أومأ محمود بتفهم وقد شجعه حديث والدته التي ضمت يده تسأله بفضول : ماذا هناك بني؟ أخبرني. رمقها بتوتر يحرك عويناته بيده، فعلمت أن ما سيقوله أمر جلل فشدت على يده تحثه على التكلم، فقال : ¤ الحقيقة يا أمي، هي جميلة ونور الحياء يزيدها بهاء أما الفقر نعم هي ليست بمثل مستوانا المادي إنما تعمل لتنفق على نفسها ولا تتذلل لأحد. ضيقت عينيها تقول : هناك أمر آخر لأنك تعلم جيدا بأنني لا أهتم بالمال، فهو رزق من رب العالمين يروح كما يجيئ، تحدث محمود و أخبرني، لقد تأخرنا على ورد. أطرق برأسه يجيبها ¤ الفتاة التي اختارها قلبي وعقلي على حد سواء هي صديقة ورد ...فاطمة. فكرت السيد عائشة قليلا ثم سألت : أليست الفتاة من الدار؟ أومأ، فاستطردت: ما مشكلتها؟ فورد تذكرها دوما وهي تقريبا صديقتها الوحيدة قبل تعرفها على مريم ...التقيت بها مرتين، كانت فتاة خلوقة ومؤدبة. ابتسم يزفر براحة يؤكد على قولها ¤أخلاقها وحياءها ما شدني إليها. فاستفسرت بحيرة : إذن لماذا هذه المقدمة؟ ألانها نشأت في الدار؟ لا أحد يملك من مقاديره من شيء، كما قدر تربيتي بكنف عائلة، قدر تربيتها في الدار ولا يحاسب على أقداره جل جلاله. نظر إليها بتركيز ومال نحوها هامسا ¤ يعني أنت على علم بأنها مجهولة النسب؟ شهقت بخفوت وتجمدت تنظر إليه، فتيقن بأنها لم تكن تعلم، صمت هو الآخر وتركها ترتب أفكارها بينما هي تمنح نفسها دقائق تقلب أمرا برأسها ثم تحدثت تفسر له ¤إسمعني بني، هناك أمران في جوفي سأفضي بهما وأنت حر. أولاها تركيزه يطرق سمعه لما ستقوله : ¤أنا كأم أتمنى لك فتاة تتصف بكل الصفات التي ذكرها الرسول عليه الصلاة والسلام ..مع العلم أنه ذكرها إخبارا بما يتزوجون لأجله الناس عادة. تمتم محمود بالصلاة على النبي ثم استرسلت تنظر إليه بحنو ¤و إن لم تكن كل الصفات حاضرة طبعا سأرضى بعديمة الجمال لأن جمال الخلقة من الأساس مجرد مقياس بشري أما الحقيقة فجميع البشر كاملي الخلقة لأنهم من إبداع بديع السموات وحتى إن كانت فقيرة لا بأس فالرزق على الله لكن بشرط الاتصاف بالدين والخلق وما ذكرته بني أضيق منه فقط من أجلك أنت، فأنا لن أكون سعيدة حين يعيبك أحد بها خصوصا بمحيطك وأنت أعلم مني به لكن لا تنتظر مني أن آمرك بعدم الزواج منها لأنني لن أناقض عقيدتي ولن أصلي لله أتلو آياته [ بسم الله الرحمان الرحيم ...: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الزمر]] و عندما أفرغ من الصلاة أُحَمِّلُ الناس أوزار غيرهم، حينها بني سأكون منافقة وأعوذ بالله من النفاق. عقد حاجباه حيرة يستوضح : ¤ ماذا أفعل أمي؟ فأنا أحبها وفي نفس الوقت يهمني رضاك، أما الناس فأنت تعلمين أنهم آخر همي. ابتسمت بدفء تلمس خده قائلة : ¤ إن كان ما يمنعك عنها رضاي حبيبي فأنا دائمة الرضا عنك حتى إن تزوجتها وإن كنت تريد نصيحتي ...