*جانِ أم...؟* هو.هارب ولا يزال؛ناقم وإلى الأبد؛يُعاند ولن يميل! هي جريئة لا تتراجع؛صريحة لا تتردد؛عَزَمت على الوصول إلى هدفها رغماً عن أنفه!وما بين رغبتها ورفضه، اندفاعها وصَدُّه.. تقبع بقايا سلامته النفسية.. وربما قواه العقلية! العاشرة صباحا: "هل تأَخَّرت؟!" مَسحت سما عينيها وهي تفتحمها وتغلقهما بصعوبة عندما أعاد سؤاله مرة أخرى بذعر واضح: _هل أنا تأخرت؟ رفعت أحد حاجبيها بدهشة قائلة: _وهل دعوناك؟! ظل محدقا بها مبهوتاً لبعض الوقت ثم ما لبث أن سألها بتقطع: _لِمَ..لِمَ ترتدين الأسود وتبكين؟ أخيراً استطاعت فتح عينيها بالكامل وهي تحدق به بدهشة مفتعلة قائلة: _ياإلهي! قليل الذوق عديم الإتيكيت هو من يسأل عن حالي باهتمام؟ يا لسعدي! ثم انقلبت ملامحها للامتعاض بلحظة قائلة: _لا أعتقد أن هناك قانوناً ما يمنعني من ارتداء الأسود كما أحب. ثم تابعت بِزهو: _بالإضافة إلى أنه مَلِك الألوان! تدلَّى فكُه السفلي ببلاهة وهو لا يستطيع استجماع كلمات مناسبة، لكن الأخرى لم تكن تفتقر لتلك الهِبة فهتفت بجفاء: _لماذا جئت إلى هنا؟ فجاء رده متوجساً متوسلاً: _أردت رؤية.. رؤية أمي! وحينما كانت تهم برد عنيف آخر ألجمتها النظرة المعذبة بعينيه، فزفرت بضيق وهي ترد عابسة: _أم عاصم نائمة الآن. تيبس مكانه وهو يرتشف معنى عبارتها باستمتاع، تخللت الكلمات البسيطة عقله وقلبه لتعود روحه جرياً إلى جسده فترتسم ابتسامة غريبة على شفتيه بالتدريج حتى شملت وجهه كله، نظرت هي له بتوجس وهي تفسح جانبا لتدعه يدخل. ودخل! أخذ يطالع كل شبر بأرجاء ذلك المكان الذي تنعَّم بوجود أمه طوال سنوات حرم هو منها خلالهن، بينما الابتسامة البلهاء مقترنة بدقات قلبه التي تتسارع بفرح وصيحات ذاهلة يهتف بها عقله.. "أنت هنا الآن عاصم!" "أنت ببيت أمك عاصم!" "أنت ستسترجع حضنها وقُبُلاتها وحكاياتها!"ظل عقله ينبهه ببطء إلى ما هو مُقدِم إليه حتى لا يجن من فرط فرحته، وحينما التفت وقعت عيناه على قصيرة القامة تنظر له بدهشة، حمحم بخشونة وهو يحاول استعادة رزانته التي ضاعت تماما أمام غريبة الأطوار تلك، ثم سألها: _لِمَ تبكين إذن؟!مطت شفتيها بغيظ وهي تجيبه: _إن كانت حاسة الشم لديك مُعطلة، فأحب أن أخبرك أنني أطهو الطعام وأقطع بعض البصل. وما إن أنهت عبارتها حتى اتسعت أعينهما سويا ورائحة الاحتراق تصل إلى أنفيهما، فظلت متسمرة مكانها حتى سبقها هو بالإدراك قائلا بِحَذَر: _يبدو أن هناك حريقا ما! فانتفضت هي إلى الداخل صارخة: _البصل!! نزع قدميه انتزاعاً من مكانه ولحق بها ليجدها تحاول إنقاذ بقايا الطعام المتفحم، وعندما فتح فاهه كي يطمئنها سبقته تمتمتها الغاضبة وهي توليه ظهرها: _الخير حقا على قدوم الواردين!، لأول مرة بحياتي يحترق مني طعام بسبب قليل الذوق هذا! ضيق عينيه بِشرّ وهو ينظر إلى إحدى السكاكين الضخمة الموجودة بالقرب منها، إلا أنه سرعان ما نبذ ذلك الخاطر وهو يبادرها ببرود: _ربما كان من البديهي أن تطفئي الموقد قبل أن تجيبي من بالباب. لكنها كانت أكثر منه جرأة وهي تلتفت مختطفة نفس السكين لتشير بها إليه بتوعد هاتفة:_اسمع! أخرج من هنا واجلس بغرفة الاستقبال بصمت وهدوء ولا تجعلني أسمع صوتك حتى تصحو أم عاصم، مفهوم؟! تخشب جسده بأكمله وهو يُحدِّق بها بعينين مُتسعَتين، مذعورتين؛ هو ليس جبانا بالطبع، لكن من التعقل أن يبدي المرء احتراما أمام فتاة مجنونة غاضبة تحمل سلاحا أبيضا ضخما وتشهره أمام وجهه ولا يظهر عليها ترددا في استخدامه على ملامحه. وهكذا فقد رفع يديه بجانب رأسه استسلاما وهو يتراجع بابتسامة مهذبة حتى ولى هاربا من مطبخها. وبعد بضعة دقائق قضاها جالسا بأدب وتوتر يحاول انتقاء بعض الكلمات في غرفة الجلوس شعر بحركة بطيئة خلفه أعقبها صوت ضعيف هارب من خفايا ذاكرته اليتيمة فأرسل القشعريرة إلى قلبه وصاحبته تسأل: _هل أتيت أخيرا عاصم؟ عندئذ التفت ببطء يحدق في المرأة أمامه بصدمة وهو لا يقوى على إبداء أية ردة فعل! الثانية عشرة ظهرا: "شكرا لكِ، لكني أريد أن يلتحق ابني بالفصل الذي تدرس به الآنسة رهف!"ابتسمت لها الموظفة برسمية وهي تعاود إكمال ادخال البيانات، أما مَوَدَّة فقد شردت بعيدا في حوارها السابق مع عَمَّار وقرارها الذي اتخذته بناءا عليه بعد تفكير هادىء.لن تظل إلى الأبد مستسلمة، لن تدفن رأسها بالرمال وتصمت، بل ستحارب بكل قوة من أجل ما تؤمن به، وما يجب عليها القيام به.نهرها عقلها بغيظ متسائلاً عن كرامتها التي دعسها عَمَّار طوال تلك لسنوات؟ هل سيتلبسها الضعف وستتغاضى عنها؟لكنها تَعَلَّقت بِصمود مُثير للاهتمام ،بالطبع لا! بل ربما تستردها الآن، يجب عليها فقط أن تنحي قلبها جانبا وتتعامل معه بعقلها فقط!أريدك أن تحذري رهف، ربما هناك من يتربص بك!" ازدادت دهشتها وهي تهتف به بقلق: _من تقصد يا حمزة؟! اقترب من بضعة خطوات ثم توقف مقابلها مرددا كلمات بطيئة:_ أنتِ تعرفين قصدي رهف، أنا.. أنا أعلم كل ما حدث قبل طلاقي ودينا.شحب وجهها وهي ترتد إلى الخلف بصدمة هاتفة باضطراب: _أنا.. أنا لا أفهم شيئا حمزة، وما علاقتي بطلاقك ودينا؟ تنهد بألم قائلا: _ربما ليست لكِ علاقة مباشرة بالطلاق، لكن ما تسببت ابنة خالك به لكِ قد ساهَم في رؤيتي كم إنها إنسانة حقودة طماعة، ولن تهدأ حتى تحقق أهدافها حتى وإن خَرَّبَت حياة الغير.