم لماذا أنت مسرع هكذا للمغادرة؟ عش حياتك بني، أنت ما زلت شابا، لا تضيع حياتك هباء، فمن الممكن أن تنجح بحياتك العملية و الشخصية على حد سواء، لا تفضل إحداهما على الأخرى.. اسمع مني فأنا أعلم، صدقني ستندم حين لا ينفع الندم وتذكر دائما أن الناس ليسوا سواء، هم كالحجارة منها الكريمة والنقية واللامعة و طبعا التي لا تليق إلا للزف بها وهي كثيرة على الأرض ..أما الكريمة فتحتاج للتنقيب و البحت للكشف عنها، وما إن تجدها حتى تصبح غنيا إلى الأبد، طبعا إن حافظت عليها هل تفهمني بني؟ أومأ ليث بصمت، مدركا الرسالة المبطنة التي يريد إيصالها له وغالبا ما يعامله هكذا، ينصحه دون أن يجرحه. ربت العميد على كتفه وتركه ليدخل ليث الشرفة، حيث فاجأه صوت قوي هز الشرفة. ¤ما هذا التسيب أسماء؟ لا أصدق بأن الإهمال وصل بك لهذه الدرجة، كم الساعة الأن؟ لماذا الأولاد لم يتعشوا إلى الآن؟ متى كانت هذه الفوضى في الدار؟ أقسم بربي الذي أعبده إن لم يتعشى الأطفال و يأووا إلى أسرتهم وهم شبعانين في خلال ساعة لأحرصن على تشريدك حتى تتركين المدينة بأكملها وأنت تعلمين جيدا بأني أكثر من قادرة على ذلك.. إلا الظلم يا أسماء ...إلا الظلم و خصوصا الأيتام... يا إلهي ما فائدة وجودي هنا وجمع هذه الأموال إن لم تسد جوعهم؟ وليكن بعلمك ساعة و ستجدينني بالدار و إن لم يكونوا في أسرتهم و على وجوههم ابتسامة رضا فلا تلومي إلا نفسك. أقفلت ورد الهاتف وهي تتميز غيضا من بجاحة هذه المرأة، تنفست مرات عدة لتستعيد هدوءها ثم طلبت رقما آخر و ما هي إلا دقائق حتى قالت بهدوء. ¤نعم فاطمة .. ...حسنا جيد جدا، والرضع هل ناموا؟ سأمر بالدار قبل عودتي للبيت، شكرا لك فاطمة، اعتني بنفسك وإياك أن يشك بك أحد، ولا تقلقي سيتغير الحال قريبا إن شاء الله ...سلام. تنفست جيدا وعزمت على أن تجد نائبتها بالرئاسة لتوصيها بمساعدة شاهي بجمع التبرعات و استلامهم منها في آخر الحفلة، فهي يجب أن تذهب للدار، لن يرتاح بالها حتى ترى الصغار شبعانين نائمين بسلام، استدارت تهم بالمشي لكنها توقفت فجأة على مرآى شاب طويل عريض المنكبين ببذلة أو ما يقال عنها 'التكسيدو' أسود بقميص أبيض و ببيونة سوداء مفتوحة مع أول زرين ..شعرت ورد بشيء من الرهبة و الخوف من هيأته الضخمة و ملامحه الصارمة مع أنه وسيم للغاية، شعر أشقر غامق قصير نوعا ما مصفف بعناية عينان زرقاوان وسط رموش شقراء وأنف حاد، فم كبير وذقن مشقوقة ولكن بأثر جرح قديم، لا تدري لم لم تشعر بالخطر كعادتها بجانب الرجال وخصوصا الوسيمين منهم، الذين يعتقدون بأنهم هبة الله للنساء على الأرض. *وما شأني أنا، يجب أن أذهب* فكرت ورد وهي تهم بالفرار، فعاجلها ليث و هو يبتسم من طريقة تدقيقها به كأنها تحاور نفسها وتحاول الوصول لقرار بشأن مخاطبته من عدمها. ¤ذكريني بأن لا أكسب عداوتك أبدا. أدركت ورد بأنه قد سمع حوارها مع أسماء، فردت بجدية. ¤ولماذا تكسب مني شيئا وأنا لا أعرفك من الأصل؟ وعلى العموم إذا لا تريد أن تكسب عداوتي، فابدأ من الآن وأزح نفسك عن طريقي! استجاب لها ليث في الحال وأشار لها إلى الباب بطريقة مسرحية وما إن همت بالخروج حتى تجمدت مكانها تصغي لقوله بنبرة ماكرة. ¤سمعت بأن رئيسة جمعية *الحنين* بارعة بجمع الأموال لكن ما أراه الآن هو العكس تماما، فلقد تراجعتُ عن التبرع بسببك والمبلغ ليس بالهين . لاحت بسمة الانتصار على شفتيه حين لمحها تتجمد مكانها وكانت من سارعت بمحوها و هي تلتفت إليه برَدها البارد. ¤حين تعلم بأن ما دفع بك لتخشى عداوتي وما يجبرني الآن على مغادرة الحفل بهذه الطريقة هم أولئك الأولاد الذين أعتبر نفسي مسؤولة عنهم و سأحاسب عليهم.. .. فإنك يا سيدي ستتبرع و بالك مطمئن على تلك الأموال، متأكد بأنها ستصل إلى مكانها الصحيح لكن لا تنس أيضا، بأن حياتهم لا تتوقف عليك أو على أموال أحد، فالله هو الرزاق ورزقهم سيصلهم بكم أو بدونكم، فما نحن إلا مجرد أسباب...عمت مساء سيدي، إذا أردت التبرع فأنت تعلم أين تفعل ذلك؟ و أنا متأكدة من كونه مبلغا كبيرا. انصرفت متلافية تمثالا جامدا ما إن غابت عن أنظاره نطق بخفوت. ¤تبا! إنها بارعة جدا، لن تكون سهلة أبدا لكن لا ضير من المحاولة . أسرع في أثرها يراقبها وهي تتحدث مع فتاة ما ثم قام بتبرعه الذي لم يكن هينا وعندما لمحها خارجة تبعها ليستقل سيارته و قادها يلحق بسيارتها الصغيرة بينما يضحك بمرح على ذوقها بالسيارات. ركن سيارته بعيدا عنها يتابع خطواتها نحو بناية كبيرة تعود للدار، انتظرها لنصف ساعة كاملة حتى يئس من خروجها وفجأة لمحها خارجة من الدار بوجه شاحب و كأنها مريضة، ماذا حدث يا ترى؟ شغل السيارة وتبعها إلى أن وصلت إلى حي راق ثم استدارت نحو أحد المنازل به، أوقفت سيارتها عند البوابة وما هي إلا لحظة و فتحت البوابة من طرف شاب صغير في العشرين من عمره على الأكثر، تحدثت معه قليلا ثم دخلت. علم ليث بأن هذا بيتها وما إن استدار إلى سيارته حتى علا رنين هاتفه، تطلع بشاشته فشتم في سره، لقد نسي صديقه تماما، تم ابتسم يفكر بأنه يستحق، ألم تكن فكرته؟ فليتحمل! أدار هاتفه على الصامت وعاد إلى منزله رأسا للنوم. وهناك في الشارع أمام القصر يهمس هشام لهاتفه بنزق. ¤اللعنة ليث! أين أنت؟ السيارة ليست هنا يعني أنه ذهب للنوم، لا فائدة ترجى منك... ماذا سأفعل الآن؟ حتى شقيقتي تكفل عمي بإيصالها سأطلب سيارة أجرة و أمري لله. **** استلقت ورد بتعب فوق سريرها، تحس ببوادر التهاب اللوزتين، فصراخها اليوم فاق كل الحدود بالإضافة إلى برودة الجو ...خروجها لتلك الشرفة كانت فكرة خاطئة، فكرت ورد تردف بلسانها. ¤الحمد لله، على الأقل الأولاد بخير... سأستعجل بقضية التحقيق، يجب أن يستبدل طاقم الإدارة بأسرع وقت.. وكانت تلك آخر عبارة نطقت بها قبل أن تغط في نوم عميق بسبب الدواء الذي تجرعته. *** دقات متتالية على باب غرفة ليث أيقظته من نومه العميق، طالع الساعة المشيرة إلى السابعة صباحا تعلمه بموعد قيامه، فصاح بعد دقات أخرى. ¤أدخلي خالة سعاد، أنا مستيقظ. دخلت امرأة بأواسط الخمسين، بسيطة الملبس ممتلئة الجسم، حنونة الملامح، ما إن لمحت حالة الغرفة حتى اشمأزت تلومه بقولها الحاني. ¤ ما هذه الفوضى يا ولد؟ كلما غبت يومين أجد الشقة مقلوبة على رأسها، أنا لا أعلم إذا مت ماذا ستفعل من دوني وأنت تكره الخادمات و لا تريد الزواج؟ تصنع ليث العبوس بينما يغادر السرير بثياب عادية، سروال وكنزة ارتداهما على غير عادته حين يعلم بأنه وحيد ولن تأتي الخالة. قبّل رأسها من فوق قماش حجابها، معقبا بصدق. ¤ لا حرمني الله منك يا خالة، وما ولد هذه؟ احترميني قليلا أنا ضابط ممتاز وقد تجاوزت الثلاثين منذ أربعة سنوات مضت. بدأت الخالة سعاد بالتقاط الملابس من الأرض بينما تجيبه بتبرم. ¤ في الثلاثين... في السبعين ستبقى دائما ولدي الصغير الحبيب، أول من حضنته بين يدي و كبر أمامي و عايشت كل مراحل حياته حتى الغريبة منها. كان قد التقط المنشفة وفتح باب خزانته يستل بعض الملابس وهو يجيبها بمزاح. ¤آه لو تسمعك أمي، سيحمر وجهها و تثور ثائرتها ....أنا لا زلت لا أصدق كيف تركت لك مسؤولية تربيتي مع كل كبريائها الأرستقراطي؟ ضحكت بخجل مرح تجيبه بملامح ماكرة. ¤ الفضل بعد الله يعود لجديك. تفاجأ ليث يتساءل بحيرة بينما يقف حاملا الملابس والمنشفة. ¤جدتي؟ لا أصدق، فهي أحلى من السكر وحنونة جدا ولم أرها يوما تعامل أمي بحزم، أما جدي نعم اصدقك. انتقلت لترتيب السرير وهي تعقب. ¤ جدتك امرأة طيبة وتستحمل أمك لكن حين يتعلق الأمر بحفيديها الوحيدين، الأمر يختلف، وتجيد تحريك خيوطها من بعيد. ثم استقامت تكمل بأسى ورجاء. ¤متى ستعود إلى القصر؟ إنه مظلم بغيابك بني، أنت تركته من أجل تلك التي أرفض ذكر اسمها، والآن هي خارج حياتك، وعدتنا بأنك ستبتعد قليلا وتعود، لكنك تأخرت والجميع ينتظرونك.. أرى الانتظار في عيونهم كلما ذكِر أسمك بني . انبثق الأسى على وجهه و الألم يعتصر أحشائه، يجيبها بينما يهم بترك الغرفة. ¤قريبا... قريبا جدا خالة سعاد. همت بقول شيء إلا أن رنين الهاتف حال دون ذلك لتعود الى أشغالها وهي تدعو له بالهداية بينما ليث يعود ليلتقط الهاتف من على المنضدة المنخفضة. ¤صباح الخير سيدي، هناك إخبارية مؤكدة عن مخزن به كمية كبيرة من المخدرات ومن نفس النوع الذي نحن بصدد التحقيق حوله. برقت مقلتاه بزرقة قاتمة وهو يجيبه بحزم. ¤ أحضر إذن بالتفتيش ستجده جاهزا عند الوكيل و سألقاك بالعنوان، امليه علي! أملاه عليه وليته لم يفعل. ¤ماذا؟ هل أنت متأكد؟ أصغى لرد محدثه و صدغيه يتصلبان بجمود رهيب ثم حذره بحزم. ¤ لاقيني أمام العنوان، إياك و الدخول قبل أن آتِ، هل فهمت؟ سلام. **** في منزل ورد استيقظت السيدة عائشة كعادتها قبل الفجر تصلي ركعات حتى يؤذن الفجر، فتمر بحجرة ابنتها لتوقظها وتطمئن عليها. لاحظت عليها أثر المرض رغم تحاملها لهذا ما إن عادت إلى النوم أخذت والدتها هاتفها لتنام براحة. ¤السلام عليكم أمي، كيف أصبحت؟ خاطب محمود والدته بعد أن أغلق البوابة الداخلية وقد لمحها تحتل إحدى أرائك غرفة الجلوس المفتوحة على بهو الاستقبال، يستدرك بحيرة. ¤ وجدت البوابة الخارجية مفتوحة و لم يكن هناك لا زيد ولا كرم... أين هما؟ لا يجوز ترك البوابة هكذا. قبّل محمود رأس أمه التي تعجبت هي الأخرى، تجيبه. ¤عليكم السلام بني، ظننت بأن زيدا هناك أما كرم فهو في إجازة مع زوجته وسيعودان غدا إن شاء الله...