استخر الله مرة واثنتين ثم توكل على الله. ...هي حياتك و أنت حر بها ....أما عن أخلاقها فالله شاهد على ما أقوله لا تعاب أبدا و أنت تعلم ورد من تصاحب ..لذلك بني فكر جيدا لأنها إن أصبحت زوجتك حملت مسؤوليتها على عاتقك. هز رأسه مبتسما يقبل رأسها ثم انطلقوا إلى المشفى ***** إشتد الغضب بهشام بينما ينظر إلى جثة رهف معلقة بطرف ثوبها من نافذة الحجز ليظهر كأنه انتحار لكن الجميع يعلم جيدا بأنها جريمة قتل، صاح بصوت هز جدران الحجز حتى انتفضت السجينات والحارسات. ¤من قتلها؟ ...أقسم إن لم تنطقن زدت على قضاياكن الاشتباه بكن بقضية قتل جديدة. اقتربت منه إحدى الحارسات تهمس برهبة ¤ سيدي ولا واحدة ستتكلم، لقد حاولنا وهددنا لأن بكل بساطة من تفعل ذلك ستشنق أيضا. رماها بنظرة حقد حارقة ثم إنصرف ينفث نارا مع أنفاسه الحارة. ****** لمح ياسين أفراد عائلة ليث قادمين تجاه الباب الذي يربض عليه حارسا، فانتفض شيء ما داخل صدره، ابتسم للسيد أحمد الذي سبق الجمع يحييه بينما يفتح الباب ليدخل البقية وكانت إسراء آخر الداخلين وحين همت بتجاوزه مال نحوها قليلا، فاضطرت أن تتلكأ في مشيتها تصغي لجملته المرحة ¤ صباح الخير يا .....إسراء، أرأيتِ؟ لقد علمته. تفاجأت قليلا لكنها تمالكت نفسها وقلبت شفتيها بحنق طفولي ورفعت حاجباها تتأفف متجاهلة إياه بينما تكمل طريقها، فضحك هامسا : مدللة ...لكن جميلة. انقضت السيدة زهرة على ابنها متجاهلة ورد التي ابتسمت تترك لها مساحة لتشبع أمومتها، وسلمت على الباقي، فسألتها الجدة باهتمام : كيف حالك ابنتي؟ ردت عليها بامتنان ¤أنا بخير جدتي ...الحمد لله قدر و لطف. تدخل الجد قائلا بحرج ¤ أنا أتأسف لك ابنتي عن تصرفات زهرة. أجابته بود وصدق ¤ أنا أعذرها جدي ...إبنها كان سيموت أمامها من أجلي وهذا ليس سهلا على أي أم تقبله ..فدعها تنفس عن غضبها وخوفها أعلم بأن قلبها حنون مهما أظهرت العكس. سحبها الجد ليقبل جبينها هامسا وهو يغمز الجدة التي نهرته بإشارة من رأسها ¤الولد حفيدي محظوظ جدا بك. احمرت ورد و أطرقت برأسها فعلت ضحكة الجدين معا والتفت ليث ليتأمل ذلك المشهد الذي أسر قلبه وشعر بقرب تحقيق حلمه معها. اتفقوا على خروج ليث من المشفى يجهزونه لذلك واستأذن السيد يوسف ليحضر بيان هي الأخرى التي قرر لها الطبيب مغادرة المشفى. ****** ترمق انعكاسها بالمرآة تتفحص هندامها قبل الخروج بينما تسند الهاتف بكتفها تهمس بدلال لخطيبها ¤هذا يعني لن أجدك في الدار؟ رد عليها هائما بنبرة صوتها المترققة : كنت أتمنى أن أبدأ نهاري بزرقة البحر لكن يجب أن أرافق أسماء لجلستها، ولأن الدكتور مفيد طلب حضوري لأمر مهم. أجابته و السعادة تشع بها ملامحها ¤ عندما تنهي أشغالك ستجدني هناك، فأنا سأقضي اليوم مع أمل. رد عليها باسما وهو يلمح أسماء قادمة حيث ينتظرها بالردهة ¤ حسنا! وسآخذكما لتختارا أثاث الغرف، اعتني بنفسك ..