*السّاري* *العمود.. مسافر الليل لا تنبش الأسرار!لا تحفر الجدار!لا تبحث خلف الواجهة اللامعة!فالأبيض يغشي العينين عن السواد؛والأسود يكدر نقاء البياض!هنا القانون.. وهناك روح القانون؛هنا اللحظات الحاسمة..وهناك سنوات شقاء المَظْلَمَة!هنا دماء أُهدِرَت.هنا ضحايا قُتِّلَت هنا أرواح بعيداً للأبد حَلَّقَت..شاكية، يائسة، مُكَمَّمَة، مُكَبَّلَة؛والحقوق؟! واجبة!والعدالة؟! غائبة!وهل أملك اختيار؟! منذ ثمانية عشر عام:"هيا سارة! لا تزيدي في إرهاقي، رددي اسمك خلفي أرجوكِ: ســــــارة!" قالتها سوسن برجاء واضح لطفلتها ذات الستة أعوام التي يتعلَّق نظرها كله بشقيقها التوأم الراقد في فراشه، هَزَّت الصغيرة رأسها رفضاً ثم همست ببطء متلعثم مُشيرة إليه: _ســــا..ســـامــــر!زفرت سوسن بحنق ثم تراجعت إلى المقعد بحركتها البطيئة وتوسلتها بحنان:_حبيبتي، أريدك أن تنطقي اسمك أنتِ، ألا تريدين الذهاب إلى المدرسة مثل جميع الأطفال؟هَزَّت الطفلة الصامتة رأسها نفياً فزجرتها سوسن بعصبية:_لا تهزي رأسك سارة، قولي نعم أو لا! طأطأت سارة رأسها أرضاً وهطلت دمعاتها في صمت فأحاطتها أمها على الفور مرددة بخفوت:_أعتذر حبيبتي، لا تحزني!، لكنني أريد أن أسمع صوتك، ألا تريدين أن تتحدثي مثل أخويكِ؟أومأت سارة برأسها إيجاباً في صمت فاستحثتها أمها وهي تأخذ إحدى يديها وتضعها على بطنها المتكورة قائلة بحماس:_ألا تريدين أن تغني لسلمى ما إن تصل بعد أيام؟ارتفعت رأس سارة والحماس انتقل إليها واضحاً، بان الجهد الذي تحاول بذله وهي تتمتم بحشرجة: _ســـ..ســـلـــمـــى!دمعت عينا سوسن بفرحة وهي تمازحها هاتفة بسعادة غامرة:_إن علم ساري أنكِ اليوم نطقتِ اسم سامر وسلمى بينما لم تفعلي المثل مع اسمه سيغضب كثيراً!هَزَّت سارة رأسها نفياً بقلق واضح، فتحت فاهها تحاول بصعوبة نطق اسم شقيقها الأكبر، الحنون، الذي يهتم بها وبتوأمها طوال الوقت حاولت بجدية؛حاولت بقوة؛حاولت بإصرار؛لكن.. لم يصدر عن حنجرتها الضعيفة سِوى:_ســـ... ودمعاتها البريئة أكملت بقية الاسم.طفلة صغيرة ضعيفة كأي مثيلة بنفس عمرها؛طفلة رقيقة هادئة أكثر جداً من أي مثيلة بنفس عمرها!ورغماً عنها!طأطأت رأسها ثانية بِعجز، ليس لِسنواتها القليلة سبباً به، إنما لضياع قدرتها عن التعبير كأي أخرى بنفس عمرها!استند صبري على أقرب جدار مغمض العينين وهو يحاول السيطرة على الإرهاق الشديد الذي ينتابه منذ الأمس بسبب ارتفاع ضغط دمه، التفكير يؤلمه والحيرة تقتله وهو لا يجد حلاً للمصيبة التي طرأت على أسرته مؤخراً، يحاول بكل الطرق تدبير الأمر فلا يستطيع.انتبه على تربيته خفيفة فوق ذراعه فالتفت ليبتسم بتعب شديد لابنه:_ما الذي جاء بك إلى هنا ساري؟ ألم تُنهي اختباراتك اليوم؟ لماذا لم تخرج مع أصدقائك؟أجابه ابنه بابتسامة غير مبالية:_أنا لا أود الخروج أبي، أتيت إليك كي نعود إلى المنزل سوياً، وربما.. ربما أراد أحد التجار تحميل سيارته فأسلّي وقتي يُسلّي وقته!!نظر صبري إلى ابنه بإشفاق مشوب بفخر شديد، ابنه الأكبر، بل صديقه والسند الذي أخذ على عاتقه مشاركته مسئوليته..يشعر أنه رجل كبير وليس مجرد صبي في الرابعة عشر، فبينما مشكلات الآباء مع ابنائهم هروبهم من المدرسة أو دروسهم الخصوصية، أو ظهور بوادر تمرد مرتبطة بمرحلة المراهقة، كانت مشكلته الوحيدة مع ساري اكتشافه عمله باليومية في وظائف مختلفة عدة مرات..لا يطلب منه أية مصاريف، لا يُعذبه ولا يرهقه بأية طلبات،منذ ستة أعوام وقد بدأ يعتمد على نفسه مادياً كيفما استطاع، وكلما واجهه باعتراض يخبره أنه..يُسلّي وقته!زفر يائساً وهو يراقبه قد عرض مساعدته بالفعل على أحد التُجار ثم بدأ يحمل بعض الأخشاب على إحدى كتفيه ليضعها فوق سيارة النقل الكبيرة، كان التعب يبدو جلياً على ملامحه الفتية لكنه يحاول جاهداً عدم إظهاره. شعر صبري بوخزة بقلبه وهو يرى ابن الحاج محمود صاحب المصنع يصطحب ابنه الذي يكبر ساري بعامٍ واحد ويقوم بتعريفه على مرافقيه.