دخل إلى منزله منهكا بعد هذه الليلة الطويلة، لم يكن جسده المرهق و حسب، بل روحه بالأحرى هي المنهكة، الخمر تلعب برأسه والرقص طوال الليل معهن لم يكن بغرض المتعة ولا حتى بغرض التمرد الذي اعتاده في الآونة الأخيرة ،بل كان بغرض الهروب من نفسه، لا يعلم لماذا فتح كتاب صوره الفوتوغرافية القديمة، وأخيرا وجدها، آخر صورة له قبل دخوله الجحيم، ها هو ذا، طفل صغير يقف بشموخ بين الأسود ، شموخ لم يعد يعرفه الآن، صرخت روحه: هل أنت حمزة نفسه؟ هل أنت هو أنت؟ ارتمى فوق سريره محملقا في سقف حجرته ثم راح بعينين دامعتين يتذكر أول ليلة له في قلب الجحيم، أول ليلة له في جوانتانامو جلس أبوبكر علي سريره في زنزانته الضيقة في إعياء شديد فلقد جُن جنون حراس المعتقل منذ الصباح و زادوا من معدل تعذيبهم للسجناء وتكليفهم بالأعمال الشاقة........ التعذيب و المعاناة و الإهانة والأعمال الشاقة هم أشياء معتادة في كل لحظة في هذا المكان المقيت ومن هؤلاء السجانين المقيتين ولكن هذا اليوم مختلف......الجنون زائد إلي حد مخيف.......أعصاب السجانين مشدودة ولا أحد من المسجونين يدري السبب....حاول أبوبكر النوم ولكنه فوجئ بسجانين يقتحمون غرفته ويحملون شيئا ما مغطي ببطانية ويلقون به علي السرير المقابل. ما هذا؟؟؟؟؟؟....... هل هذه جثة؟؟؟؟ ومنذ متي يضعون الجثث في الزنزانات؟؟؟؟...... ولكن هذه الجثة غريبة جدا انها صغيرة الحجم وكأنها........ يا إلهي هل هي جثة طفل؟؟؟؟؟؟......... أرعبته الفكرة فقفز من سريره بدافع من حرقة قلبه. أبوبكر_يوجه حديثه للسجان بالإنجليزية: هل هذه جثة طفل؟؟؟ الحارس_في خشونة: لا شأن لك أبوبكر_صارخا: أسألك هل هذا طفل ميت؟؟؟ هذه المرة لم تكن الاجابة سوي صفعات وضربات قوية من الحراس علي جسد و رأس أبي بكر بقسوة ودون تمييز حتي سقط علي الأرض والدماء تسيل من فمه وخرج السجانون وأحكموا إغلاق الزنزانة. قبل أن ينهض أبوبكر من مكانه سمع أنينا يصدر من الجثة......نهض بأسرع ما يمكنه وجلس بجانب ذاك الشئ وأزاح الغطاء عن الوجه و راعه ما رأي........إنه طفل في حوالي الخامسة عشر أو الرابعة عشر من عمره وليس ميتا بل يكاد......هناك عدة جروح مخيطة في صدره و ظهره العاريين إلا من الضمادات ويرتدي بنطالا ملونا باللون البرتقالي المميز لمعتقل جوانتانامو تحركت شفتا الصبي بضعف شديد وقال بصوت واهن: أريد ماءا أفاق أبوبكر من ذهوله وجري نحو الزجاجة وأفرغ منها ماءا في الكوب ثم أسند رأس الصبي علي ذراعه بحذر و جعله يرتشف الماء ببطء ثم أسند الصبي رأسه إلي السرير مرة أخري في وهن وأغمض عينيه مازال الذهول يسيطر علي أبي بكر وهو يري هذا الصبي ذي الملامح العربية والذي أخفت الدماء المتجمدة علي جوانب وجهه بعضا من وسامته ومع هذا فإنه قد طلب الماء بلهجة إنجليزية طليقة لا عيب فيها ولا لكنة معينة تشوبها. حاول أبوبكر أن يفيق من ذهوله وسأله بصوت مرتعش من أثر الانفعال وبإنجليزيته ذات اللكنة الباكستانية: ما اسمك؟؟؟ حاول الصبي أن يفتح عينيه وهو يرد بصوت واهن: حمزة أبوبكر_مشدوها و متألما لمنظر الصبي:: رباه....إنك بعمر أصغر أبنائي سالت بعض الدموع من عيني الصبي قائلا بصوت واهن: أربعة عشر عاما لم يسمع ابوبكر جيدا لضعف صوت الصبي فاقترب من فمه قليلا قائلا: ماذا؟؟؟ حمزة_في وهن: عمري أربعة عشر عاما.......ثم أضاف بخوف وعيناه معلقتا بعيني أبي بكر ودموعه تسيل: ماذا سيفعلون بي؟؟؟ أبوبكر_وهو يعدل من وضع وسادة الصبي في حنان أبوي:: لا تخف......خيرا ان شاء الله........أنا معك الآن يا بني........استرح ولا تتحدث كثيرا ياحبيبي فأنت مجروح ومتعب.......نم الآن ولا تخش شيئا إن شاء الله.......انا العم أبوبكر.....اذا احتجت لأي شئ فلا تتردد و نادني حتي لو كنتُ نائما ابتسم له حمزة ابتسامة متألمة ودموعه لازالت تسيل ثم أغمض عينيه محاولا النوم... أما أبوبكر فقد تظاهر بالنوم علي سريره وأولي حمزة ظهره ليسمح لدموعه بالجريان الشديد...... هل وصلت بهم السفالة إلي هذا الحد؟؟؟؟ صبي في الرابعة عشر ومصاب بطلق ناري وقد أخرجوه من المشفي إلي السجن بحالته هذه قبل أن تلتئم جراحه؟؟؟؟.......ليست الحسرة فقط هي ما كانت تقتلع قلبه من صدره في هذه اللحظة بل الرعب أيضا...........مرعوب من أن يأتي هؤلاء الأبالسة ويعذبوا الصبي بحالته تلك أو يقتلوه.........وراح يناجي ربه(( رباه أتوسل إليك ألا يحدث هذا.......أقسم أنني لم أعد أحتمل المزيد من المآسي)).....ثم قرر في نفسه قرارا حازما لا رجعة فيه.........لقد خرج إلي باكستان من كندا حتي يحضر زفاف شقيقه فوشى به بعض خصومه القدامي وشاية كاذبة بأنه يعمل مع تنظيم القاعدة فقبضت عليه السلطات الباكستانية وسلمته إلي القوات الأمريكية التي زجت به في جحيم جوانتانامو بلا ذنب اقترفه، لقد ظن من شدة العذاب أنه سيستشهد بين أيدي المحققين غلاظ القلوب......إذن فليكن استشهاده هنا.......إذا مس أحد من هؤلاء القذرين هذا الصبي بسوء وهو على حالته هذه فسيموت فداءه وتزهق روحه مدافعا عنه....وبالفعل لم ينم ليلته تلك.....و كيف ينام من ظل طوال الليل حارسا لابنه من الشياطين؟؟؟؟........ نعم فقد أحس أبوبكر في هذه اللحظة أن حمزة هو ابنه الصغير( مصعب) فهو في مثل عمره تقريبا....إذن فلا نوم الليلة......وليظل علي أهبة الاستعداد ********* أما في انجلترا فقد استيقظت حبيبة ذات العشرين عاما علي انقباضة في قلبها فنهضت بسرعة فزعة فإذا بزوجها ينهض فزعا هو الآخر ويحتويها بذراعه أحمد: حبيبتي.....ما بك؟؟؟ حبيبة_مخطوفة الأنفاس: لا أعلم يا أحمد.....فجأة شعرت بانقباضة شديدة أحمد_بفزع شديد: انقباضة في بطنك؟؟ حبيبة_تلمس وجنته: لا لا......لا تخف....ليس ما تظن هذه المرة أحمد_يمسح علي شعرها: حفظك الله وحفظ جنيننا....إذن ماذا حدث؟؟ حبيبة_بقلق: لا أدري...انقباضة مفاجئة وقوية في قلبي...أبي وأمي يا أحمد...... حسام وحمزة وياسمين و عمر......لابد أنه قد حدث لأحد مكروه أحمد: إنه الشيطان يا حبيبة لا تخافي....استعيذي بالله استعاذت حبيبة ثم وجدت دموعها تسيل:: لا أعرف يا أحمد......أشعر أن مكروها قد وقع فكيف سأطمئن عليهم الآن؟؟ أحمد :أرجوك يا حبيبتي اهدأي الآن فالانفعال خطر عليك و علي الجنين حبيبة_هاتفة من بين دموعها:: الجنين...الجنين....كل ما يهمك هو الجنين؟؟ أحمد: لم أعني هذا والله.....أنا فقط خائف من تكرار تجاربنا المريرة مرة أخري حبيبة_ومازالت تصيح باكية: لقد كان الجنينين الأوليين الذَين فقدناهما هما جنيناي أيضا وليسا طفليك وحدك ولم أكن أنا التي قتلتهما ولكنها مشيئة الله التي لا تريد أنت أن ترضى بها نظر إليها أحمد طويلا وهو يسيطر علي مشاعر غضبه ثم أطرق برأسه ثم نهض من السرير ووقف في شرفة حجرتهما يستنشق نسمات الليل لعله يهدأ قليلا ،أسندت هي رأسها إلي السرير وأغمضت عينيها ودموعها تسيل في صمت، لا تدري ما الذي أصابها فجأة ،أمواج من المشاعر المضطربة تعصف بقلبها ،بعد قليل عاد أحمد بجوارها أحمد يمسح علي شعرها: حبيبة...... يا قرة عيني أنا أحبكما معا وأخاف عليكما معا....... الطفل ليس له معني بدونك....أنا أريد طفلا منك أنت لأنني أحبك....هل تفهمينني؟؟؟....هل تشعرين بي؟؟؟ رقّت حبيبة كثيرا لكلام زوجها الذي تحبه حد العشق فارتمت بين ذراعيه باكية: أنا آسفة يا حبيبي....أنا فقط أعصابي مشدودة....خائفة من فقدان جنيني للمرة الثالثة وقلقة علي أسرتي بكاملها في العراق ووحيدة أنا وأنت هنا....أنا متعبة نفسيا، متعبة جدا أحمد_يبتسم:: لا تقلقي حبيبتي...إن شاء الله سيكون كل شئ علي ما يرام....لقد فقدنا الجنينين لأن هذه مشيئة الله ثم لأننا كنا في العراق في ظروف من الصعب أن تعيش فيها امرأة حامل ورقيقة مثلك وأنت تعلمين أن أباك أصرّ أن نعود أنا وأنت إلي هنا بعد الإجهاض الثاني حبيبة_سارحة ببصرها:: العراق؟؟.....ليتني كنت معهم الآن في العراق لأطمئن عليهم حمد_يرفع وجهها إليه في حنان:: العراق هي أجمل البلاد بنظري، فلولا تجميع مساعدات المسلمين الطبية لهم هنا في انجلترا في بداية الحرب لما تعرفت علي والدك ولما رأيتك وأحببتك......ما رأيك إذا رزقنا الله بفتاة أن نسميها بغداد؟ ضحكت حبيبة وضحك أحمد ثم نظرت حبيبة في عينيه قائلة: أحبك أحمد_يقبل يدها: وأنا أحبك أكثر ******** أما هناك في العراق فقد وصل نبأ انتقال حمزة من المشفي الي جوانتانامو إلي أسرته الأم_من بين دموعها الغزيرة:: ماذا؟؟ أخذوه إلي جوانتانامو؟؟؟؟ إنه لا يزال طفلا.........لقد كان مصابا ولم تنته مدة علاجه بعد......لماذا أخذوه إلي هناك؟؟؟؟لماذا.......ثم أجهشت بالبكاء المرير قام الأب إليها واحتضنها قائلا في حزن شديد:: إن شاء الله لن يتركه الله وحده ولن يتركنا........أرجوك يا سعاد تماسكي قليلا من أجل الأولاد...ثم أنهم يمنعون عنه الزيارة الآن ضرب الابن الأكبر حسام ذو السبعة عشر عاما الحائط بيده في غضب شديد قائلا:: كلاب....إنهم مجرد كلاب متوحشة خالية من الضمير......ألا يكفيهم إصابتي الشديدة في ذراعي وقتل عدد كبير من رجال المقاومة ليعتقلوا طفلا أيضا؟؟؟ تنهد الأب ثم أطرق قليلا ثم نظر الي ابنه وزوجته قائلا في حزن: اسمعوا يا أحبابي......نحن نمر الآن بأصعب موقف يمر علي أسرتنا.....ولكنكم تعلمون تماما لماذا نحن هنا.....إن كان أحد منكم يظن أنني ظلمته فليصرح بهذا ولا يخش شيئا فلن أغضب، وسأعيده فورا إلى انجلترا الأم مسرعة: لماذا تقول هذا يا حمدي؟؟؟؟ أنت تعلم أننا هنا بمحض إرادتنا...كنا نستطيع أن نتركك تأتي إلي هنا وتؤدي واجبك وحدك...ولكنني عاهدتك ومنذ زواجنا علي أن نكون معا في السراء والضراء وأن نهب أولادنا لله و للإسلام......والحمد لله فإن أولادنا يعرفون هذا جيدا ،حتي حبيبة ابنتنا الكبري و زوجها لم يمنعهما عن القدوم من انجلترا إلا أنك كلفت زوجها بإدارة مستشفاك الخاص لحين عودتنا بعد أن أجهضت جنينين هنا في العراق بسبب صعوبة ظروف المعيشة وهذه الأوقات الصعبة علينا ستمر إن شاء الله والله لن يترك حمزة وحده((و هنا لم تتمالك الأم نفسها فوضعت كفها علي عينيها وراحت في بكاء صامت مؤلم)) قام الابن الأكبر حسام وجثا علي ركبتيه أمام مقعد أبيه وقبّل يده قائلا:: أنا لم أقصد من كلماتي يا أبي أننا نشعر بالظلم لأننا تركنا انجلترا وجئنا الي العراق لنساعد أهلها....... نعم نحن لسنا أطباء مثلك ولكن واجبنا تجاه إخواننا لا يقل أبدا عن واجبك نحوهم.....ذراعي أصيبت في سبيل الله ولست نادما أبدا علي ذلك ،إنهم مسلمون و عرب مثلنا تماما ولابد من إتمام واجبنا الكامل نحوهم وأثناء محادثات الأسرة لم ينتبه الجميع إلي أن هناك شخصا يكاد يصرخ من الألم ولكنه لا يستطيع إلا كتمان دموعه.......إنها ابنة عمتهم((ياسمين)) ذات الثانية عشر عاما و التي كانت تبكي بمرارة في حجرتها الأب_في حزن: ولكننا نسينا شخصين عزيزين علي قلوبنا هما عمر وياسمين أولاد أختي رحمها الله أين هما؟؟؟ سعاد_تمسح دموعها: إنهما في حجرتهما لابد أن ياسمين تبكي وتخجل من بكائها أمامنا أنت تعلم مدي تعلقها بحمزة و حبيبة...ولقد ابتعدت عن حبيبة حين جئنا إلي هنا والآن هي تبتعد عن حمزة فك الله أسره ولابد ان عمر اخوها يبكي هو الآخر فهو متعلق جدا بحمزة ويقلده في كل صغيرة وكبيرة حمدي((الأب)): حسنا سأذهب إليهما وأتحدث معهما