عقدت حاجبيها بدهشة وهي تنظر له بتساؤل: _وما الذي تسبَبت به حمزة؟ نظر لها بإشفاق واضح ثم زفر باستسلام وقال: _دينا وأمها هما اللتان أحضرتا ذلك الرجل إلى بيتكم. تألم قلبه وهو يطالعها لا تأتِ بأية ردة فعل للحظات، وما إن نطقت حتى سألت بصوت متحشرج به لهجة رفض واضحة:_م..ماذا تقول؟! مسح وجهه بكفيه وهو يكرر عبارته مرة أخرى: _ما سمعتِ رهف، ما سمعته بالضبط، هما ذهبتا إليه، هما طلبتا منه أن يأتي إليكِ ليُرهِبِك، هما تسببتا بما حدث! وكان ردها الغريب بشرود ذاهل: _كيف؟! لقد.. لقد كانتا حاضرتين ذلك اليوم، كانت حاضرتين وشاهدتا كل شيء! مُحال حمزة، ما تقوله مُحال! بألم رد عليها حمزة: _أعلم رهف، أعلم... قاطعته بهتاف غاضب: _لا! ، أنت لا تعلم! أنت لم تكن هناك! بل أنا كنت، ذلك الوحش معدوم الضمير اصطحب ثلاثة مجرمين معه وأوسعوا خالي ضربا، أمامي، وأمام زوجته، وأمام ابنته، وهما.. هما كانتا تصرخان وتبكيان،.. هما كانتا ترجوانه ألا يؤذوه، ألا تفهم؟! مستحيل! أغمض حمزة عينيه بإشفاق ثم أعاد فتحهما وعم الصمت! كان يترك لها الفرصة كاملة لاستيعاب تلك الصدمة، وعندما بدأت بهز رأسها برفض خاطبها بحسرة: _إن كان هناك درس تعلمته من خلال تجربتي مع دينا طوال ثلاثة سنوات فهو أن بعض البشر يمكنهم التمثيل والاصطناع بإتقان تام، فلا تستطيعين كشف حقيقتهم إلا بأدلة قاطعة، وهذا ما حدث، دينا وأمها لم يتمنيا بحياتهما شيئا أكثر من إبعادك عن بيتهما، وفي سبيل ذلك كانتا على استعداد لفعل الأسوأ على الإطلاق. وعيناها الدامعتان سألتاه بعذاب: _لِمَاذا؟! ما الذي فعلته أنا؟ أنا لم أؤذِهِما أبدا! لقد.. لقد حاولت مرارا الانتماء إليهما والتقرب منهما، وفي سبيل ذلك تحملت ما لا يُطاق لسنوات. أجابتها ابتسامته الساخرة: _معدوم الضمير الحاقد لا ينتظر أذى الآخرين له، بل يخطط ويدبر ثم ينقض! جلست على أقرب مقعد واضعة رأسها بين كفيها فزفر بتعب:_اسمعي رهف! أنا معك دائما، لن أتركك ولن أدعه يتسبب لكِ بالأذى، سأساعدك بكل طاقتي. نظرت له بألم ساخر ثم قالت: _أنت لم تر ماذا فعل بخالي وهو لم يؤذه أبدا، ولا تعلم إلى أي مدى يمكن أن يصل، ابتعد حمزة، ابتعد عني قدر ما تستطيع، فكل من يقترب مني يحترق. وبتصميم أسمعها رده: _لا رهف، أنا لم أنس يوما ما فعلته معي، والآن حان دوري، لن أتخلى عنكِ أبدا، هذا وعد!رمقته بامتنان فأضاف: _واحذري جيدا رهف، احذري من كل من يقترب منك! نظرت له بشرود وهي تومىء برأسها ببطء، بينما أخذت تفكر في كم الأذى الذي عاد ليحوم حولها بعد أن ظنَّت أنها ستنعُم بحياة هادئة أخيراً . الواحدة ظهرا: "وماذا يكون هذا الشيء دكتور عَمَّار؟" تراجع إلى ظهر مقعده وهو ينظر إليها بابتسامة أرسلت القشعريرة على طول عامودها الفقري ثم أجابها متسائلاً: _أنتِ أخبريني سيدة دينا، أخبريني ما الذي تريدينه من رهف؟ شحب وجهها تماما وهي ترتد إلى الخلف بصدمة مُرددة: _رهف؟! والابتسامة اشتدت أكثر وهو يجيبها: _نعم رهف، ابنة عمتك. وبحقد هائل شمل ملامحها سألته: _كيف تعرفها؟ انمحت ابتسامته بلحظة ليحل محلها نظرة تحذيرية أرعبتها وهو يجيب: _اعتقد أنكِ يجب عليكِ إجابتي أولا، لكنني سأكون أكرم منكِ أخلاقا وسأجيبك. وبمنتهي البرود تابع: -رهف تخصني جدا، ويهمني أمرها جدا، ومن يحاول الاقتراب منها بِشر سأجعله يندم أشد الندم. ازدردت لعابها بخوف وهي تحاول العثور على حيلة تخرج بها من ذلك المأزق متسائلة: _هل.. هل هي حبيبة سرية؟! انقلبت ملامحه على الفور إلى غضب عارم، ومن بين أسنانه هتف: _أنتِ تتجاوزين حدودك هنا، وأنا لن أخبرك بعلاقتي بها، لكن أنتِ من ستخبرينني الآن، ما الذي تمتلكينه أنتِ ووالدتك ليشجعكما على الابتزاز؟، ما الذي بحوزتكما ومن شأنه أن يؤذي رهف؟وبرغم ذهولها بسبب معرفته بأمر ابتزازها السابق، وبرغم جهلها بِعلاقته بابنة عمتها فإنها هبِّت واقفة ترتجف بذعر وهي تصيح به بتوتر: _اسمع! أنا لا أخافك ولا أخاف سطوتك، إن كنت تعتقد أنك تستطيع تهديدي أو إيذائي فأنت مخطىء. ثم تَغَلَّبَت على حالتها سريعاً ومالت على الطاولة تنظر له بِغِل خالص قائلة: _أنت تعلم أنني استطيع الابتزاز ثانية، لكن تلك المرة لن تكن من أجل إبعاد رهف، بل من أجل إبعادك أنت، صدقني دكتور عَمَّار ليس من الصواب أبدا أن تهددني أنا على الأخص، لأنني بالفعل لدي شيء يخص رهف، لكنه ليس كما تتوقع أنت، هو لن يضرها. توقفت تناظر عينيه المهتمتين بِشِدة ثم لاحت على شفتيها ابتسامة مُقلِقة وهي تتابع: _ بل على العكس، هي لا تجرؤ على الحُلم بوجوده من الأصل، لذا أنا أستطيع استخدامه بالطريقة التي ستفيدني تماما، أو إخفاؤه إلى الأبد إذا اضُطررت لذلك، فابتعد دكتور عَمَّار لأنني لست بالخصم الذي تود مجابهته. وما إن أنهت عبارتها حتى عادت ابتسامته التي تحولت إلى ضحكات عالية، ثم بعد لحظات جاء رده الهادىء: _كيف حال دكتور حمزة؟ تسمرت مكانها محدقة به بصدمة أشد فتابع وهو يستقيم أمامها ببطء: _أوصلي له تحياتي من فضلك، وأخبريه بتهنئتي الحارة لتخلصه منك. وبنفس البطء تجاوزها وانصرف وهي لازالت مكانها لا تتحرك ولا تفهم شيئا.. هل تداعت أحلامها؟ هل فقدت أملها الوليد معه؟ هل نبذت طارق بلا جدوى؟ وما علاقته هو بتلك اللعينة؟ وكيف يعرف بذلك الأمر الذي لم يشهده أي شخص سواها هي وأمها؟ أما هو فقد وصل إلى سيارته الرمادية واستقل مقعد السائق وهو يزفر بغضب، لتبادره مجاورته: _ألم تخبرك بشيء؟ بغضب شديد أجاب من بين أسنانه: _لا، لم تقل شيئا، تلك الحقيرة لن تتحدث بسهولة، لقد منعت نفسي بصعوبة عن خنقها، لكنني سأصل إلى ذلك الشيء الذي بحوزتها ويخص رهف أيا كان هو، لن أستسلم وسأحارب من أجلها. عدلت من وشاحها وهي تحاول تهدئته: _لا تقلق عَمَّار! اتركها على حالها مرتعبة حتى تقوم بخطوتها التالية. زفر باستسلام ثم استدار إليها رامقا إياها بتمعن.. ازدرد لعابه مراقباً جانب وجهها؛ لطالما كانت الأجمل؛ ولطالما تشاجر من أجلها منذ بدأت أنوثتها في الظهور؛ كانت من الأوقات القليلة التي يشعرر خلالها بِقوته؛ ألهذا السبب فقط كان ينزعج من النظرات الموجهة إليها؟ أم أن هناك شيئ بداخله كان ينتفض مدافعاً؟! ورضوى؟! كانت حُلم..ربما علاقته الواهنة بها كانت وسيلة!وسيلة لها كي تتهرب من أشباح ومسميات مجتمعية لا يعلم أحد متى تم اختراعها؛ ووسيلة له كي يفخر بنفسه يوماً قائلاً: لقد اخترت، لقد اتخذت قراراً، لقد فعلت ما أردت!!!هرِب من ذكريات لا أهمية لها الآن مُرَحِّبَاً بواقع لم يكن يتخيل أنه سيكون بذلك الجمال؛بذلك الحنان؛بتلك الرقة؛ وذلك..الدعم!طرف وشاحها يطير ويغطي وجهها فأزاحته وظلت متمسكة به، لم يستطع منع نفسه وهو يمد يده ليتلمس كفها، أجفلتها حركته فاستدارت إليه مندهشة ، توترت ملامحها وهي تبتعد بعينيها عنه، فحمحم بخشونة وهو يتساءل:_ماذا فعلتِ أنتِ؟ وبهدوء أجابته: _لقد سجَّلت إياد في الفصل الذي تُدرِّس به. ابتسم لها بتمعن وهو يخاطبها بنبرة ممتنة: _شكرا لكِ مَوَدَّة!"ضريرة!!" _هل أتيت أخيرا يا عاصم؟ولا يزال لا يجد ردا وهو يحدق في هيئتها ضعيفة الجسد وهي تقترب منه ببطء متحسسة الجدران بجوارها حتى وصلت إليه... انخفض نظره إلى يدها المرتعشة الحرة بينما الأخرى مُتمسكة بالعصا التي تتوكأ عليها، تعلقت أنظاره بها وهي ترفع يدها لتتجه إلى ذقنه،ثم أغمض عينيه مستعيدا ذكرى آخر لمسة من نفس اليد منذ سنوات عديدة، فصعدت يدها إلى:أنفه وجنتيه عينيه.جبهته وتخللت شعره ودمعتان منه هطلتا بدون شعوره؛ودمعات منها مختلطة بابتسامة من عينين منطفئتين؛أهدابه مبللة.. شفتاها ترتعشان صدره يعلو ويهبط أناملها على بشرة وجهه تتجول بلهفةونداء هامس: _عاصم!!وفتح عينيه ثم أطلق زفرة مُحَمَّلة بيُتم سنوات.. ونداء هامس متكرر:_عاصم!! دمعات متوسلة تهرب منه إليهاوللمرة الأخيرة:_ابني!! ليندفع إلى أحضانهايجذبها إلى صدره؛يشهق ببكاء محروم.. وتنتحب ببكاء أكثر حرمانا؛اختفت تماما بين ذراعيه حتى ما عاد يظهر من جذعها شيء وهو يعتصرها على صدره مُقبِّلا جبهتها بلهفة حارقة وصوت شهقات بكائه الرجولي يصدح بالغرفةوأخيرا أكرمها بسماع صوته:_اشتقت إليكِ!_سامحيني!_احتاج إليك، أمي!!_أمي!!_أمي!! وعند الباب وقفت سما تمسح دمعات_ليس للبصل ذنبا بها_ وهي تعترف لنفسها بِذهول:"عديم الإتيكيت ربما، لكنه أبدا ليس بعديم الشعور!" "يا إلهي! ماذا فعلتِ أيتها المجنونة؟" زفرت بتوتر وهي تدور في الصالة بقلق وتجيب أمها: _لقد..لقد اعتقدت أنه يتقرب مني لشخصي، لم أكن... قاطعتها أمها بثورة: _لشخصك؟! هل تعتقدين أنه من الممكن أن يفكر بك؟ ألا تدركين أن القُرب ممن مثله خطر؟ إنه يستطيع هدم بيتنا فوق رؤوسنا بإشارة من إصبعه.فقابلتها بنفس الثورة: _وما أدراني أنا؟ لم أكن أعلم بهويته بالأصل، كل ما أخبرني به أنه طبيب يعمل بمشفى مرموق وقريباً سيفتتح عيادة خاصة، والثراء الفاحش يصرخ من ملابسه وسيارته هاتفه. صاحت بها أمها: _لِمَ لم تخبريني عنه؟ لكنت حذرتك! تأففت دينا بحنق ثم قالت: _بدلا من أن تبدئي في تعنيفي يجب أن تفكري معي بحل لتلك المصيبة، إنه يعلم بوجود الورقة معنا ولن يهدأ حتى يأخذها. هتفت أمها بسرعة: _إذن نعطيها له بسرعة ونتخلص من تهديده. صاحت بها باستنكار: _هل تمزحين أمي؟! إنها ليست مجرد ورقة، إنها الضمان الوحيد لنا، إن أعطيناها له بكل ترحيب ما الذي يمنعه من إلحاق أشد الأذى بنا؟ والصياح الآخر كان أعلى: _ماذا تقترحين إذن؟ أن نقضي حياتنا مذعورين منتظرين هجوما منه؟ وقبل أن ترد انطلق رنين جرس الباب فاتجهت لتفتحه، ثم ما لبثت أن تسمرت مكانها وهي تحدق أمامها بصدمة متسائلة: _ما الذي أحضرِك؟ لحقتها أمها ثم انقلبت ملامحها إلى الكراهية الخالصة وهي تهتف: _ألن نتخلص منكِ أبدا؟ فانطلق السؤال الضعيف من رهف بدلا من الإجابة عليهما: _ماذا تريدان مني؟ من بين أسنانها هتفت دينا: _نريد ألا نرى وجهك ثانية، نريد أن يموت اسمك بهذا البيت، نريد أن نمحوكِ من حياتنا تماما، أتستطيعين فعل ذلك؟ هالتها الكراهية الصارخة بعينيها ثم أجابت بصوت متقطع: _لقد رحلت! لقد تركت بيت خالي الوحيد ورحلت! لم آتِ إلى هنا منذ خرجت من ذلك الباب، لا أتصل بخالي إلا أثناء موعد عمله حتى لا تشعرا بالانزعاج، ماذا تريدان مني بعد؟ أتعتقدان أن بإمكانكما قطع علاقتي به تماما؟ وبدمعة أردفت: _إنه الشخص الوحيد الذي يحبني برغم ماهيتي، الوحيد الذي يحنو عليّ، الوحيد الذي يتمنى لي السعادة، لِمَ تستكثران علي بعض الراحة؟!، تعلمان أن اهتمامه بي لن يُنقص من اهتمامه بكما شيئا، أليس كذلك؟ والرد من زوجة خالها جاء صارخا حاقداً: _ليس من حقك، هو ليس بأبيك، هو زوجي أنا ، ولديه ابنة واحدة فقط، ولولا وجودك أنتِ بحياتنا ربما كان لدي أولاد آخرين يتمتعون بالحنان والاهتمام والحب الذين اغتصبتيهم أنتِ منا دون وجه حق ! نظرت لها رهف بصدمة وانعقد لسانها لِثوان؛ الكراهية بعينيها ليست بشأن جديد؛ لقد أيقنت بذلك منذ زمن، لكن لماذا تُلقي عليها بتلك التهمة الآن؟! أجلت حنجرتها ثم سألتها: _وما ذنبي أنا؟ فأجابتها المرأة وهي تزيح ابنتها لتقف بمواجهتها هاتفة: _ ذنبك أن أمك ماتت وتركتكِ لنا، ذنبك أن أبيك رماكِ، ذنبك أن خالك الذي تريدين مشاركتنا به قد رفض إنجاب أطفال آخرين حتى يستطيع الإنفاق عليكِ معنا! ثم أردفت بحقد هائل:_أنتِ السبب! انتفضت رهف وهي تضع يديها تلقائياً على أذنيها طاردة تلك العبارة التي لم تكره مثلها: _أنتِ السبب! "لو لم تولدي لم عانيت أنا تلك السنوات" _أنتِ السبب!" ليتني لم أر وجهك أبدا"_أنتِ السبب! "الآن سأتخلص منك للأبد"_كفــــــــــى!!! والصرخة انطلقت مختلطة بشهقات باكية، هي لم تقصد أن تؤذي أحدا، لم تقصد أن تموت أمها، لم تقصد أن ينبذها أبوها، ولا أن يقرر خالها عدم الإنجاب خوفا من الحاجة، هي لم تقصد أبدا التسبب بالضرر لغيرها. انتزعها هتاف ابنة خالها الغاضب: _اغربي ولا تعودي، اغربي وإياكِ أن تأتي إلى هنا مرة أخرى، وإلا أنتِ تعلمين كيف يمكننا أن نمنعك، كفانا فضائح بسببك!نقلت نظراتها بينهما بألم، ثم تطلعت باشتياق إلى أركان البيت الذي نشأت به والآن لا يُسمح لها بتجاوز عتبته، تنفست بعمق وهي تخفض رأسها قائلة بهدوء: _سأذهب بالتأكيد. ثم رفعت رأسها تنقل نرمقهما بالتبادل ببرود ظاهري متابعة: _لكن رغما عنكما هو خالي وأماني الوحيد، واعلما أنكما إن تسببتما بالأذى له مرة أخرى أنا لن التزم الصمت، سوف أخبره بأنكما من قمتما بتحريض ذلك الوحش كي يأتي إلى هنا، سأخبره أنه حين كان يتعرض للضرب والإهانة على يد ذلك الرجل ومن معه كنتما تتظاهران بالعويل والبكاء والرعب بينما بالواقع لم تفكرا إلا بالتخلص مني، حتى وإن كان في سبيل ذلك يُؤْذَى الزوج والأب! تحولت نظرتا المرأتين إلى التوجس وهي تُضيف بمرارة: _لَكَم تحملت إيذاءكما لي، نعوتكما البذيئة، إهانات وضرب وتقييد وحبس،حرمان من المصروف ومن الطعام أحياناً، اعتقدتما أنني كنت أتقبل كل ذلك بدون رد فعل لأنني ببيتكما ومُضطرة للصمت شاكرة أليس كذلك؟ لم تكن تسألهما حقا، لذا استأنفت حديثها بهدوء: _لكن بالواقع أنا تحملت صاغرة من أجل خالي، كي لا أضعه في موقف حيرة أو اختيار يوما ما، يكفيه مسئوليتي التي اُلقِيت على عاتقه منذ مولدي، لكن الآن، وبعدما تعداني أذاكما ووصل إليه فأنا لا أجد ما يجعلني أتمسك بالصمت، ولِهذا أتمنى أن تفكرا جيدا قبل تقوما بفعل آخر متهور وغبي. والتحية المودعة كانت ابتسامة مُحذِّرة أثارت دهشتهما، ربما لأنها للمرة الأولى ترتسم على محياها، لطالما كانت وديعة بريئة صامتة، لكن يبدو أن هناك شيئاً ما قد تَبَدَّل بها! وعندما هبطت جريا مَحَت ابتسامتها المُفتَعَلة وحررت دمعاتها التي سُجِنَت طويلا، وأمام مدخل البناية قابلها البائع بالمحل المجاور، وما إن رآها الرجل حتى طأطأ رأسه عابسا وهو يخاطبها بحنق شديد: _أعوذ بالله! ألم نتخلص منكِ وتتطهر البناية من الفضائح التي تحيط بكِ؟! ما الذي أعادكِ إلى هنا ثانية؟! ارتجفت شفتاها وهي تحدق به بألم مختلط بالحرج ثم رددت بارتباك:_أنا.. أنا... هنا نظر إليها الرجل باشمئزاز واضح هاتفا: _أستتحدثين معي؟! ابتعدي يا فتاة واغربي عن ذلك الحي كله، لدينا نساء وفتيات ولا تنقصنا المصائب! وأغلق باب المحل بوجهها وهو يستعيذ بالله عدة مرات! ظلت محدقة في إثره بشرود وعيناها مغروقتين بدموع الاضطهاد، إلى أن ارتفع رنين هاتفها فأجابت بلا تركيز: _نعم؟ ليأتيها الصوت الرائق المرح الرخيم بنبرة فشلت أن تبدو جادة كما كان يحاول: _استشارة عاجلة آنسة رهف وأرجو أن تساعدينني، إن أردت ترجمة تلك العبارة إلى اللغة الإنجليزية ماذا أقول: "أنا لا أفهم ما الذي يحدث لي، لكنني أفكر بكِ منذ رأيتك، هلا خرجتِ من عقلي قليلا كي أستطيع التركيز بعملي يا مشعثة؟!" للحظات حاولت تذكُّر الصوت المُميز ثم أطلقت زفرتها الباكية مع كلمته الأخيرة وهي تقول بخفوت: _مهندس ساري!! وعلى الطرف الآخر انطلق صوته متسائلا بقلق: _ما بكِ رهف؟، ما بال صوتك؟! أتبكين؟ وخرج ردها بدون تفكير وهي تهُز كتفيها مُتلفِتة حولها شاهقة بألم: _أنا.. ضائعة! ووصلها صوته مرة أخرى مُتسائلاً بمهادنة كي لا تفزع: _اهدئي رهف! قفي مكانك ولا تتحركي، فقط إن استطعتِ أن تخبريني باسم الشارع الذي ضعتِ به أو أي علامة مُميزة، وفورا سأكون عندك. أجابته بسرعة من بين دمعاتها: _أنا لست ضائعة بالمكان، أنا أعلم أين أنا، لكن..لكن أنا ضائعة بالحياة، لا أدري ماذا عليّ أن أفعل، لا أدري لِمَ يحدث لي ذلك، لا أدري لماذا أعاني منذ مولدي، لا أدري لِمَ كل تلك القسوة التي يتعامل بها الجميع معي، ما ذنبي؟! أطلق أنفاسه المحتبسة بصدره وهو يغمض عينيه براحة ثم سألها بهدوء: _أين أنتِ رهف؟ أخبريني! أريد أن أراكِ الآن. ثم أردف بهمس: _أرجوكِ! عندئذٍ انتبهت إلى ما يحدث، وانتبهت إلى استرسالها بالكلام معه أكثر من اللازم فَهزَّت رأسها رفضاً بسرعة قائلة: _لا! شكرا، أنا آسفة، إلى اللقاء! وبدون انتظار رده انهت المكالمة وأغلقت الهاتف فورا وهي تجر قدميها جرا كي تنصرف من ذلك المكان الذي لطالما نبذها بقسوة.