الصبي يمسك بيده أحد أجهزة الألعاب الإلكترونية التي انتشرت مؤخراً وينهمك في اللعب عليها تماماً، بينما ساري على بُعد بضعة أمتار منه يحمل أثقالاً تفوقه وزناً كي يتحصّل على بعض الجنيهات ليعطيها لأمه في الخفاء ظنّاً منه أنه لن يعلم!استغفر بضيق وهو ينهر نفسه ويحمد ربه على حاله، فهو أفضل من غيره بِعدة مراحل، ثم ابتسم بضعف وهو يرى حفيد صاحب المصنع يتجه إلى ساري الذي أنهى عمله ويقف لاهثاً يتصبب منه العرق بغزارة محاولاً التقاط أنفاسه.نظر ساري بابتسامة مهذبة إلى الصبي الذي يتطلع إليه بدهشة، فهتف به الأخير بفضول:_ أنت تعمل هنا، أليس كذلك؟أومأ ساري برأسه وهو لا يزال يلتقط أنفاسه بصعوبة فتابع الآخر:_هل أستطيع أن أعمل مثلك؟رد ساري ببساطة:_نعم تستطيع بالطبع، التجار هنا كثيرون والحمّالون قليلون، إن عرضت على أحدهم تحميل بضاعته فوق السيارة لن يرفض، لكن سأسدي لك نصيحة! يجب أن تكون جيداً في المساومة، لأنهم يعتقدون أن أمثالنا يسهُل خداعهم بسبب السن.اتسعت عينا الولد بانبهار وهو يرد مبتسماً ببشاشة:_شكراً، أنا سأفعل ذلك بالتأكيد، ربما استطعت بناء بعض العضلات مثلك. ابتسم ساري بود بينما تابع الصبي وهو يمد جهازه تجاهه: _أتريد اللعب عليه قليلاً؟ إنه صدر مؤخراً، أُسلِّي وقتي به. تردد ساري وهو ينظر إلى الجهاز الذي سمع عنه من بعض زملائه بالمدرسة ثم سأله بخفوت:_هل ستسمح لي؟! اتسعت ابتسامة الصبي بترحيب وهو يضعه في كفه قائلاً: _طبعاً، العب به كما تشاء، أنا لدي واحد آخر بسيارة أبي.أمسك ساري الجهاز بين يديه وهو يضغط أحد أزراره بلهفة شديدة، لكنه في نفس اللحظة لمح سيارة نقل فارغة كبيرة تدخل إلى باحة المصنع..نقل أنظاره بين الجهاز بين يديه والسيارة التي توقفت بالفعل وهو يفكر."لقد أصبح معي مالاً يكفي بالفعل لطعام غداً وبعده، وربما بعض الحلوى لسامر وسارة، أستطيع اللعب قليلاً."لحظات فقط مرت حتى زفر بحسرة وهو يُعيد الجهاز إلى صاحبه الذي نظر له بدهشة قائلاً:_ألم تستطع اللعب؟ يمكنني أن أعلمك!مط ساري شفتيه بشبه ابتسامة مُتحسّرة: _لا! شكرا! لقد تذكرت أنني لستُ متفرغاً، ربما في مرة أخرى.ثم مد يُمناه إلى الولد مصافحاً بابتسامة: _أنا ساري صبري رشوان.صافحه الصبي ببشاشة وهم بالرد عندما انطلق من خلفه صياحاً غاضباً:_عَمَّار! التفت عَمَّار بذعر واضح إلى الرجل الذي يُقبل تجاههما بغضب صارخاً:_ألم أنهَك من قبل عن التحدث مع العاملين بالمصنع؟! ألا تفهم أنك حفيد رب عملهم؟ إنهم يعملون لديك يا أبله!تلجلج عَمَّار بحرج مختلساً النظرات إلى ساري الذي عَبَر الألم وجهه فأخفاه على الفور، بينما تابع شديد:_هيا تعال معي إلى مكتب جدك، هيا! وانصرف الرجل فوراً بدون النظر إلى ابنه أو رفيقه، رفيقه الذي يحاول كبت دموعاً أُهين صاحبها ولا يعلم.."لِمَ؟!" التفت عَمَّار له بتوتر ثم قال مُصافِحاً، آسفاً:_لا تحزن، أبي عصبي بعض الشيء، أنا.. أنا عَمَّار شديد الناجي، سأراك ثانية بالتأكيد، وفي المرة المُقبلة سأُحضر الجهازين معاً كي نتنافس سوياً في أحد أركان الباحة، ما رأيك؟أومأ ساري برأسه موافقاً برغم عِلمه بأن ذلك لن يحدث، وعندما انصرف عَمَّار لاحقاً بأبيه زفر بقوة ماحياً ما حدث منذ قليل من عقله، ثم اتجه إلى التاجر الذي يبحث بعينيه عن حمّال ما هاتفاً بصلابة:"مرحباً! أستطيع أن أتوَلَّى حمل بضائعك كلها خلال نصف ساعة لا أكثر!" "كُفّي عن البكاء يا سوسن أرجوكِ، سيدبر الله الأمر، اهدئي حتى لا تسوء حالتك أنتِ أيضاً!"قالها صبري بحنان لكن زوجته لم تتوقف عن البكاء وهي تستغفر في نفس الوقت، فاقترب منها يربت عليها برفق ، ثم ضمها بين ذراعيه فزفرت بتعب مخاطبة إياه:_ماذا سنفعل يا صبري؟! لا أجد حلاً، رأسي سينفجر من التفكير، لا أستطيع تخيل أن يحدث سوءاً لابني!لثم صبري رأسها بِحُب وهو يتحدث بنبرة هادئة، بالرغم من الهلع الذي يكتنف قلبه:_إن شاء الله لن يحدث شيء له، سنقوم بإجراء العملية وسيشفى تماماً، وسيشب مزعجاً يتشاجر طوال الوقت مع إخوته، وسترين صدق ما أقوله لكِ! لم تستطع تصديق آماله، لم تستطع مبادلته ابتسامته المفتعلة، لم تستطع إيجاد حلاً أبدا فهتفت وهي تهب واقفة قدر ما أسعفتها صحتها:_كيف سنفعل يا صبري؟ أخبرني كيف سندبر ثمن العملية؟ كيف سنواصل جلسات التخاطب لسارة؟ نحن حتى لا نملك ثمن عملية الوضع وبقى أسبوعان فقط وأبدأ بشهري التاسع، من أين سنحصل على كل تلك المصاريف؟ من أين؟"أنا لدي سبعون جنيهاً!"هتف بها ساري شاحب الوجه مُتحرجاً، بينما كان يتظاهر بتصفيف شعر سارة وجرَّها إلى التحدث، فهتفت به أمه بحنق:_اسكت يا ساري!لكنه تابع بحماس: _لقد بدأت العطلة الصيفية، أي أنني متفرغ طوال اليوم، أستطيع العمل بالمصنع مع أبي طوال النهار ثم أعود للعمل في ورشة عم صقر بالفترة الثانية، أستطيع تدبير مصاريف بعض جلسات سارة، أستطيع المساهمة في ثمن عملية سامر عندما أتسلَّم أول راتب، وربما استطعت المساهمة في عملية وضعك يا أمي، ما رأيكما؟نظر له والداه بألم شديد وانتحبت أمه ببكاء أشد، بينما اقترب منه والده واجتذبه إلى أحضانه قائلاً:_أنت صديقي يا ساري، أنت رجل وأنا فخور بك، لكنني أحتاج منك أن تظل مع أمك وإخوتك تلك الفترة وأنا في العمل كي أكون مطمئناً، أخاف أن يتعب سامر أكثر أو تتعرض أمك لآلام المخاض وكلانا بالعمل، اتفقنا؟ويبدو أن ابنه لا يريد النطق بوعد لن يلتزم به، فقد ظهر عدم الاقتناع على وجهه لكنه رغماً عنه نطق بخفوت:_اتفقنا! أنهى صبري عمله وهو يشعر ببوادر ارتفاع ضغط دمه بعدما تم رفض منحه سُلفة يحتاجها الآن أيما احتياج، فآثر العودة إلى المنزل مسرعا بصحبة ابنه الذي لم ينفذ اتفاقه معه بالطبع.رمقه ملياً بجانبي عينيه دون أن يلاحظه ابنه مستغلاً إنهاكه الشديد وحاجته الواضحة إلى الراحة؛لو بيده لم يكن ليسمح له أبداً بأن يُفني فترة طفولته ومراهقته يعمل بمشقة تفوق مشقة الكبارأحياناً؛لو بيده لكان أجبره ألا تطأ قدماه أرض المصنع فيتعرض للذل والإهانة من بعض التجار؛لو بيده لكان أغدق عليه بكل ما يستحقه من رفاهية ومعيشة رَغدَة مع إخوته؛الذنب يتغذى عليه.. والحيرة تقتات على روحه؛ لكم كان بعيد النظر حينما اختار له اسمه.العمود الذي تشتد به سفينة أسرته، والأمان الذي يقف معه بوجه عواصف حاجاتهم وابتلاءاتهم..ولا يقوى سوى على الابتهال بأن يحفظه له، وتضع زوجته طفلتهما القادمة بالسلامة، ويستمع لكلمتين متتاليتين بدون تلعثم من سارة..وأن يستطيع إنقاذ سامر قبل أن يستسلم قلبه! لكن للأسف ليس بإمكانه شيء!وأثناء خروجهما لمح صبري سيارة ابن صاحب المصنع تقف بالباحة الخلفية فتغاضى عن شروده شاعراً بدهشة من وجوده بتلك الساعة وهَمَّ باستئناف طريقه لكنه فكر أنه ربما يحتاج شيئاً ما بذلك الوقت المتأخر.الحاج محمود والده له أفضال كبيرة عليه ويثق به ثقة عمياء، التفت بصحبة ابنه عائداً إلى حيث يقف شديد بك ابنه، لكنه عندما اقترب أكثر اكتشف أنه لم يكن بمفرده، هذا شوقي أيضاً أمين المخازن الذي حياه بنفسه مُودعاً منذ ساعتين!وبينما أوشك على فتح فمه بتحية عابرة لكليهما وصلت إلى مسامعه عبارة شديد الخافتة:_لن يعلم أحد بشيء لا تخف!، الحاج أصبح مريضاً ولا يُدقق في تلك الحسابات، والأوراق معي أنا، وقّع فقط بالاستلام ولا تقلق، والمكسب من تلك الصفقة لك به السُدس، ما رأيك؟لم يكن الأمر بحاجة إلى الكثير من الذكاء ليدرك صبري فحوى ما يجري بالخفاء،فأشار إلى ساري فوراً بالتزام الصمت وانتبه بشدة حينما اعترض شوقي الذي أدرك صبري أنه كأمين المخازن بالمصنع _ ربما ليس بأمين تماماً_:_السُدس؟ هل تمزح معي شديد بك؟ إن أدرك الحاج محمود أو راجع الأوراق أنا وحدي من سيذهب إلى السجن، لن أقبل بأقل من الربع!صاح به شديد:_كيف تتحدث معي بذلك الشكل يا شوقي؟ وما الذي تغير تلك المرة؟ كنت دائماً ما تقبل بالسُدس!تلك المرة؟!ودائماً؟! نظر صبري إلى ساري الذي لا يفهم شيئاً بصدمة شديدة بينما احمرّ وجهه تماماً وارتفعت دقات قلبه شاعراً بدوار وشيك فتمسك به ابنه بقلق واضح لكنه ابتسم له بضعف كي لا يشعر أحد بوجودهما، بينما تابع شوقي بِنبرة ابتزاز واضحة:_المكسب تلك المرة أربعة أضعاف، ويجب ألا تطمع به وحدك شديد بك، ماذا قلت؟ هل أوقع أم أعود إلى بيتي؟حدّق صبري بنظرة الشر التي ارتسمت على وجه شديد قبل أن يهتف بحنق:_وقّع يا شوقي، لكنني لن أسمح بابتزاك مرة ثانية.ولم يكلف شوقي نفسه عناء الرد وهو يوقع الأوراق والطمع يقفز من عينيه بلهفة.هل هؤلاء أشرار يا أبي؟"ألقى ساري السؤال على أبيه الذي يستغفر ويحوقل منذ خرجا من المصنع، فأجابه بشرود وهو يسير بجواره في طريقهما إلى المنزل:_لصوص يا بني، هم لصوص! ظهر التفكير على وجه ساري للحظات ثم هتف بحماس ظاهر:_إذن لِم لا نُسلّمهما إلى الشرطة؟، ربما يعطوننا مكافأة نستطيع بها علاج سامر، وتكثيف الجلسات لسارة حتى تتحدث قريباً، وتلد أمي بمشفى جيد.نظر صبري إلى ابنه بتفكير شديد ثم هتف:_أتعلم؟! أنا.. أنا لا أستطيع السكوت عن الحق، سأبلغ أبيه، الحاج محمود لا يجب أن يظل مخدوعاً في ابنه الذي يسرقه أكثر من ذلك. ابتسم ساري وهو يسأل أبيه:_وهل سيعطينا الحاج محمود المكافأة؟خلل صبري شعر ابنه مرددا:_سنفعل الصواب يا ساري ولن ننتظر المقابل، ما عند الله لا يضيع أبداً.قابعة أرضاً أمام شقيقها ذي الملامح المتطابقة والذي يبدو عليه التعب أكثر من المعتاد هذا اليوم؛فتحت فاهها رغبةً في ندائه لكنها أغلقته ثانية باستسلام؛تصلها أصوات الأطفال الذين يتصايحون ويلعبون خارجاً وتتمنى لو تستطيع التحدث بحُرية مثلهم.تعالى رنين جرس الباب بإصرار فهرولت الصغيرة إلى الباب وفتحته بفرحة مستعدة لارتمائها في أحضان شقيقها الأكبر والحصول على الحلوى اليومية التي يحضر منها اثنتين دوماً، لها ولِسامر.. لكنها وجدت أمامها ذلك الرجل صاحب.. البنية الضخمة؛ والملامح العابسة المخيفة القاسية؛وبالرغم من أن سنواتها لم تتعد الست بعد، إلا أنها استشعرت الخطر الذي ينضح منه بتلقائية!تراجعت الطفلة برعب حينما ارتفعت صيحة أمها من الداخل:"ألم أنهَك عن فتح الباب يا سارة؟!" خرجت سوسن بحركتها المتثاقلة من المطبخ معتقدة أن شقيقتها أنعام جاءت لتزورها لكن بدلاً منها طالعها وجه أثار خوفاً غريباً بداخلها فسألته بقلق:_من تكون حضرتك؟وصيحة ضعيفة خافتة من الطفل المريض أتبعت سؤال أمه:_أمي، أنا خائف، أنا أشعر بالألم. وكلماته التي تخللتها أنفاسه اللاهثة لم تصل إلا إلى سارة، ربما لم تسمعه أيضاً، لكنها..شعرت به!وبمنتهى الغضب صاح الرجل بسوسن:_أين هو زوجك؟خرج صبري من غرفته مسرعاً بعدما سمع الصوت الرجولي بالخارج، وعندما توقف أمام شديد ازداد قلقه وهو يسأله:_لِمَ جئت إلى هنا شديد بك؟اندفع الرجل فجأة مُمسكاً صبري من تلابيبه صائحاً:_كيف تجرؤ على الوشاية بي لدى أبي؟ كيف تجرؤ على التلصص عليّ؟ كيف فعلت ذلك؟ ألم تستطع طلب بعض المال مني وتتظاهر بعدم معرفة شيء؟ كنت أستطيع أن أعطيك، كيف جرؤت على أن تتحداني؟ابتعدت سارة إلى أقصى ركن حيث شقيقها التوأم سامر تختبىء بجواره لتجده ينظر إلى الرجل برعب مثلها وهو يلهث بسرعة ويكافح للتنفس هامساً:_سارة، أنا خائف!رفعت أنظارها إلى أمها فوجدتها تتشبث بأبيها بمواجهة ذلك الوحش صارخة:_ابتعد عنا! كيف تهجم على بيوت الناس؟ سأصرخ وسيلقيك الجيران بالخارج! انطلقت سارة إليها جرياً تجذب جلبابها بيد وتشير بالأخرى إلى توأمها متفوهة بالكلمة الوحيدة التي استطاعت اختطافها من صوتها بأقصى جهدها:_ســ..سامر!وسامر كان يلهث؛بشدة يلهث؛والدماء تنحسر من وجهه؛والعرق يتصبب منه..بينما اندفع ساري إلى الداخل بعد أن وصل لتوه من عمله الإضافي صارخاً:_ابتعد عن أبي، لِمَ تتشاجر معه؟لكن شديد كان يصرخ بصبري موجها إليه سباب بأقذع الألفاظ، وموجهاً إليه بعض اللكمات..صبري يختنق هاتفاً بِحشرجة وعيناه تهربان إلى ابنه الأصغر قائلاً بنبرة متقطعة:_انزع يديك.. القذرتين عني!وسوسن تبكي صارخة:_ساعدونا! سيقتل زوجي!ساري يحشر نفسه بين أبيه ومهاجمه هاتفاً:_اترك أبي أيها اللص!سامر يلهث أكثر حتى ابيضَّ وجهه تماماً هامساً بحشرجة:_ساري! أشعر بالألم، لا أستطيع التنفس!