و أخفض من نبرة صوته، يضيف: أحبك. قطعت الاتصال، فضحك من حياء حبيبته الشرسة وحين وصلا العيادة استقبلتهما السيدة زينب بوجه بشوس أدخل الريبة إلى عقولهم من تصرفها الغير مسبوق حيث أمسكت بكف أسماء وطلبت من سمير الدخول إلى الدكتور مفيد ثم أجلستها وجلبت لها عصير برتقال، تستفسر منها ¤ ماذا فعلت برتيبات زواج شقيقك الأهبل؟ دهشت لاهتمامها المفاجئ، ترد بتوتر ¤ حماته تكفلت بترتيبات الزفاف. مطت شفتاها بتذمر لتعود إلى صورتها المعتادة بينما تعقب وهي تجلس بمقعد قربته إلى أن أصبح قريبا منها قبالتها ¤ إذن بدأت بلعب دور الحماة؟ وكيف تسمحين لها أنت بذلك؟ تكلمت أسماء بحرص وحاجباها مضمومين لبعضهما، تركيزا وتفكيرا :ممم... هي والدة العروس، أليس من حقها ذلك؟ انتفضت حين صاحت زينب باستنكار ¤ ومن سيدفع التكاليف أليس الأهبل أخوك؟ أومأت أسماء بتوجس وحذر، فأكملت زينب وهي تسوي طرف طرحتها البيضاء الواسعة كبياض وزرة عملها ¤ إذن من حقك أنت ترتيب كل شيء ومتابعة أموال شقيقك بماذا تُنفق. ثم عادت ترخي ظهرها على مسند المقعد، تكمل بنزق ¤تلك المرأة سوف تصرف بسفه حتى تتسب للأهبل شقيقك بالإفلاس. حركت رأسها في دوائر وهمية تضيف بنبرة متهكمة ضائقة ¤كنت أظنه الأبله الوحيد بينكما. تسمرت أسماء تتأمل هذه المرأة العجيبة ولحسن حظها خرج سمير من غرفة مكتب الدكتور مفيد مبتهجا لا تسعه الدنيا من سعادته الواضحة وقبل أن يشير لها وقفت تقترب منه مستغربة ما يدور حولها : أدخلي عزيزتي، إنه في انتظارك. تجاوزته لا يفارقها الاستغراب تستشعر وجود خطب ما، تتسلل الريبة مع الشك إلى صدرها فدخلت الغرفة بخطوات متلكئة، لمحت د. مفيد يتأمل السماء الزرقاء عبر نافذته الضخمة ودفعت الباب تواربه كالعادة، فأحدثت صوت التفت على إثره والتقطت تلك النظرة المختلفة من عينيه ، شيء ما قد زاد على ملامح وجهه لا تعلم تحديداً ماهيته وذلك يضاعف من ركض فأر الفضول وسط أحشائها تقدم يلقي عليها التحية ثم دعاها لتجلس بالأريكة التي تفضلها، يقول ببسمته الجانبية ¤ اليوم سأطلب منك شيئا، هل تسمحين لي؟ أومأت بتوتر، فاستطرد ¤ سنتبادل الأدوار، أنا سأتكلم و أنت تنصتين، اتفقنا؟ ردت بشكل تلقائي بدافع من الفضول والرغبة الحارقة لتصغي إليه : تفضل! ¤سأحدثك قليلا عن نفسي، أنا الابن الوحيد بين خمس فتيات والدتي ماتت أثناء ولادتها الأخيرة، فأصبحت المسؤولية على كاهل أبي الذي حملها بكل تفان، حاولت مساعدته أنا وشقيقتي الكبرى بما استطعنا لكوننا ببداية دراستنا في الجامعة، أبي كان موظفا مرموقا بوزارة الصحة، مرض وأخفى عنا مرضه ولم نعلم به سوى بعد وفاته في نفس السنة التي تخرجتُ بها، فوجدت نفسي أمام أربع فتيات صغار بمختلف المستويات الدراسية وواحدة كبرى مخطوبة على عتبة الزواج، ركزت كل قوتي واهتمامي على مهنتي وعملت