سامحيني أمي! أرجوكِ سامحيني، أقسم أنني لم أعلم أبدا أنكِ تريدينني، أقسم أمي أنني كنت أشتاق إليكِ طوال الوقت، آسف أمي، لم أقصد أن أكون عاقا." ومن بين شهقاتها الخافتة أجابته وهي تتحسس وجهه بأحضانها:_أنت لست عاقاً، أنت حبيبي ونور عيوني، أنت ولدي الحبيب عاصم، وقد كنت أعلم أن ربي سيردك إلي قبل أن أموت.بلهفة رفع رأسه من بين ذراعيها هاتفا: _بعيد الشر عنك أمي، أنا لم أكن أعلم ما حدث من قبل مع أبي إلا مؤخرا، صدقيني لو كـ.... وضعت أصابعها فوق شفتيه تسكته قائلة: _أنا لا أريد التحدث عن الماضي عاصم، وأبوك أنا قدسامحته، طالما لم يجعلك تكرهني طوال تلك السنوات. هتف بغضب وحِقد هائل:_لكنه لم يخبرني بالحقيقة إلا حينما صممت أنا، لقد ضاع الكثير من عمري وعمرك ونحن مفترقان، وهو كان يعلم مدى اشتياقي وحاجتي إليكِ، كان يعلم أن ما من تعويض يحُل محلِّك، كان يعلم أنكِ تحتاجينني أيضاً واختار أن يمنعِك من رؤيتي. ابتسمت أمه بطيبة: _يا ولدي، لستُ ناقمة على أبيك، أنا كنت أعلم أن زوجته عاملتك بحنان، وأنا أيضا عشت مع زوجي رحمه الله أياما جميلة لم ينقصها إلا وجودك معي، والآن أراد الله اتحادنا، لا أريد الانشغال بالحقد والتفكير بالماضي، أريد أن أهنأ بوجودك بين أحضاني.انهال بقُبُلاته على جبهتها فربتت هي على ظهره بحنان، لكن دخول سما قطع لحظات قربهما وهي تهتف بضيق واضح:_الطعام جاهز أم عاصم! التفتت المرأة لها برغم عدم استطاعتها رؤيتها متسائلة: _ماذا بكِ سما؟ أهناك ما يضايقك؟ زفرت سما بضيق وهتفت من بين أسنانها: _لا أبدا، أنا بخير. عقدت المرأة حاجبيها بقلق وهي ترد: _حبيبتي، أخبريني ما الذي أغضبك هكذا؟ تدخل عاصم قائلا باستفزاز: _أهي لديها تعبيرات أخرى غير الغضب أمي؟ انفجرت به سما هاتفة: _أنت لا شأن لكَ بي؟ أتفهم؟! مالت أمه على أذنيه هامسة: _ماذا فعلت عاصم؟ لِمَ أغضبتها؟ هتف بسرعة: _والله أمي لم أفعل شيئا، هي من تضايقني وتعاملني بسوء، حتى أنها منذ قليل كانت تهددني بسكين أضخم منها، كادت تقتلني أمي، بعد أن أَحْرَقَت البصل!! فغرت سما فاهها دهشة فابتسم هو لها ببرود، بينما سألتها أمه باستغراب: _أصحيح سما؟ أصحيح ما يقول؟ اندفعت سما بسرعة هاتفة: _هو من عطلني وظل يثرثر حتى احترق البصل. مطت أمه شفتيها ثم زفرت بنفاد صبر قائلة: _كنت أسأل عن السكين سما، هل هددتِه؟ ضيقت عينيها بشر وهي تنظر له: _ولِمَ أهدد وأنا أستطيع التنفيذ فورا؟! اتسعت عيناه دهشة لِوهلة ثم تبدلت نظرته إلى الغيظ وهو يغمغم: _سليطة اللسان، ضئيلة القامة! فاندفع ردها هي مرتفعاً على الفور: _قليل الذوق، عديم الإتيكيت! انطلقت الضحكات الرائقة من السيدة صفاء فنظر لها الاثنان بابتسامة حنونة حتى نطقت: _يا إلهي! هل أنتما طفلان؟! ثم التفتت تجاه ابنها وهي تربت عليه: _هيا ابني، هيا نتناول الطعام سويا. وعلى المائدة كان الاثنان يتسابقان على إطعامها، في البدء اهتماما لم يلبث أن تحول الأمر إلى منافسة، حتى كادت المرأة أن تغص بطعامها، دارت النظرات القاتلة بينهما بصراحة فلم يحاول أحدهما إخفائها، وعندما انتهى الطعام انفرد بأمه ثانية، تبثه حنانها وينهل من حبها بلا شبع، وفي آخر اليوم اتجه إلى الباب مُتثاقِلاً وهو يتمنى ألا يفعل.قبَّل رأسها و كفيها دامعا ثم قال بِنبرة واعِدة: _قليل من الوقت فقط أم عاصم، سأبحث عن شقة مناسبة وسنعيش سويا إلى الأبد.اتسعت ابتسامتها الحنونة وهي تُربِّت على كفه."عفوا؟!" والكلمة انطلقت من تلك التي تتشح بالحجاب الأسود، لكن غضب عينيها كان أكثر سوادا، نظر لها بدهشة صامتة فأعادت سؤالها بنبرة تحذيرية: _ماذا تقصد بكلامك؟ وبلهجة لامبالية رد: _أقصد أنني سأبحث عن شقة مناسبة لأعيش بها مع أمي. صاحت بغضب: _أنا لا أوافق على ذلك الاقتراح. رد بإغاظة يعيد عليها جملتها التي استقبلته بها صباحا: _وهل دعوناكِ؟!ضغطت أسنانها بغضب وهي تنطلق إليه حتى وقفت أمامه فوصلت قمة رأسها أمام صدره، رافعة رأسها وهي تنظر له بتحذير بدا_عليها_ مضحكا: _اسمع! أم عاصم تقيم معي، اذا أردت أن تزورها سأتحملك مُضطرة، لكن انس تماما أن تبعدها عني، هل تفهم؟!ولأن عنقها آلمها فلم تنتظر رده وهي تعود إلى الداخل صافعة بابها بقوة أجفلته وأخرجته من دهشته، فعقد حاجبيه بضيق وهو ينظر إلى أمه ويهتف بها عاتبا: _أمي بالله عليكِ كيف عشتِ طوال تلك السنوات معها ولم تقومي بإيداعها مشفى الأمراض العقلية؟! ابتسمت أمه بحنان وهي تجيبه: _عاصم! سما أمها ماتت أثناء وضعها، لم تر أُماً غيري، ومنذ ضَعُف بصري وهي تهتم بشئوني كلها مهما كانت، حتى أنني توسلتها مرارا أن تضعني بإحدى دور المسنين كي لا أُرهقها فغضبت مني وهي تقسم لي بأنها لن تتركني أبدا، ولن ترضى لي المذلة، والآن أنت بنظرها من ستأخذني منها لذا رد فعلها عنيف قليلا، أعذرها بني، فهي فتاة أصيلة وحنونة وأعتبرها ابنتي فعلاً. نظر لأمه باستغراب قليلاً ثم انتقلت نظراته تجاه الباب المغلق أمامه بِتفكير صامت.هو حتى الآن لا يعلم كيف سينفصل بالمعيشة عن أبيه وأخته وليس في حاجة لظهور مُعضلة جديدة. دلفت إلى فيلا والدها شاردة في بحث عن حل للمشكلات القادمة حتماً إن آجلاً أم عاجلاً والتي ستطال عائلتها بكل تأكيد، تستطيع التكهن بِموقف والدها، لكن أمها...! "لِمَ تأخرتِ مَوَدَّة؟"