وساري كان يكافح لإبعاد ذلك الحقير عن والده..وسارة تجذب ساري من ملابسه قائلة بذعر واضح:_ســ..سامر!وصرخت سوسن وهي تلاحظ ابنها الأصغر الذي لا يستطيع التقاط أنفاسه، لتدفع شديد بقوة عن زوجها فتصيبها..ركلة...تماماً بأسفل بطنها المتكوِّرة!وصرخة عالية ملتاعة؛ثم مياه تندفع منسالة؛ وتهتف سارة بضعف:_أ..أمي، ســـ..سامر! لهاث!وحشرجة!ووجه صار أزرق!وانتفاضة أخيرة لجسد ضعيف!وتهتف سارة بهمس متحشرج مذعورة:_سامر! وأدرك المجرم فعلته فتسمر مكانه لحظات ثم تراجع إلى الخلف هارباً.. وسقط صبري بجوار جسد زوجته مذعوراً صائحاً:_سوسن! سوسن أجيبيني!وبِكل الألم الذي تشعر به صرخت:_الطفلة صبري، سأجهض الطفلة، أنقذ سامر!وانطلق ساري يحمل جسد أخيه صارخاً:"سامر!" وفي المشفى: مُحتضنا أخته التي لم تتوقف عن الارتجاف منذ أكثر من ساعة بقوة بين ذراعيه، مُحدقاً بصدمة مثل أبيه في الطبيب الذي أخبرهم أنهم قد وصلوا متأخرين كثيراً؛وهكذا..لم يعد هناك سامر!لم يعد هناك أخوه الأصغر اللطيف الهادىء منذ مولده!لم يعد هناك من ادَّخر من أجله مائتين وثلاثين جنيها كي يساعد في إجراء عمليته الجراحية!"لِمَ؟ وبعد قليل: طبيبة أخرى باختصاص آخر مع خبر آخر.يبدو أن الركلة التي تعرَّضت لها والدته كانت أخطر مم توقعوا؛وهكذا.. لن تصل"سلمى" الرضيعة بعد أسبوعين!لن تصل تلك التي انتظر أن تغار سارة من بكائها المزعج وتتكلم أخيراً! لن تصل تلك من ابتاع بالأمس من أجلها شراباً قطنياً شديد الصغر باللون الوردي!"لِمَ؟"لا يوجد سامر.. لا توجد الرضيعة "سلمى".أسرتهم التي كانت ستتكون بعد أسبوعين فقط من ستة أشخاص أصبحت الآن تحتوي على أربعة فقط..لكن مهلا!ربما ثلاثة!أهذا أبوه الذي لِتوه سقط؟!!"لِمَ؟!!"جنازة صغيرة لثلاثة أشخاص من أسرة واحدة، أحدهم لم ير الدنيا أصلا!جنازة صغيرة لثلاثة أشخاص من أسرة واحدة، كما لو أنها تعرَّضت لغارة ما! جنازة صغيرة لثلاثة أشخاص من أسرة واحدة، والجاني واحد فقط!الأب؛الأخ؛والأخت التي لم يرها!جنازة صغيرة لثلاثة أشخاص ضحايالـ..شديد محمود الناجي!! وبعد أسبوعين:وقف شديد بين العمال بعد أن استطاع مصالحة والده وإقناعه أنه كان يمر بضائقة مالية أجبرته على التصرف بتلك الطريقة مع وعد_زائف_ بعدم تكرارها.يُملي أوامره على بعض العاملين وإلى جواره عَمَّار يحاول تجنب صوته المرتفع الذي يؤذي أذنيه حقاً، ليبتعد قليلاً عابس الوجه، ضَجِراً والنقمة تسود كيانه بأكمله، بعينيه يبحث عن ذلك الذي يَوَد صداقته ويشرع في مَدّْ أواصرها بالرغم من عدم تبادلهما الحديث سوى مرة واحدة.لكنه ابتسم فجأة وهو يراه يطُل من البوابة الضخمة للمصنع، تلك الابتسامة التي انحسرت وهو يلاحظ أن ذلك_الصديق_ يتخطاه متوجهاً إلى أبيه.. بغضب شديد؛خطوات مصممة؛جفون منتفخة؛وبقايا دموع! "شديد الناجي أيها اللص القاتل!"والهتاف الصبيّ الذي انطلق في باحة المصنع جعل الجميع يتوقفون عن أي كانت أعمالهم ويحدقون في ذلك "الطفل" الذي يقف أمام ابن صاحب المصنع شخصياً سابّاً إياه بمنتهى الوقاحة! تَسَمَّر شديد مكانه مصدوماً، متطلعاً لذلك اليافع الذي لا يتذكر أين رآه من قبل، لكنه ما لبث أن هدر ساخطاً:_هل جننت؟ من أنت أيها الوقح؟وببكاء لم يستطع كتمانه هتف بصوت متقطع منهار:_أنا ساري صبري رشوان، من قتلت أبيه، وأخيه، وأخته، أنا من دمّرت أسرته كلها خلال بضع دقائق فقط، أنا من سينتقم، سأقتلك يا شديد!وابتسم شديد بسخرية، وارتفعت ضحكات المحيطين به، يضربون كفوفهم ببعض باستمتاع، يلقون النكات، يشيرون إليه بسخرية ويتلامزون!وفي الخلفية يقف عَمَّار مستنداً إلى حد أكوام الأخشاب، ينقل نظراته بين أبيه و_صديقه_ بلا اهتمام حقيقي!شديد يبتسم بسخرية!وساري تتساقط دمعاته حسرة..على أب؛على أخ؛على رضيعة موؤودة؛على أم مكلومة؛على أخت أصبحت بالفعل تماماً خرساء!على رجولة فتيّة مهدورة!!وأخرج من بنطاله سكين مطبخ تستخدم عادةً لتقطيع الخبز؛وانقض على المجرم رغبةً بالثأر!عَمَّار يشاهد بلا مبالاة!