بمختلف المشافي بالمدينة حتى صنعت لنفسي سمعة طيبة بفضل الله، فذاع صيتي بين الناس حتى تمكنت من تأسيس هذه العيادة والحمد لله الذي أعانني على الوفاء بوعدي لوالداي، أدعو الله أن أكون أحسنت رعاية أمانتهما. ابتسم بحنان أضفى على وسامته الخاصة نورا جذابا خفق له نبضها المستنفر ،تراقبه باهتمام تتابع حديثه المسترسل بهدوء كعادته :وكانت آخر العنقود، سحر من زوجتها قبل ثلاثة أشهر. ابتسمت لابتسامته وقد دمعت عيناها ترى فيه سمير الذي تحمل مسؤوليتها و هو لا يزال صبيا بينما هو يكمل ببعض المرح المختلط بالشجن ¤حين أحسست بأن مسؤوليتي تجاه شقيقاتي خفت، اكتشفت أن عمري قد قرب على نهايته أيضا. عبست لقوله فأسعده ذلك، يستدرك ¤ فكرت بأنني كبرت على الزواج والإنجاب، فاعتبرت أخواتي مع أبنائهن أولادي وقررت أو تماشيت مع شكل حياتي راضيا ...إلى أن ! تلبكت أسماء و دوى قلبها وسط صدرها حتى شعرت بدبيب النمل تحت جلد جسدها بأكمله. ¤ إلى أن قابلت فتاة حركت بي شيئا ظننته لن يحدث أبدا، بشخصيتها الفريدة وشكلها المتميز الذي أعادني إلى زمن كنت فيه مستعدا لأحب وأحب لكن الظروف لم تسمح لي ، فتجرأت و فكرت لم لا أحاول البحث عن سعادتي كما فعلت مع أخواتي. صمت فعلمت أنه ينتظر تدخلها، فتجاهلت ما تشعر به يقصده وقالت ما أوجع قلبها ¤ طبعا من حقك، فأنت إنسان، من حقك الحياة والزواج وحتى الإنجاب ...تستطيع الحصول على أي فتاة تريدها، أرقى العائلات يشرفهم نسبك بأخلاقك وسمعتك المشرفة وسيزوجونك أصغر وأجمل بناتهم. اتسعت ابتسامته لتشمل الجانب الآخر، مجيبا بنظرات ذات معنى ¤ لكن أنا لا أريد فتاة صغيرة، فكما سبق ونوهت أنا اخترت، لهذا أنا أحدثك ....لأنني اخترتك أنت. احمرت و ارتبكت تفرك يديها ببعضهما، فاستطرد يكمل ¤ ما رأيك؟ لقد طلبتك من شقيقك قبل قليل ولا مانع لديه شرط أن توافقي أنت. أطرقت برأسها تنظر إلى حجرها، فقام من مكانه ليجلس بجانبها حيث سمعها تهمس باستفسار حائر ¤ لماذا أنا؟ أجابها بنفس همسها الهادئ ¤ اسمعيني أسماء، أنا طبيب نفسي وأحب المباشرة والوضوح بالحوار، أعلم بأنني حركت مشاعر داخلك كما حدث معي. نظرت إليه فأكمل : وأظن السبب يكمن بمدى تشابهنا مع اختلاف الأسباب والظروف...فكل واحد منا نسي أن يعيش حياته لأسباب مختلفة، فطارت منا السنوات ...فهل سندع الباقي يضيع منا أم نحاول عيش ما فاتنا ويعوض كل واحد منا الآخر؟ كست الحمرة القانية خداها ويداها اللتان احمرتا هما أيضا من شدة الفرك وهمس يحثها بنبرة رقيقة ¤ هل أعتبر صمتك موافقة؟ قامت عن مكانها تفر من أمامه إلى أن وصلت الباب تجيبه مبتسمة : تحدث مع أخي. ثم اختفت ليطلق الدكتور مفيد زفرة راحة حارة طويلة بطول السنوات الطوال السالفة من عمره بينما هي ظلت برفقة زينب حتى اتفق الدكتور مع شقيقها على موعد ليحضر شقيقاته وليتقدم بشكل رسمي.