أجفلت وهي تلتفت لأبيها بدهشة قائلة: _كنت مع عَمَّار أبي، لقد أخبرتك هاتفياً.اتجه إليها ببطء حتى توقف أمامها مُردداً بِهدوء لم يمنع عبوس ملامحه ولا نظرات عدم الرضا التي يُلقيها بها: _أعلم، لكني لا أفهم ما الذي يدور بينكما، لقد تركتِ بيتك وطلبتِ الانفصال بإلحاح، ثم توقفتِ فجأة عن التحدث بخصوصه، والآن تتقابلان بالخارج مثل المراهقين؟! أخفضت مَوَدَّة رأسها بحرج وهي تجيبه بخفوت: _أي مراهقين أبي؟ هو لايزال زوجي. هتف بها أبوها بضيق: _أعلم أنه زوجك، لكنني لا أفهم طبيعة تلك العلاقة، لو انكِ تصالحتِ معه لِمَ لازلتِ هنا؟ ولو أنكِ على قرارك بالانفصال لِمَ تخرجين معه؟ ولِمَ لا تسمحين لي بالتحدث إليه كي ننهي ذلك الموضوع تماما؟!تململت مَوَدَّة في وقفتها ثم ارتسم الاستسلام بعينيها وردت بألم: _أحبه أبي! لم أحب سواه طوال عمري، ولن أفعل، لن أكرهه، ولن أنساه حتى إن انفصلنا، وهذا هو الأرجح. اجتذبها أبوها بين أحضانه وهو يربت عليها بحنان شديد: _أعرف حبيبتي أنكِ تحبينه، لكنني لا أريد أن تندمي عندما تكتشفين أنكِ قد خسرتِ الكثير في سبيل ذلك الحب، أنا لم يرزقني الله بسواكِ وأتألم عندما أراكِ على تلك الحال. رَفَعَت رأسها تنظر إليه مبتسمة من بين دمعاتها: _لِمَ ليس كل الآباء مثلك أبي؟ لِمَ هناك آباء قساة القلوب على أبنائهم؟ عقد أبوها حاجبيه بضيق وهو يسألها: _هل ضايق عَمَّار إياد؟ أقسم أنني لن أرحمه إن تأثر حفيدي بانعدام مسئوليته.بسرعة أجابت مَوَدَّة:_لا أبي، عَمَّار يهتم بإياد ولا يتحمل أن يطاله أي سوء، صدقني أبي عَمَّار لم يعُد ذلك الشخص الضعيف، لكنه مجرد سؤال طرأ على بالي.زفر أبوها بضيق ثم هز رأسه بنفي قائلاً: _لا مَوَدَّة، لا أعتقد أن هناك من يتحمل الأذى لأولاده، الأب والأم يكونان على استعداد دائم لتحمل أي شيء في سبيل راحة أبنائهما، أنتِ أم وتفهمين ما أعني.هزت مَوَدَّة رأسها بشرود تحاول إخفاء الابتسامة الساخرة التي تناضل للظهور على شفتيها.أما هو، فقد جلس داخل سيارته الرمادية يحدق في تلك التي تجر قدميها بصعوبة بعيدا عن بيت خالها وذلك الرجل الذي ألقى عليها عبارة قاتلة اخترقت أذنيه، ليغمض عينيه بألم وهو يضغط أسنانه بغضب مُتمسكاً بآخر ذرات من الصبر ويُدرك أنها قاربت على الهرب...للأبد! وفي اليوم التالي استيقظ صاحب المحل ليجد الناس متجمعين بالقرب من مصدر رزقه، فاخترق صفوفهم برعب حتى وصل إلى باب المحل ليجد العبارة التالية مكتوبة بطِلاء الحائط فوقه: "يا من تتشدقون بالطهارة، حاسبوا أنفسكم أولا!" أنهى توقيع الكشف على المريض مُبتسِماً وانتظر حتى خرج وأغلق الباب،ثم أغمض عينيه بتعب يتلمس بضع دقائق من الراحة لكنه انتفض واقفا مع اندفاع الباب بتلك المصيبة التي حَلَّت عليه تناظره بحقدها المعهود، فأغمض عينيه بضيق متأففا ثم تمتم بخفوت: _يا إلهي! وأنا كنت قد ظننت أنني قد تخلصت من ذلك الكابوس للأبد! انطلق على الفور هتافها الغاضب: _ما الذي تريده مني حمزة؟ ألم تنتهي قصتنا؟ فتح عينيه رامقا إياها ببرود وهو يجيب: _صدقا دينا كل ما أريده منكِ تلك اللحظة أن تختفي من أمام عيني، وألا تطربيني بسماع صوتك الحاد، وأن ترحميني من عطرك الخانق، وأن أغمض عيني وأفتحهما لأجد نفسي قد نسيت كل ما يتعلق بكِ ونسيت غبائي وفقداني البصر والعقل عندما أذنبت في حق نفسي وأهلي وتزوجتك!اشتعل الغيظ بعينيها كما اعتادت دوماً معه، هي باهرة الحسن تعلم ذلك وتراه في أعين الجميع ، منذ مراهقتها وهي تتلقى نظرات الاستحسان والاعجاب من الكل، إلا هو! هو الوحيد الذي لم يُشعرها بانبهاره بها، الوحيد الذي لم يسقط صريع فتنتها، ولهذا لطالما كرهته! بغيظ عارم سألته:_أتعتقد دكتور حمزة أنه من المروءة أن تتحدث عني مع أصدقائك؟اتسعت عيناه بغضب وهو يهتف:_هل جننتِ أنتِ أم ماذا؟!نظرت له بتحدي وهي تبتسم قائلة:_بِمَ تسمي إذن معرفة دكتور عَمَّار بي؟ وبِم تسمي تهديده إياي ؟لقد أوصاني بنفسه بإبلاغك تحياته، هل انحدر بك الأمر إلى تلك الدرجة؟ ثم مالت على المكتب تبتسم له بإغاظة: _أم تراك تحاول استفزازي كي أعود إليك؟ وتحولت عيناه الغاضبتان إلى الدهشة العارمة ثم.. انفجر ضاحكا! تراجعت للخلف وهي تستقيم وتراقب ضحكاته التي تتزايد بشدة ، ارتفع صدرها في تنفس غاضب وهي تراه يمسح دمعات سالت من عينيه لشدة استمتاعه، وأخيرا عندما تحدث نظر اليها بسرور لم يمنع الاستنكار في لهجته قائلا: _أعود إليكِ؟! أنا أعود إليكِ؟! هل العاقل عندما يغرق في بركة من الوحل ويمُن الله عليه بإنقاذ يعود إليها برغبته مرة ثانية؟! ثم ارتسمت الجدية على ملامحه وهو يتابع: _لقد كنت أكافح وأنا أحاول عدم إظهار راحتي الشديدة عند الطلاق احتراما لرجل كل ذنبه أنه أنجبك! صرخ الغل بملامحها وهي تهتف به: _إذن أنت لا تعرف دكتور عَمَّار؟ وضع قدما فوق أخرى وهو ينظر لها بمكر قائلا: _أنا لم أقل لك أنني لا أعرفه، بصرف النظر عن أنه كان زميلي بالكلية وحضرت معه بعض المؤتمرات فأنا أدين له بجزء من سلامي النفسي وراحة بالي. ثم صمت متعمدا إثارة غيظها أكثر وعاد متابعا بِخفوت: _فهو كان القشة التي قصمت ظهر البعير، كنت أشعر أننا سننفصل يوما ما على كل حال، لكنه كان أحد الأسباب التي جعلتني أُعجِّل بذلك، لذا كما ترين إن كانت هناك حربا قادمة بينك وبينه فبالتأكيد صَفُه ما سأتخذ، فأنا لي ثأر عندك، أم هل تراكِ نسيتِ؟ فغرت فاهها دهشة وهي تحاول ربط كلامه فلم تستطع، بينما وقف هو ببطء محدقا بها بتحدي وهامساً بتشديد: _يبدو_سيدة دينا_ أنكِ ستبدئين بتسديد ديونك كلها بدءاً من الآن!شحب وجهها والذعر يحتل ملامحها بلحظة وبخوف واضح تراجعت إلى الخلف، وبدون كلمة إلى الخارج هرولت، فارتخت ملامحه المتسلية ليحل محلها قلق شديد، ثم أخرج هاتفه من جيب بنطاله وطلب رقمها. "إلى اللقاء إياد!"ودعت الطفل الوافد الجديد إلى فصلها بابتسامة ثم خرجت لتعود إلى مسكنها، وعندما خرجت من المركز شعرت باهتزاز هاتفها فالتقطته لتطالع اسم حمزة لتجيبه بقلق:_نعم حمزة؟ أتاها صوته المتردد: _مرحبا رهف، كيف حالك؟ والتردد بنبرته لم يخف عليها فقالت سريعاً: _أنا بخير حمدا لله، هل..هل هناك ما حدث؟ صمت لثوان ثم تحدث بهدوء: _اسمعي رهف!، أنا أشعر بالقلق الشديد من أجلك، هناك شقة فارغة في إحدى البنايات التي يمتلكها والد صديقي، بباب حديدي وحارس، أعتقد أنها ستكون أكثر أمانا من الغرفة التي أخبرني عنها عم صلاح. زفرت بتعب قائلة: _لا حمزة، أنا لا أريد الهرب، أنا لم أفعل شيئا كي أظل أعاني ظلم الآخرين لي، شكرا لتفكيرك واهتمامك، أنا بخير تماما.لكنه أصر: _أرجوكِ رهف فكري جيدا، الشقة حالتها جيدة ولا تقلقي بشأن الإيجار على الإطلاق. ابتسمت بضعف وهي ترد: _حاضر حمزة، سأفعل، إلى اللقاء. وضعت هاتفها بحقيبتها والتفتت لتتجه إلى موقف الحافلات فطالعتها العينان الخضراوان لكنهما غاضبتان وبِشدة!وبذلك الغضب الذي حاول التحكم به سألها: _من يكون حمزة؟! وأمام أحد المصالح الحكومية خرج صلاح ليجد سيارة رمادية تسد الطريق بينما هتف صاحبها به مناديا باسمه فالتفت إليه محاولاً التعرف عليه وسأله باستغراب: _هل تناديني بُني؟ وصل إليه عَمَّار ووقف أمامه مبتسما بأدب وهو يرد: _نعم أستاذ صلاح، كيف حالك؟ ضيق صلاح عينيه بحذر وهو يجيبه: _حمدا لله، أعذرني بني، هل أعرفك؟ حك عَمَّار شعره بحرج وهو يجيب بتوتر: _لا.. أقصد نعم..آ.. هل من الممكن أن نتحدث بمكان ما؟ ازدادت دهشة صلاح وهو ينظر له هاتفا بنفاد صبر: _ألا يحق لي معرفة من تكون أنت أولا؟ مط عَمَّار شفتيه بقلق وهو يجيبه: _دكتور عَمَّار. وعندما طالع ملامح عدم الفهم على وجه الرجل أكمل: _دكتور عَمَّار شديد الناجي! انتفض صلاح إلى الخلف وهو يحدق به برعب فعاجله عَمَّار هاتفا: _لا تجزع، أنا لم آتِ بسوء، أردت فقط التحدث معك.صرخ به صلاح:_ماذا تريدون منا بعد؟ ابتعدوا عنا! كفى أذى بي وبالمسكينة التي لا تستحق كل ما فعلتم بها، اتركوها بحالها فقد عانت الكثير بسببكم. بلهفة خاطبه عَمَّار: _استمع إلي أرجوك، أقسم أنني لن أؤذيها، أنا .. أنا أريد تعويضها، أريد أن أجعلها تنسى كل ما تعرضت له. بغضب رد صلاح: _هل تهزأ بي؟! ألا يكفي ما فعلتم بي وأمام أهل بيتي؟ ألا يكفي إحضاركم المجرمين وتهجمكم علينا؟ الآن تقول أنك تريد تعويضها؟ هل تراني أحمق؟! صرخ عَمَّار بعذاب:_لم أكن هناك! أقسم لم أكن موجودا وأنت تعرف، أنا حتى لم أكن أتخيل أن يحدث ذلك أبدا، لم أكن لأسمح بالأذى لك أو لرهف، أنت لا تدرك كم أتعذب أنا منذ ذلك اليوم! لم أعد أستطيع النوم بسبب الكوابيس التي تهجم عليّ وأنا أراها تحترق بالنيران بينما أنا عاجز ضعيف لا أستطيع إنقاذها، لست أنا من أريد بها غدرا عم صلاح، والله لست أنا.نظر له الرجل بشك يُطالع الصدق الذي يقفز من عينيه، وزفر حانقا: _وماذا تريد مني الآن؟ اقترب منه بلهفة مجيبا: _أريدك أن تأخذني إليها، أعلم أنني إن حاولت التقرب منها ستنفر مني تماما، وهي لا تثق بسواك، لذا أريدك أنت أن تطمئنها تجاهي.وبسخرية قابله: _وإذا كنت أنا نفسي لا أطمئن لك؟ كيف أفعل ذلك؟ هتف عَمَّار حانقا متألما: _ما الذي يمكنني فعله حتى تصدق أنني لست سيئا؟ ما الذي يمكنني تقديمه كي تتأكد أن نواياي تجاهها عكس ما تعتقد تماما؟عم صمت قاتل وعَمَّار ينظر له بتوسل شديد حتى زفر صلاح بيأس بعد لحظات هاتفاً: _أنت لا تدرك كم تكرهكم!والرد جاء سريعا: _أدرك تماما! ويحق لها، سأصبر وسأتحمل حتى أكتسب ثقتها.بتخاذل رد صلاح:_امنحني بعض الوقت كي أقوم بتهيئتها نفسيا أولا، الفتاة عانت كثيرا بسببكم ولن تتقبل الأمر بسهولة.هز عَمَّار رأسه بسرعة وابتسامة واسعة شملت وجهه كله مرددا بفرحة ظاهرة: _كما تريد أستاذ صلاح، لكن أرجوك لا تتأخر عليّ، فأنا أتعذب كل يوم بينما هي ليست معي. نظر له صلاح شزرا ثم أولاه ظهره وانصرف بدون كلمة واحدة.أما هو فقد مسح وجهه بكفيه وصورة واحدة ترتسم بعقله لحظة اجتماعه بها مرددا:"لن أتركك رهف، سأعوضك وستبقين معي حبيبتي!" "من يكون حمزة؟" نظرت له بدهشة متسائلة: _نعم؟ فأعاد سؤاله والغضب يتقافز من مقلتيه: _لقد سمعتني رهف، من هو حمزة الذي كنتِ للتو تحدثينه؟ ولا تعلم لِمَ أجابته ببساطة: _إنه.. إنه جارنا، أقصد كنت أنا جارته، وهو أيضا كان متزوجا من ابنة خالي. ارتفع حاجبيه بدهشة وهو يسألها بصرامة: _كنتِ جارته وكان قريبك، لكنه لم يعد هذا ولا ذاك؟! هزت رأسها بتلقائية وهي تحدق في عينيه اللتين تشتعلان ببريق غاضب فازدادت حدة نبرته وهو يعاود سؤالها: _وطالما العلاقات انتهت لِمَ يُحدثك؟ ولِمَ تشكرينه بتلك الحرارة؟ وعلام ذلك الاهتمام منه بك؟ هنا ضاقت عيناها وعقدت حاجبيها بدهشة وهي تجيبه بسؤال: _عفوا! لماذا تسأل أنت كل تلك الأسئلة؟ علام تُحاسِبني لا أفهم؟! ثم استدركت بانتباه: _لحظة! لِمَ أتيت اليوم بالأصل؟ مريم ليس لديها أية حصص. هتف بغضب:_من أجلك أتيت! تعلَّقت نظراتها به لِثوان وسألته بِحَذر: _من أجلي أنا؟ لماذا؟ اقترب منها متحدثا بخفوت غاضب: _هل تعلمين كيف انقضت ليلتي بعد سماع صوتك الباكي بالأمس؟ هل تدركين مدى العجز الذي شعرت به وأنا لا أستطيع التواصل معِك بعد أن أغلقتِ الهاتف تماما؟ هل تعلمين مقدار الخوف الذي تملكني وصوتك المتألم المنتحب لا يبرح أذناي منذ ساعات حتى رأيتك أمامي الآن سالمة؟وكان الرد الغبي الذي انطلق على لسانها بدون تفكير: _انتظر لحظة! صحيح!من أين أتيت برقم هاتفي من الأساس؟عض على شفتيه بغيظ واتسعت فتحتا أنفه، استشعرت العنف الذي يكبته بصعوبة، بينما خرج رده أكثر غرابة ودهشة:_لقد ظل هاتفك معي لعدة أيام ! أنتِ كيف يسمحون لكِ بتدريس أجيال؟ تُرى أي عقول تفكر بالعكس سيمتلكها هؤلاء المجني عليهم؟ ضيقت عينيها بشك وهي ترد بخفوت: _أشعر أنك تسخر مني! هنا أولاها ظهره بسرعه وهو يمسح على وجهه بقوة مرددا بخفوت: "يا لحظك الرائع ساري!" حدقت بظهره بِتوجس حتى التفت إليها مرة أخرى قائلا وهو يجز على أسنانه بغيظ: -لنعود إلى البداية! ماذا يريد منكِ هذا الجار سابقا؟ فانطلق صوتها حانقا:_وما شأنك أنت؟! هتف ساري بحنق رافعا رأسه إلى السماء: _ألهمني الصبر يا الله! ثم نظر إليها بابتسامة صفراء أثارت قلقها: _رهف، هل من الممكن أن تجيبيني بدون أن تثيري حنقي؟ نظرت إليه بصمت فزفر بضيق وهو يخفت حدة صوته: _أرجوكِ رهف أخبريني، ما علاقتك به؟ رمقته بنظرة بها مزيج من الدهشة وبوادر فهم ثم .. أمل! الترقب في عينيه ممتزجا بالتوتر مع علامات الأرق على وجهه يُثيرون بداخلها مشاعر غريبة تجتاحها للمرة الأولى بحياتها.. يريد المعرفة_ليس بدافع الفضول_ وإنما...! ازدردت لعابها وهي تقرر منحه راحة لم تتيقن بعد من سبب افتقاده لها ثم خرج ردها متقطعا: _لو.. لو كان لي أخ، فسيكون حمزة! والابتسامة التي أخذت تتسع بالتدريج على محياه تراقصت على ألحانها دقات قلبها والأمل يكتسح دواخلها، وليُزيد من توترها اقترب هو خطوة مُطالبا بتأكيد: _أخ فقط؟ تزامنت إيماءة رأسها مع إجابة لسانها الرقيقة وهي لا تجد_أو لا تريد_ من عينيه مهربا: _أخ فقط. وتلك المرة لم يولِها ظهره وهو يردد بابتسامة تسببت في جفاف حلقها: _"يا لحظك الرائع ساري!" توردت وجنتاها واضطربت عيناها وهي تتراجع إلى الخلف خطوتين فعاجلها : _ماذا يريد منك هذا "الأخ"؟ والكلمة الأخيرة لم يكن يقصد بها علاقة القرابة، فالغيظ بعينيه واضح ، أيعقل أنه بالفعل....؟ خرقاء أنتِ يا رهف وستظلين خرقاء!، هل نسيت من تكونين؟ أفيقي يا فتاة حتى لا تتلقي صدمة أخرى، فلم يعد قلبك يتحمل على أي حال._كان يعرض عليّ مكان للإقامة.عقد حاجبيه بدهشة قائلاً:_لا أفهم! أستتركين بيت أهلك؟ والسؤال أخرجها بالكامل من حالة الأمل التي انتابتها، فنظرت له بتمعن وازداد عنف تنفسها وهي تقرر التخلص من تلك الحالة الغريبة التي تتلبسها في حضوره، فأجابت بهدوء:_أنا أسكن بمفردي. وازدادت دهشته وهو يسألها ثانية: _وأين أهلك؟ فجاءته الإجابة بسرعة تُلقي حملاً ثقيلاً عن كاهلها: _كنت أعيش مع خالي، وتركت بيته منذ بضعة شهور. لكن إجابتها لم تشبع فضوله كما يبدو لأنه صمم متسائلاً بتشديد:_رهف قصدت أين أبوكِ وأمكِ؟ والعينين التمعتا بدمعات متحسرة، والشفتان ارتجفتها بقهر واضح، فحدقت بعينيه بجرأة مُوَدِّعة، والإجابة خرجت على الفور قاتلة:_أمي انتحرت أثناء طفولتي بعد أن حمَّلتني ذنباً أدفع أنا ثمنه حتى الآن، وأبي لا يريدني، فقد تبرأ مني منذ مولدي ولم يعترف بأبوته لي! والصدمة على وجهه كانت بديهية، جسده الذي تخشب للحظات أنبأها عن وقع عباراتها عليه، عيناه اللتان اتسعتا بذهول حتى نسى أن يُرفرِف بأهدابه أوصلتا إليها رأيه بما سمع، صدره الذي أخذ يرتفع ويهبط في تتابع سريع أعطاها فكرة ما عن وقع مفاجأتها، طالت الثواني وهي تنظر له بدمعات متحجرة بينما هو كالصنم أمامها، فاحتضنت كتبها بذراعيها وبدون كلمة رحلت!! ومن بوابة الفيلا الضخمة دخل والأمل يشع بصدره، وعندما صعد أول درجتين أوقفته صيحة حازمة: _عَمَّار! أغمض عينيه وهو يضغط أسنانه بغضب، وببرود شديد التفت قائلاً:_نعم شديد بك؟ اقترب منه الرجل ببطء عابس الوجه كعادته هاتفا: _أين كنت؟ والرد جاء سريعاً و.. وقحا:_ألم يخبرك رجلك بتحركاتي كلها؟ عَنِّفه إذن كي يصبح أكثر إتقانا في عمله. ليرد أبوه باشمئزاز:_لقد سئمت منك ومن تهورك، احذرني عَمَّار فأنا لا أتسم بالصبر! ابتسم عَمَّار وهو يحدق بعينيه مُعَلِّقَاً بسخرية: _الصبر؟! مالك والصبر شديد بك؟ للأسف أنت لا تمتلك منه شيئا. ثم أردف بتحدي:_وللأسف أكثر ربما قريبا ستحتاجه. التمع الشر الخالص بعيني أبيه وهو يهتف من بين أسنانه: _أنا أعرف علام تنتوي عَمَّار، فهل تعرف أنت كيف يمكنني أذيتها؟والتحدي ارتسم على وجه ابنه بأقوى صوره وهو يجيب:_لا أحد يعرف بِقدري مدى قسوتك وشِدتك يا أبي، فأنا قد تشربتهم لسنوات على مهل حتى أصبح بإمكاني توقع تفكيرك وخططك وتحرُكاتك كلها، لكن أنت من لا تعلم إلى أي مدى أصبح بإمكاني أن أصل في سبيل استعادتها وتعويضها.صرخ شديد بِغِلّ: _إنها لقيطة!! ليُجابهه عَمَّار بصراخ أشد: _إنها أختي!!