شديد يبتعد للخلف خطوات وئيدة مبتسماً بسخرية..وساري يصرخ منهاراً؛وحان الآن وقت التملُّق و المُجاملة!أحاط به العاملون وأوسعوه ضرباً حتى تشربت الأرض دماءه في عدة أماكن.بصقوا عليه وركلوه ودعسوه بأحذيتهم كالحيوانات المصابة بالسعار، بينما هو بجسده الأضعف يتلوى أسفلهم كاتماً صراخه بإصرار..لا يطلب الرحمة ولا يمنحونه إياها!وقفز عَمَّار للمرة الأولى بحياته بوجه أبيه ووحوشه صارخاً:_اتركوه! ابتعدوا عنه أيها المجرمون، إنه ينزف بشدة!ثم انطلق عَمَّار إلى الداخل ليجلب له المساعدة..وارتخى جسد ساري أرضاً مغمض العينين لا يقوى على فتحهما، مستسلماً، ضعيفاً، منهكاً، لكن دمعات حسرته وقهره خانته لتجري على وجنتيه أمامهم جميعاً..وسؤال وحيد يدور بعقله لا يجد القدرة للتفوه به:"لِمَ؟"وفجأة مال شديد عليه هامسا بوعيد:"اليوم سوف تدرك نتيجة تهورك!"وقد كان!! المكان: قبو مظلم في منزل بأحد الأحياء القديمة.الزمان: بالتأكيد ليلاً، فهذا المكان لا يرى نور الشمس مطلقاً. الأشخاص: مجموعة من أحط البشر بالإضافة إلى صبي بمرحلة المراهقة جسداً، ورجل أنبل منهم جميعاً أخلاقاً. والحدث.على عمود خرساني مُقيد بسلاسل حديدية منذ وقت ليس بالقليل؛عاري الجذع؛حافي القدمين؛مُستسلماً تماماً للجَلْدَة القادمة!أحبال خشنة مُلقاه هنا؛أصفاد حديدية للتو نزعوها عنه مُلقاه هناك؛وَ..سَوْط!وكأنه مُتهم بِقَلُب الحُكم!ثمانية أيام مرت منذ أن اقتاده بعض الوحوش من المصنع ليلقوا به إلى ذلك المكان ثم يتناوبوا على تعذيبه، طوال الوقت يُركل بأقدامهم، يُجلد بأسواطهم، أو يُضرب بالأحذية!والسباب دائم..والسخرية لا تنتهي..والتهديدات وفيرة.. والوعيد مُستمر لا ينقطع..لكم صرخ!لكم بكى!لكم توسلهم أن يتركوه كي يعود إلى أمه وشقيقته المتبقية كي يُدافع عنهما ويعتني بهما بعد المصائب المتلاحقة..لكن أوامرهم بتهذيب أخلاقه التي فسدت حتماً وإعادة عقله الذي فقده مؤكداً تغلبت على كل توسلاته.ثمانية أيام من التعذيب؛ثمانية أيام من الإهانة؛ثمانية أيام من السبّ والضرب...لا يستمع أحد له، ولا يستجيب أحد له، بالرغم من تدهور حالته، وبالرغم من الدماء التي تسيل من صدره وظهره جراء جلداتهم لتلطخ الأرضية والعمود والحائط الذي ارتكن إليه بالأمس مستسلماً..ثم ظهر أخيراً المجرم!"أيجرؤ صبي مثلك أنت على إهانتي؟ بمصنعي؟ وأمام العاملين لديّ؟"ليفتح عينيه أخيراً هاتفاً مردداً بِصوت باكِ متحشرج:_أنت قتلت أبي، وأخي، وأختي، أنت دمّرت أسرتي.ليصرخ به شديد:_لو لم يكن أبوك بذلك الغباء لما حدث كل ذلك، كان من الممكن أن يشارك شوقي نسبته، لكنه فضّل الوشاية بي ربما ليكسب مكاناً لدى أبي، وانظر الآن ماذا حدث! أنا حققت أهدافي وهو بقبره.ضغط ساري أسنانه بقوة والغضب يستيقظ كبركاناً ثائراً بداخله، احمرت عيناه بِشدة فمال عليه شديد ساخراً:_أتريد البكاء؟ أتريد الصراخ؟ افعل، فلن يستمع إليك أحد في هذا القبو.هز ساري رأسه رفضاً وبعينيه محدقاً فتابع شديد:_ماذا تريد إذن؟ ماذا ستفعل؟وبنبرة ميتة تماماً تخرج من حلقه للمرة الأولى رد ساري بخفوت:_أريد أن أحقق هدفي ، وهدفي منذ الآن هو الانتقام منك، يوماً ما سأنتقم منك شديد بك، يوماً ما سنتبادل الأدوار وسأكون من يتسبب بسقوطك وفضحك، وأنا أعدك بذلك.تعالت ضحكات شديد الساخرة فتابع ساري بصراخ مقهور:_اقتلني! اقتلني في الحال وإلا فدعني وسوف أعود إليك!حدّق شديد بعينيه ثم صرّح ببرود: _أتعلم؟! أنا بالفعل سأتركك، لأنني لا أريد مشاكل بسبب اختفائك، فللأسف البعض قد رآك بمصنعي، وأمك لا تكف عن المجىء تتوسلني، وأنا_ كي تدرك أنني أسديت لك خدمة_ قد أخبرتها اليوم أنني سأعيدك طالما لم تقم بإبلاغ الشرطة، لكن إن فكّرت بالاقتراب من المصنع ثانية، سأقتلك حتماً، أنت وأمك وأختك!