كانت سعاد تجلس علي سجادة الصلاة ولسانها يلهج بالدعاء و عينيها تجودان بكنوزهما...تلك الكنوز التي هي اغلي من حبات اللؤلؤ ولكن هل هي أغلي من أجزاء قلبها؟؟؟...يا أرحم الراحمين...لقد تفتت أجزاء قلبها و تناثرت في كل أرض..فها هو حمزة...قرة العين و مني النفس...صغيرها المحبب ملقي في جحيم جوانتانامو لا يملكون له ضرا ولا نفعا أما هم فممنوعة له زياراتهم ممنوعة مرافعات محاميهم ممنوعة رسائلهم إليه...ثلاث سنوات كاملة لم يروا ابنهم الذي يكبر بين جدران معتقله و يتربي علي يدي سجانيه.. و ها هو حسام...فرحة أيامها و سندها من بعد الله وسند أبيه قد انقطعت أخباره في حربه علي أرض العراق فمنذ عام لا يعلمون عنه خيرا ولا شرا...و ها هي وحيدتها حبيبة...ريحانتها من الدنيا قد فقدت جنينها للمرة الثالثة في المظاهرات منذ ثلاثة أعوام و هي مهددة بأن تفقد القدرة علي الإنجاب مرة أخري و تدور في دوامات العلاج المتشابكة...حتي ياسمين ابنة أخت زوجها قد فقدت مرحها كوردة ذبلت علي غصنها... راحت سعاد تردد هامسةودموعها تتساقط:: ناصيتي بيدك...ماض فيّ حكمك....عدل فيّ قضاؤك_ثم أخذت تتمتم بدعوات لأبناءها وأبناء أخت زوجها يلهج بها قلبها الملتاع الصبور و الواثق برحمة الرحمن في حجرتها كانت ياسمين شاردة الذهن تماما....تتعدي أفكارها شرفة حجرتها إلي الشارع إلي كل المروج الخضراء إلي صحاري الحدود و مياه المحيطات ثم تعبر جدران السجن و سوط السجان لتهدي السلام علي استحياءللحبيب القابع داخل الجحيم....لكنها سخرت جدا من نفسها....كيف يتعلق قلبها بصبي في الرابعة عشر من عمره؟؟؟ نعم فإنها لا تعلم ما شكل حمزة الآن و كل ما تذكره من ملامحه هي ملامحه حين كان في الرابعة عشر....نعم إنها تعرف أنه اليوم لا شك كبر فهو يكبرها بعام لابد أن عمره الآن قد صار سبعة عشر عاما ولكنها لا تعلم كيف أصبح شكله؟؟؟ كيف كبرت ملامحه؟؟؟ إنها حين تتذكره تتذكر ذلك الصبي الذكي النشيط طيب القلب...تتذكره وهو يركل الكرة إلي عمر و حسام و أحمد زوج أخته و إلي أبيه احيانا في مرح وسرور وحبات العرق تتجمع فوق جبينه وابتسامته الطفولية تملأ وجهه لكن قلبها يخفق رغم شكله الطفولي هذا...ولكن كيف يبدو الآن في أوائل مرحلة شبابه؟؟؟....هل يشبه حسام؟؟؟ أم يشبه خالها حمدي فقد كان قريب الشبه به جدا....أغمضت عينيها تحاول رسم صورة له....آه لو كانت تجيد الرسم؟؟؟؟ لرسمت له آلاف الصور من خيالها لعل قلبها يهدأ قليلا حتي يأذن الله تعالي باللقاء....اللهم اجعل هذا اليوم وشيكا فبركان حبها يتعاظم يوما بعد يوم وهي تحاول إخماده ليس إلا طاعة لله و صبرا جميلا كان حمدي يطوي صفحات كتاب كان يطالعه جالسا علي كرسي بجانب المدفأة حين أحاطت سعاد كتفيه بذراعها من الخلف في حنان....لم يغير حمدي من هيئته وهو يتجاهلها...فهمت هي سبب تجاهله فقبلت رأسه في حنان ثم همست بأذنه:: أنا آسفة حمدي_ومازالت عينيه الغاضبتين في كتابه:: ليس هناك ما يدعو للأسف سعاد_تربت علي شعره في حنان:: بل لابد أن أعتذر عن كل كلمة بدرت مني بالأمس حمدي_و مازال ينظر بكتابه:: لماذا تعتذرين؟؟؟ أنا حقا كما وصفتني بالأمس...نسيت ابناي و تركت مشاكلنا لأحل مشاكل الناس والمرضي....أنا لا أهتم لأبنائى ومنهمك بعملي فقط سعاد_في حنان جارف و تأثر:: لم تكن أبدا كذلك ...حزني العميق هو ما دفعني لهذه الكلمات....رؤيتي لك تحل مشاكل مرضاك و الفقراء و الأيتام برباطة جأش في حين أن ابنينا في محن مختلفة جعلني اندفع واتهمك بأنك لم تعد تلتفت لمشكلة حمزة و لااختفاء حسام حمدي_بقليل من السخرية:: وما الذي غير رأيك بي؟؟ سعاد_بصوت متهدج:: سمعتك قدرا...كنت ترفع ذراعيك للسماء وأنت تظن أننا نمنا جميعا ثم رأيتك تدفن وجهك بين كفيك متمتما::فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَن يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيم الحكيم و رحت في بكاء مرير....كم تمنيت وقتها أن أغمرك بين ذراعيّ ولكنني كنت محرجة جدا من كلامي معك وقت غضبي حمدي_في مرارة ساخرة:: يعني أنك لو لم تتأكدي من صدق حبي لأبنائى و قلقي عليهم لما غيّرتِ فكرتك عني الآن...اثنان وعشرون عاما من الزواج ومازلت لا تفهمين مشاعري؟ سعاد_تجلس علي ركبتيها أمامه علي الأرض واضعة يديها فوق يديه:: حمدي أرجوك...أنا حقا مخطئة و جدا آسفة...أرجوك افهمني...أنا أم ....بالنهاية انا أم...نعم رأيت الكثير من المآسي في صغري...نعم رأيت أبي مضرجا بدمائه علي يد الصهاينة... نعم رأيت اعمامي أشلاءا في حربهم ضد اليهود نعم تهدم بيتنا... نعم هُجّرت أنا وأمي و إخوتي البنات إلي مصر وظل أخي بالقدس يرفض المغادرة و يصر علي القتال لكنني في النهاية أم محنة ولداي تمزقني و تقتلني يا حمدي افهمني بالله عليك ثم راحت في بكاء مرير فأشفق حمدي عليها فاحتواها في حضنه رابتا برفق علي رأسها لتهدأ هامسا:: لا عليك حبيبتي...أنا الآسف...اهدأي ...لا عليك تركت دموعها تنساب علي كتفه قائلة بصوت متهدج:: أنا لا أعترض علي قضاء الله تعالي فهو مولاي و قدره كله عدل ولكن ما من ابتلاء وقعت به كمثل هذا الابتلاء...الآن فقط أعرف تصدع قلب أمي و دموعها الساخنة حين كانت تنقطع أخبار أخي بالقدس ثم توقفت فجأة عن الكلام واعتدلت ونظرت نظرة ذعر بعيني حمدي هامسة بصوت مصدوم:: أخي؟؟ يا الله رحمتك...لو عرفوا من هو أخي فلا شك سيقتلون حمزة...يا الله...كيف لم أفكر بهذا من قبل؟؟ لعلهم يمنعون عنه محامي الدفاع لأنهم يريدون الانتقام منه بسبب موضوع أخي ....رباه احتضنها حمدي بقوة و بكائها المكتوم يزداد علي صدره هامسا:: اتركِ الأمر كله لله يا سعاد...توكلي علي الله فهو أرحم بحمزة وحسام منا...و واثق أنه تعالي لن يضيعهما ولن يضيعنا لقد كان هذا الخاطر الذي أرق زوجته الآن فقط هو الخاطر الذي يؤرق مضجعه منذ اعتقل حمزة و لكن قدره كرجل يحتم عليه أن يتظاهر بالقوة ليثبت قلب زوجته و ابنته ويخفي في قلبه كل ما يشعر به من قلق واضطراب و خوف...قمة الخوف ،،،،،