غريب حقا! أين ذهب زيد دون إذن؟ هل أنت متأكد بأنه ليس في الحديقة؟ كان محمود سيجيبها لولا رنين جرس البيت، فعاد ليفتح عسى أن يكون زيد قد عاد من مشوار ما. جذب البوابة الخارجية ليقابله مجموعة من الرجال بزي الشرطة يحملون السلاح أمام ناقلتين خاصتين بشرطة التدخل السريع ورجلين بملابس مدنية يبدوان أعلى منهم رتبة. تقدم الأشقر يقول أمام وجه محمود المدهوش. ¤السلام عليكم، هل هذا منزل ورد الخطاب؟ ¤أجل وأنا أخوها، ماذا هناك؟ مد ليث بيده لمحمود يصافحه فبادله هذا الأخير المصافحة بينما يوجه له نظرات مرتابة وقلقة. ¤ أتتنا إخبارية بوجود مخزن للمخدرات بقبو المنزل الخاص بالآنسة ورد الخطاب، ولقد صدر إذن بتفتيش المنزل ونحن هنا لتنفيذه، نرجو أن تساعدونا لتمر العملية بسلاسة وهدوء. تجمد محمود مصدوما وشُل تفكيره تماما، فلم يستوعب كلمة مما قيل له. شعر به ليث، فطلب منه مرافقته داخل المنزل ولم يختلف شعور والدته وهي ترى رجال الشرطة يستبيحون منزلها، يفتشون بكل زاوية. طالبث ابنها بتفسير، فتهرب منها محمود بكلمات مهدئة يدعو الله أن يمر الوقت بسرعة و لا يجدوا أي شيء. *** تململت ورد بفراشها تشعر بجسدها ثقيلا و كأن جبلا يجثم عليه، أحست بحركة بالبيت غير عادية وضجيج مكتوم دفع بها لتغادر سريرها بتثاقل وإعياء تلملم شعرها بشكل فوضوي. خرجت من غرفتها تلتقط الأصوات المكتومة بشكل أوضح حتى فغرت فمها وهي تشاهد عناصر الشرطة منتشرة بين أرجاء بيتها و كأنهم يبحثون عن شيء ما وكل ما شغل تفكيرها في تلك اللحظة أمها، فهمّت بالبحث عنها حين سمعت صوتها و صوت أخيها لتتوجه رأسا نحو البهو . ما هذه الورطة؟ ..فكر ليث أمام المرأة الوقورة تبدو له فزعة، مرتبكة بوقفتها ترتعش وابنها يحاول احتواءها وهو نفسه خائف بالرغم مما يظهره خلاف ذلك... .قطع عليه أفكاره صوت يعلمه جيدا كان قد سمعه بالأمس القريب. ¤ماذا يحدث هنا؟ لم يكن يتوقع و لا بأحلامه أنه سيفارقها بمنتصف الليل ليصبح عليها اليوم التالي مباشرة. ابتسم يهزأ و يفكر ساخرا * إفرح يا هشام، فها هو القدر وضعها بطريقنا، لكن يا ترى هل بالخير أو بالشر؟ سآسف كثيرا بوضع هذه الآنسة بمنامتها الوردية وتسريحتها الطفولية خلف القضبان.. ومع حمرة النوم العالقة بخديها تبدو كطفلة صغيرة، لولا تلك النظرة السوداء على صفحة عينيها لا تتغير حتى وهي مستيقظة من النوم لتو...* قطب ليث يشعر بقبضة تلم بصدره من مجرد التفكير بأن لها علاقة بمن يبحثون عنه ثم تصنع اللامبالاة يفكر بأنها كغيرها إن اتضح بأنها مذنبة، ستلقى جزاءها مثل من قبلها ولم يكمل فكرته تلك حتى سمع الضابط ياسين يلهث من هول ما سيقوله، فاستعد ليث لخبر لن يعجبه البثة. ¤ سيدي، القبو مليء بالمخدرات! نفس الكمية التي كنا نتابعها مند دخولها أرض الوطن ونفس النوعية أيضا. ساد الجمود يكتسح الجميع حتى عناصر الشرطة صمتوا فجأة وكأنهم هم أيضا صدموا، لم يكسر هذا الجمود إلا سؤال السيدة عائشة بنبرة باكية وقد بدأت تستشعر الخطر يحوم حول صغارها. ¤ هل يستطيع أحدكم إخباري بما يحدث؟ تدارك ليث نفسه من المفاجأة ونظر مباشرة نحو عيني ورد التي بادلته النظرة ببرود وكأن الأمر لا يخصها، فتقلد شخصية الضابط يخاطبها بحزم وجدية. ¤ ورد الخطاب، أتتنا إخبارية عن وجود مخدرات هنا بالقبو وهي نفس المخدرات التي كنا نترصدها منذ مدة حتى كدنا نفقد أثرها لذلك حصلنا على إذن النيابة العامة للتفتيش ولقد ثبت وجودها بقبو منزلك، وعليه ورد الخطاب أنت مقبوض عليك للتحقيق بالأمر. ¤ آآآه! صرخة أليمة شقت صمت البيت من حلق عائشة قبل أن يغمى عليها، يتلقفها محمود فأسرعت ورد تهتف بقلق. ¤سآتِ بالجهاز و الدواء، أظن بأن ضغطها ارتفع. وافقها محمود بينما يحمل والدته إلى أقرب أريكة....عادت سريعا بحقيبة صغيرة سوداء فتحتها وناولتها لمحمود ثم أمسكت بيده توصيه برجاء بالغ. ¤ اعتني بها محمود لا تتركها ولا للحظة أخي، اتصل بسهى إذا اضطررت لتركها لا تشغل بالك بي، فأنا بريئة... اهتم فقط بأمي أرجوك. نظر إليها بغموض لمدة ثم ابتسم بتشجيع يجيبها. ¤ اذهبي عزيزتي و لا تخافي، أعلم بأنك بريئة و هذه مجرد محنة و ستمر على خير، لا تقلقي على أمي سأعتني بها وسأتصل بمحامي العائلة ليلحق بك. رمقته بامتنان ثم دنت من أمها تقبلها قبلة طويلة على وجنتها قبل أن تلتفت إلى الضابط ليث. ¤هل يمكنني تغيير ثيابي؟ أجابها بهزة رأس رافقت كلماته. ¤يمكنك لكن يجب أن آتِ معك، يجب أن أتأكد من عدم وجود منافذ للهروب بعدها سأنتظرك على الباب. لا شيء غير البرود والجمود، لا تعبير يصدر عن وجه هذه الفتاة مع كل ما يحصل، تلك النظرة الصارمة لا تتغير ، *أين رأيت تلك العينين من قبل؟ أين؟* تساءل ليث في نفسه بينما يسير في أثرها. بعد عشر درجات بالضبط أطل عليهما رواق ذو بابين على كل جانب، فتحت ورد الباب الثاني على اليمين ثم أشارت له بيدها ليدخل، فتجاوزها نحو غرفتها يتفقد المخارج، شرفة و نافذة مطلتين على الحديقة الأمامية المملوءة بالشرطة. عاد أدراجه إلى باب الغرفة تم توجه إليها قائلا بنبرة رسمية. ¤ حاولي أن تسرعي يا آنسة فلقد تأخرنا . أغلقت ورد الباب بوجهه دون رد ثم أغمضت عينيها لتانية، ثانيتين، لدقيقة كاملة ..وفتحت عينيها يطل منهما غضب أسود مخيف، ظُلمة حقد غطت صفحتيهما تزفر أنفسا حارة معبرة عما يجيش به صدرها، تدرك جيدا بأن المرحلة القادمة من حياتها لن تكون سهلة أبدا. ولجت الحمام الملحق بغرفتها، أطلقت الماء البارد و تركته يتدفق على سائر جسدها ليطفئ القليل من نار الغضب الذي تشعر به و أيضا حرارة جسدها المرتفعة جراء الحمى، لحظات و لفّت نفسها بمنشفة ثم توجهت نحو الخزانة لتخرج لباس الطوارئ الذي لطالما لبسته بمهماتها الخيرية السرية، عبارة عن حمّالة صدر وسروال داخلي بجيوب صغيرة وسروال جينز بجيوب أيضا داخلية كثيرة. ارتدت الملابس الداخلية أولا ثم توجهت إلى خزنتها تلتقط منها حزمة من المال ذات فئة المئة و المئتين، طوتها جيدا حتي أصبحت صغيرة الحجم تحشو بها الجيوب، فهي على علم بذوي النفوس الضعيفة يمكن شرائها للأسف بالمال و الحجز مليء بهم. هم باحتضان زوجة أخيه التي ارتعبت من جرأته ليقف حمزة بينهما، فيضحك تامر ملئ فيه يعقب بسماجة. ¤ أمزح يا أخي أمزح!.. لماذا لا تتقبلون المزاح أبدا؟ فتح حمزة فمه ليرد عليه بجفاء لكن والدتهما تدخلت تغير دفة الحديث. ¤ تفضلوا أرجوكم شاركوني طعام الفطور. انضمت سهى وزوجها إلى المائدة على مضض وجلس تامر مقابلا لهما ولازالت بسمته المستفزة على شفتيه بينما نارمان على رأس الطاولة تنظر إلى أصغر ولديها، تسأله بحيرة. ¤ لماذا أنت اليوم مستيقظ باكرا؟ ما هذا الشيء المهم الذي تنازلت وضحيت بنومك المقدس من أجله؟ تحدث وهو يشملهم بأنظاره الماكرة. ¤ أمي أنت تظلمينني ...أنا لست مهملا لهذه الدرجة و الدليل أنني ما إن بلغني عبر مكالمة هاتفية خبرا منتشرا على جرائد اليوم، قمت مباشرة وجهزت نفسي لتقديم المساعدة . إلتفتت إليه الرؤوس في لحظة بينما هو يكمل بخبث. ¤ بربك سهى لا تقولي بأنك لم تكوني تعلمين أو أنك أخفيت عن أخي مغامرة شقيقتك القديسة. تفاجأت سهى وشحب وجهها الذي كان محمرا قبل قليل، حمزة يضم يدها يدرك ما يحدث أما والدتهما فتنظر إليهم بريبة وتامر يستدرك بمزاح سمج. ¤ إذن، الزوجة المطيعة أخبرت زوجها ..ممممم.. تدخلت نارمان، تستوضح بريبة. ¤ هل سيخبرني أحدكم ما لذي يجري؟ وحين لم يبدو على سهى أو زوجها أي نية بالتحدث تكلف تامر بتقديم تفسير ساخر. ¤ ولماذا أخبركِ؟ بل سأريك لتري بنفسك. نهض عن مكانه نحو رأس الطاولة الأخرى حيث توضع الجرائد بترتيب منظم، التقط بعضها تحت أنظار الجميع المستغربة ثم عاد ليناول والدته واحدة وأخرى لأخيه وزوجته التي شهقت بفزع ما إن لمحت صورة أختها يعلوه عنوان بالخط العريض "ورد خطاب متهمة في قضية مخدرات". قرّب حمزة كأس الماء من زوجته يعينها على شربه، وقد شرعت دموعها بالنزول، فتعقب نارمان بقلق وأسى. ¤ مستحيل، أنا لا أصدق! هذا افتراء.... ورد لا يمكن أن يكون لها علاقة بالمخدرات. حضن حمزة زوجته المرتعشة يربت على رأسها، يبثها الدعم. ¤ اهدئي حبيبتي، لا تنسي أنك حامل، ورد قوية لن تهزمها هذه الأزمة. تدخل تامر متصنعا الجدية بقوله الغامض. ¤ أنا سأحل هذه المشكلة لا تخافوا. حامت حوله الأنظار بريبة، فاستدرك ممتعضا. ¤ لماذا تنظرون إلي هكذا؟ كل ما سأفعله أنني سأنقذ سمعتها من الوحل ....سأتزوجها ...عندما تصبح حرم المنشاوي لن يستطيع أحدا التحدث بسمعتها و لو بكلمة واحدة. فغرت سهى فمها ببلاهة بينما حمزة يتبسم بفهم ساخر تماما كتلك السخرية التي تلونت بها ضحكة والدتهما وإن اختلف القصد، تعلق وهي تقوم عن المائدة. ¤ نعم حرم المنشاوي و كأن ذلك سيحمي سمعتها. ثم نظرت إلى سهى وحمزة بحنو ودفء تستدرك. ¤ مبارك لكما حبيبي، وأنت سهى إعتني بنفسك حبيبتي ورد بريئة و ستخرج من هذه المحنة حتى أكثر قوة. ثم خرجت من غرفة الطعام يتبعها تامر تحت نظرات أخيه المتسلية، إستغربت سهى تعبير زوجها فأومأت له باستفسار ليجيبها. ¤ أدفع نصف مليون لأسمع جواب أختك على عرض تامر. عبست سهى تعقب باستهجان. ¤شقيقك وقح وأنت تعلم فعلا برد ورد. ضحك حمزة وهو يسحب زوجته ليضمها يخبرها بمكر. ¤ أعلم حبيبتي ...لكن الطريقة التي سترميه بجوابها هذا ما أريد رؤيته حقا. ******