وبعد ثمانية أيام عاد ساري، نازف الجسد، مجروح القلب، فاقد الروح، متوعداً! لم يُخبر أي شخص بما حدث؛لم يستطع تعرية نفسه أمام الآخرين؛لكنه اتخذ عهداً على نفسه وسينبش الأرض نبشاً حتى يُنفذه ليالي تليها ليالي وهو واقف بمكانه بجانب جذع الشجرة المواجهة لفيلا عائلة الناجي، لا يعلم ماذا ينتظر، لا يعلم ماذا يتوقع، لكنه لن ييأس، ستظهر لشديد بك هفوة، ستنفتح تحت أقدامه هُوَّة ما ليلقيه هو بداخله ويدفنه حياً. وبأحد الأيام:جالساً بجوار جذع الشجرة منتظراً أي بارقة أمل..وفي تلك الليلة ظهرت هي!تجذبها امرأة ما بجفاء واضح وتنتظران أمام باب الفيلا بتوتر شديد، وبعد قليل خرج المجرم من عرينه، فاختبأ ساري خلف جذع الشجرة منصتاً:"أنا أيضا زوجتك شديد، وتلك أيضا ابنتك!" حدق بالفتاة المتشبثة بأمها بصدمة.."أقدم لك ابنتك! رهف شديد الناجي!"أرهف سمعه في ترقب شديد لرد فعل المجرم.. "سأفضحك شديد! سأذهب إلى مصنعك وأفضحك أمام العاملين لديك، سأخبر الجميع أن شديد بك الذي يتظاهر بالشدة والالتزام والانضباط لديه ابنة لا يود الاعتراف بها!"وهكذا..دونما إدراك، ألقت له المرأة بالهفوة، ثم أهدته الهُوَّة، ليلتقط هو المنحة منتظراً إسقاطه ثم إهالة التراب عليه!ومنذ ذلك اليوم لم يعد يجلس عند الشجرة يومياً، واكتفى بالمرور كل فترة كي لا ينسى هدفه، أخذ على عاتقه مسئولية المتبقي من أسرته، سيعمل من أجلهم، سيعوضهم عن خساراتهم، سيرفع مستواهم لأقصى قدراته، سيخفف عن أمه عذاب فقدانها زوجها وطفليها، سيعالج شقيقته حتى تملأ الدنيا صياحاً، وعندما يحين اليوم المناسب سيشفي وجعهم ويهديهم انتقامهم من ذلك المجرم..وعن طريق تلك الـــ..رهف! إنْ كانَ وجهي فَتيًّا في ملامحهِ فللفؤادِ وأحلامي تجاعيدُحذيفة العرجي وهكذا.. لسنوات ظل متربصاً بها على فترات متباعدة، وبخالها أيضاً، منتظراً لحظة ظهور شديد بحياة ابنته كي يفضحه، أو لحظة ذهابها هي إليه كي تفضحه فيساعدها.والفتاة بريئة للغاية، وحيدة للغاية، ضعيفة للغاية..لا تقابل أحداً، لا أصدقاء ولا أقارب؛ وبدأ اليأس يدب في قلبه: ألن تبدأ بتهديد والدها فيستغل هو تلك اللحظة كي يفضحه؟وبمثابرته المعتادة، بتصميمه الدائم حصل على بعض المساعدة!ويبدو أن تلك اللحظة اقتربت، فها هي زوجة خالها وابنته تدخلان إلى فيلا شديد، ربما أرسلتهما إليه للابتزاز، أو لإجبراه على الاعتراف بأبوته لها، لا يهم، الآن ستتجمع خيوطه وسيحظى بانتقامه أخيراً بعد عدة أعوام!ثم إصراره على ابنة خالته بالالتحاق بذلك المركز الذي تعمل به كي يقترب منها أكثر!لكن..استقلالها المفاجيء؛ثم ظهور صديقه القديم، والذي هو بالطبع أخوها..يراقبها أخوها ويراقبه!الخيوط تتعقد وربما من يديه قريباً ستنفلت!إذن يجب عليه التدخل على الفور!و. اتفاق مع اثنين من أرباب المقاهي بالحي القديم، سرقة حقيبة وهاتف، وإغلاق للهاتف بضعة أيام حتى تفقد الأمل، ثم فَتْحُه مرة أخرى، وموقف شهامة!مكالمة هاتفية أثارت بداخله تشتتاً غريباً؛ما بال صوتها يصرخ السذاجة؟ وما باله يحدق بصورة هويتها باهتمام؟وما باله قد صار فجأة رائقاً يمازحها بتلقائية؟!ثم كان الوعد باللقاء!وكان اللقاء! يتطلع إليها مليّا ويبدو أن موظفة الاستقبال ستطردها لآن، فقرر التدخل واقترب منها ببطء حينما سمع:"أتريدين مقابلة المهندس عاصم؟"وبسرعة تدخل:"لا! الآنسة تريد مقابلتي أنا!"واستدارت..ويا ليتها ما استدارت!وحدّقت به.. ويا ليتها ما حدّقت به!هل يعقل أن يظل الإنسان حياً مع تأكده من توقف نبضات قلبه؟هل يعقل أن تتذبذب مشاعره كلها لمجرد نظرة مرتجفة متوترة؟هل يعقل أن يتصرف لسانه وعيناه طوال عدة دقائق على النقيض تماماً مم نوى؟لقد ظل يراقبها لسنوات عن بُعد على فترات، فكيف للتو لاحظ مدى هشاشتها ورقتها؟ لِمَ براءتها تصرخ بصوتها الحزين؟لِمَ عيناها تحاولان إخفاء احتياجاً واضحاً؟ولِمَ أهدابها بهذا الجمال مشعثة؟! انفصال!ما يشعر به هو انفصال تام؛عن الماضي، عن مأساته، عن هدفه الوحيد؛دقات قلبه تتسارع، وتوتر غريب يكتنفه؛ شرود وتحديق منه؛خجل وارتباك منها؛ ولسانه ينطلق طوال اللقاء بإرادة حرّة!ما يحدث له الآن غريب مريب وخارج أي خطة، ما يحدث لم يكن بِحسبانه يوماً لا معها ولا مع غيرها، ما يحدث يُشبِعه بِنسيم عليل بعد جفاف سنوات حياته كلها.