أغمض حمزة عينيه المثقلتين بالحياة التي تنوء الجبال بثقل حملها فرآها....ترتدي ثوبا فضفاضا أبيضا كعروس يوم زفافها...لم تتغير ملامحها الجميلة....يراها الآن علي الهيئة التي تركها يوم أسروه.... أمه الرؤوم ولكن ما بعينيها الآن ليست نظرة حنانها المعتادة.... إنها نظرة عتاب منكسرة....ركض نحوها بكل قواه...أُوصِدَت من بينهما قضبان سوداء قاسية.... نادي بأعلي صوته:: أمي.... حاولت هي تحريك القضبان لكن القضبان أدمت يديها فأخذت تنظر إليه نظرة انكسار ونهر دموعها يفيض وهي تهمس:: لماذا وضعت هذه القضبان بيننا يا ولدي؟؟ تفاجأ حمزة فصرخ:: هم من سجنوني بتلك القضبان يا أمي أغمضت عينيها في ألم ثم قالت:: لقد كنتَ في حبسك أقرب إلي َّ من حبل الوريد يا بني...قضبان سجانيك لم تحل بيني وبينك يوما أما الآن فأنت من صنعت هذه القضبان بيننا ...نسيت كل ما سقيناك أنا وأبوك من صافي النبع ثم ركضت وراء سجانيك تنهل من مائهم الآسن جثا حمزة علي ركبتيه صارخا وعيناه تغرقهما الدموع:: ليس هذا ذنبي....إنه ذنبكما...أنتِ و أبي...إن كان هو قد هان عليه ولده فكيف بك؟؟...كيف تفعلين بي هذا؟؟؟...لماذا وافقتيه علي ذهابنا معه للعراق؟؟؟ لماذا قذفتِ بي إلي ذلك اليَّم الهائج؟؟ هتفت أمه من بين دموعها:: قذفتك إليهم لتكون لهم عدوّاً و حَزَناً لا تابعاً حمزة_باكيا في صياح:: و لم يدر بخلدك أن يَّم الفتن قد يغرقني؟؟ أنا لست موسي لأنجو أمام كل هذه الفتن يا أمي...أنا لست موسي راحت صورة أمه عند ذاك تبهت رويدا رويدا وتتلاشي رويدا رويدا حتي اختفت تماما وحمزة ما زال يهتف باسمها ملتاعا لفراقها مرة أخري كان جسد حمزة يهتز بعنف في نومه وهو يهمس:: أماه....أماه خشى أبوبكر عليه فأسرع نحوه وراح يهز كتفيه بلطف:: حمزة....حمزة...استيقظ يا بني انتفض حمزة ثم اعتدل جالسا محدقا فيما حوله ثم استوعب عقله أخيرا وجود أبي بكر في حجرته فلم يصدق عينيه،عام كامل من البعد و الاشتياق وهاهو أحب رجل إلى قلبه يجلس أمامه الآن فارتمي بين ذراعيه هاتفا:: أبي؟؟ أبوبكر_في تأثر:: ولدي.....لكم اشتقت إليك ثم راح يتأمله في حنان جارف وقد اغرورقت عيناه بالدموع قائلا:: ما شاء الله اللهم بارك ، لقد صرتَ رجلا لم يستطع حمزة الكلام من شدة بكائه وكأنه يخرج كل آثام قلبه وجسده علي كتف الرجل الذي طالما كان له نِعم الأب في معتقله والذي طالما استقى منه تعاليم دينه يوم كان ينعم بقربه سنوات سجنه الأولي ،راح عقله يهمس في ألم:: آه يا أبي لو تعرف ما الذي صرتُ عليه الآن.... أما أبوبكر فراح يمسح علي رأس الشاب بهدوء حتي يسكن وهو الآخر يغالب دمعه ظنا منه أن سبب سيل دموعه هذا هو الشوق وشعور الغربةفي المعتقل البغيض....هدأ حمزة بعد فترة فاعتدل في جلسته وهو يمسح عينيه ثم ابتسم قائلا بصوت ضعيف:: كيف أتيت إلي هنا يا أبي؟؟ أبوبكر _في ابتسامة حنونة:: بعثوني لتنظيف حجرتك يا بني انتفض حمزة واقفا وهو يقول:: حثالة...هذا والله لن يكون أمسك أبوبكر بساعد حمزة ليجلسه قائلا بابتسامة:: أهدأ واجلس يا بني...إن هذا ما كنت أدعو الله به منذ نقلوك إلي حجرتك هذه....أنا مستعد لأن يفعلوا بي أي شيء مقابل أن ألقاك و أطمئن عليك تأثر حمزة كثيرا فجلس آخذا بيد أبي بكر محاولا تقبيلها لكن هذا الأخير سحبها بسرعة وقوة ثم احتضنه من جديد أبو بكر_في حنان جارف:: كيف أنت يا بني؟؟ كيف حالك مع الله؟؟ حمزة_معتدلا في هدوء خجول:: أنا؟؟ الحمد لله نظر أبو بكر إليه في إشفاق رابتا على كتفه قائلا:: أعلم أنك مررتَ بشدائد لا يحتملها إلا الرجال ولكن فرج الله قريب إن شاء الله أغمض حمزة عينيه مومئا برأسه في إيجاب مخفيا أثر كلمات أبي بكر عليه أبو بكر:: أسأل الله أن يفرج كربك كما فرّج كربي اعتدل حمزة قائلا باهتمام:: و ما ذاك؟ ابتسم أبو بكر قائلا:: سيتم الإفراج عني وترحيلي إلى وطني بعد يومين إن شاء الله للوهلة الأولى نطقت ملامح حمزة وقلبه بالسعادة لنجاة أبي بكر لكن سرعان ما ارتسمت علامات الحزن على قسمات وجهه رغما عنه أبو بكر:ما بك يا ولدي؟ حمزة_مبتسما في حزن:: الحمد لله ،يعلم ربي كم فرحت لنجاتك أبو بكر:: و لكن؟؟ حمزة:: ولكن حتى أنت ستتركني وحيدا هنا يا أبي؟؟ احتضنه أبو بكر بقوة فاستسلم حمزة لعَبَراته في حين قال أبو بكر في صوت متهدج:: لو كان الأمر بيدي ما خرجت إلا ويدي في يديك يا بني ، لو كان بيدي ما خرجت إلا وجميعكم تسبقونني إلى الحرية، لكنه أمر الله،يعلم الله أني لا أتركك و أمضي بل أترك قطعة من قلبي مسح حمزة عبراته وحاول الابتسام قائلا:: أنا آسف يا أبي،لم أقصد أن أبتر فرحتك ، عوضك الله عن آلامك و جزاك عنا جميعا خيرا راح أبو بكر يشد علي يدي حمزة هامسا في تأثر:: أوصيك بالصبر يا ولدي،فالصبر هو مِلاك الدين كله ، اصبر حتى يجعل الله لك فرجا ومخرجا ابتسم حمزة ابتسامة متفهمة و أومأ برأسه موافقا فيما قلبه يهتف:: و من أين يأتي ذاك الصبر يا أبي؟ لو كان يباع في الحوانيت لبذلت روحي لأشتريه، لم يعد بي طاقة للصبر يا أبي، صدقني، لم يعد بي طاقة بعد الآن ******** استيقظ حمزة على طنين يصم أذنيه، نظر إلى سقف الحجرة فاعتدل جالسا فجأة في ذعر، أين أنا؟ جالت عيناه بالمكان، السقف مزركش بورود راقية مثبت فوق حوائط غرفة واسعة يتوسطها سرير وثير يجلس هو عليه مغطى جسده بفرش رائعة فاقع لونها تسر الناظرين، عاد عقله إلى الوراء بسرعة درامية إلى أن استرد وعيه كاملا إنه الآن ليس حمزة الفتى ذي الثمانية عشر ربيعا، إنه حمزة الشاب ابن الرابعة والعشرين عاما، إنه الآن حرٌ طليقٌ في بيت أبيه بلندن، عادت ذاكرته إلى لحظات حريته الأولى حين قبلت المحكمة استئناف محاميه أخيرا وبعد سبع سنين من القضايا، أطلقت المحكمة سراحه وهو بسن الرابعة والعشرين كإجراء مشروط، فهو تحت مراقبة الحكومة لمدة عام ممنوع فيها من مغادرة لندن وممنوع من ممارسة حقوقه المدنية حتى تصدق المحكمة على براءته النهائية. يتذكر كل شئ ببطء، فرحته الغامرة بالخلاص، الطائرة العسكرية، سيارة الشرطة، ثم سيارة أبيه، عينا أبيه الدامعتين فرحا مقابل مشاعر حمزة الصخرية تجاهه، حضن أبيه الدافئ مقابل حضنه البارد وقلبه المتحجر تجاهه، يتذكر كيف ذاب كل ذاك الجليد حينما رأى أخته ((حبيبة))، رباه لقد كبرت وصارت بهيئة الأمهات، يتذكر كيف ارتمى بحضنها وراح يجهش بالبكاء ويشتم فيها رائحة أمه الراحلة، يتذكر كيف احتضنه حسام بلهفة أب وليس أخ، يتذكر كيف توقفت الكرة الأرضية عن الدوران حين التقت عيناه بعيني ياسمين قالت عيناها كلاما أصفى من جدول رائق رغم أنها خفضتهما حياءا حين رأته، يستشعر اضطرابها رغم اختفاء ملامحها خلف النقاب الذي ترتديه، لكن و إن استطاعت إخفاء اختلاجة قسمات وجهها فكيف تستطيع مواراة ارتعاشة صوتها أو بريق عينيها؟؟ لقد اهتز قلبه بين ضلوعه، لعل ما بها نحوه مثل ما به نحوها، يا ليت فجأة سمع طرقات على باب حجرته ثم صوت ينهر أحدا فقفز بسرعة وفتح الباب وجد حبيبة تبتسم له في خجل وهي تسحب صبيا من يده قائلة:: آسفة يا حمزة لقد هرب الولد من يدي وطرق بابك نظر الطفل إليها في تبرم قائلا:: لماذا تمنعيني يا ماما؟؟ إنه خالي وأريد محادثته جثا حمزة مبتسما ابتسامة واسعة وهو يفتح ذراعيه للصغير قائلا:: إنه حمزة الصغير إذن، ما أجمله!، تعالى يا صغيري احتضن حمزة الطفل ثم نظر إلى حبيبة هامسا بصوت متهدج متمتما للطفل:: هل تعرف ما اسمي؟ أنا حمزة أيضا،خالك حمزة مسحت حبيبة دموعها ثم قالت مبتسمة:: حبيبي حمزة لقد أعددت ُ لك الطعام المفضل لديك نظر إليها الطفل قائلا:: لكنني أكلت ُ منذ قليل يا أمي ضحكت حبيبة واستغرق حمزة في الضحك ثم قال:: أمك تقصدني أنا يا صغيري، يبدو أنه ستحدث فوضى عارمة بسبب الإسم ضحكت حبيبة قائلة:: هذا ذنبي و ذنب أحمد جاء أحمد مهرولا في فرح ثم وقف قليلا كأنه لا يصدق عينيه فركض حمزة نحوه وتعانقا ثم أرسله ببطء متأملا ثم قال في حب:: حمزة، حمدا لله على سلامتك، لقد كبرت وصرت شابا،ما شاء الله حمزة_ضاحكا:: نعم وأنت كبرت كثيرا يا أخي أحمد فلم أكد اتعرّف عليك ضحك أحمد متفاجئا ثم قال:: و صرت تجيد المزاح أيضا حبيبة_ضاحكة:: دعوكما من المزاح الآن فكلاكما لا شك يتضور جوعا كان الجميع يجلسون في حجرة الضيوف بعد انتهاء الغداء و ياسمين لا تكاد تتفوه بكلمة وحمزة يعود بنظراته إليها حينا بعد حين حمزة_موجها كلامه إلى الطفل:: إذن يا شبيه اسمي أرني هل تشبه قوتي أيضا أم لا؟ أمسك كف الطفل بكفه و أسند باطن عضده إلي المنضدة وراحا يلعبان لعبة ال((ريست)) فانتصر حمزة الكبير في أربع جولات الطفل_عابسا::كيف أهزمك يا خالي؟؟ حمزة_ضاحكا:: و كيف لا تهزمني وأنت حمزة؟ الطفل:: أنا حمزة صغير ولكنك حمزة كبير نظر إليه حمزة متعجبا ثم نظر نحو أسرته ممررا أصابعه بين خصلات شعره بسرعة كمن يفكر في شكل مضحك ثم قال:: كيف فاتنا هذا؟ حل مشكلة الإسم، أنت حمزة الأصغر و أنا حمزة الأكبر عمر_ضاحكا:: الأصغر و الأكبر؟! حمزة:: نعم وحقوق الطبع محفوظة لأهرامات الجيزة ضحك الجميع ولكن ندّت من ياسمين ضحكة عالية قليلا فقطعتها بسرعة واعتذرت ثم استأذنت وقامت مسرعة نحو الداخل ، نظر حمزة إليها ثم حوّل نظراته إليهم بسرعة ثم جاء ((حمدي)) فتغيّر وجه حمزة و صمت صمتا مطبقا فيما الجميع يتحدثون ويتضاحكون، ثم أحس أنه لا يطيق الجلسة فنهض متجها نحو المطبخ و في طريقه للخروج كاد يصطدم بياسمين التي نزلت الدَرَج الداخلي فتراجعت بسرعة ياسمين_في اضطراب شديد:: آسفة جدا حمزة:: لماذا تتأسفين كثيرا؟؟ تفاجأت ياسمين من رده فقالت بتلقائية:: ماذا؟ حمزة:: أريد أن أخبرك بشيئين، الأول أنك أميرة والأميرات لا تعتذرن كثيرا، و الثاني أن ضحكتك أجمل من أن تخجلى منها ألجمت المفاجأة لسانها فنظرت إليه دون كلمة ثم أسرعت الخطا صاعدة نحو حجرتها من جديد، أغلقت الباب واضعة كفها فوق قلبها لعله يسكن ولا يقفز من بين ضلوعها، ما حمزة هذا؟ ،هل تعتبر كلماته إطراءا يستحق الطيران فرحا؟ أم وقاحة تستوجب ترسيم حدودٍ بينهما؟، أم مجرد مجاملة مكانها النسيان؟ رباه، قلبها يتقافز كفتاة في السادسة عشر، يبدو أن الحياة جوار هذا الكائن لن تكون يسيرة بالمرة ،،،،،