وبينما تستعد للانصراف أجهزت تماماً على البقية الباقية من تماسكه وهي تهديه غمزة!بانشداه يحدق بها، ويبدو أن قلبه سيخرج من صدره الآن حتما كما يحدث في الأفلام المصورة، سيتوسلّها ألا تنصرف، سيطلب منها لقاءاً آخر، لكنها انصرفت!مهلاً! ألا يوجد احتمال بسيط أنها ليست ابنة عدوّه؟ ألا توجد نسبة ضئيلة للخطأ؟وأغمض عينيه بألم لنفسه ناهراً، ولنفسه واصلاً الانفصال..أهكذا يتأثر كالأبله خلال دقائق بها وهو الذي لم يهتم في حياته بأية امرأة؟!"اهدأ ساري، لا تنس هدفك ساري!""لقد انتظرت سنوات وها قد حان الوقت أخيراً، لا تحِد عن مُخططاتك!""إنها رهف شديد الناجي!"وفتح عينيه فجأة..ليرتحل الهيام ويحل الغضب!ولقاء آخر بحجة إقلال ابنة خالته بعدما أجبر سارة بالعدول عن الذهاب، ليصبح تأثره بها أشد، وبدلا من تعقله المعتاد في كل كلمة تخرج من فمه وجد نفسه يهذي بهراء ما عن دورات ودروس وأهدابها التي تختطف نظراته رغماً عنه."تلك الفتاة أعادتك مراهقاً يا ساري!" "تلك الفتاة اختطفت قلبك يا ساري!"تلك الفتاة لقد عَشِقتها يا ساري!"وكانت الصدمة!هو يحب ويعشق؟! الأصح: هو يحب ويعشق ابنة شديد الناجي؟!متى أصبح إلى هذا الحد خائناً؟متى أصبح إلى تلك الدرجة عديم الإحساس؟لقد قتل أبوها ثلاث من أفراد أسرته قبل أن يختطفه ويعذبه؟لحظة!لقد قتلها أبوها أيضاً!بصرف النظر عن جميع البشر، تنتمي الإنسانة الوحيدة التي أحبها إلى ذلك الشيطان!!"لِمَ؟" يسير في الطرقات المظلمة ليلاً بلا انتباه حتى وجد نفسه أمام ذلك البيت بأحد الأحياء القديمة، البيت الذي قُيد به وعُذب وجُلد، البيت الذي أصبح حلمه منذ أن خرج منه منذ سنوات أن يملكه!وقد كان!البيت الذي شهِد إذلاله وهدر كرامته وسحق رجولته الفَتِيَّة أصبح أخيراً بعد سنوات يملكه.لن يترك انتقامه؛لن يترك ثأره؛سيعيش لليوم الذي سيقف به أمام قبر يحوي ثلاثة جثث تخصه وتطالبه بحقوقهم متسائلين:"لِمَ؟" يموت هو بين صراع قلبه وصوت انتقامه؛حتى عقله يأمره بألا يفعلها؛ليس ذنبها!يعرف أنه ليس ذنبها، لكنها الهُوَّة التي ستجتذب جسد المجرم، ربما حينها يستطيع أخيراً الشعور بطعم تلك المسماة بــ..الراحة!إلى جوار بيت خالها يقف متخفياً متظاهراً بتناول إحدى الشطائر، ينتظرها وقد صعدت منذ بعض الوقت إلى شقة خالها والضيق يبدو عليها جلياً، بينما صديقه القديم يجلس بسيارته الرمادية على مسافة من البيت متربصاً..بِعِتاب رغماً عنه، وبخسارة رغماً عنه، تعلقت عيناه به تحديداً.."هل لازلت تتذكرني يا عَمَّار؟""هل لازلت تتذكر وعدك بتعليمك إياي كيفية اللعب على جهازك؟""تُرى من منا كان ليفوز على الآخر بالمنافسة؟!""لماذا لم تأتِ وتنقذني عَمَّار؟!"وانتبه إلى أنها من تأخرت ببيت خالها غير الموجود بذلك الوقت فعلاً، والقلق يأكل ذرات جسده حقاً، فهو على علم بنوايا زوجة خالها وابنته السيئة تجاهها!وها هي أخيراً تخرج ملقية تحية مرتبكة على جارهم ليبدأ الحقير بإهانتها!تتشنج أطرافه؛تفور دماؤه؛والسواد يتخلل عينيه الخضراوتين! ليقوم بالاتصال بها بحُجة خرقاء..فيستقبله صوت بكائها؛ وهذا حقاً فوق مستوى احتماله!حبيبته تبكي بسبب ذاك القذر وهو لا يستطيع التدخل علناً.. وحقها.. أهدره ذلك الحقير مُتَجَبِّراً؛والعدالة.. من أجلها الآن تجِب؛وهدفُه..تلقينُه درساً وسيحققه!وهو بارع في التمهُّل والانتظار!انصرفت..فانصرف عَمَّار على الفور إياها ملاحقاً.. ليجد نفسه يلتقط عبوة طلاء من سيارته، وعلى باب المحل من أجلها قرر أن ينتقم..و. "يا من تتشدقون بالطهارة، حاسبوا أنفسكم أولا!" يتعذب ليلته وصوتها الباكي يرن في أذنيه، وكان أول ما فعله باليوم التالي أن انطلق إليها ملهوفاً، ليستمعها تهاتف ذلك المدعو..حمزة!يغار! أدرك أنه عليها يغار!وتحبه!حبيبته الوحيدة تحبه!تحبه لدرجة أنها تقف أمامه الآن وتخبره بالخزي الملتصق بها، تحبه لدرجة أنها لا تستطيع إخفائه عنه، ثم تتركه راحلة والدمعات بعينيها لم تخف عليه.تعتقد أنها تخبره بمفاجأة، ولا تعرف أنه على عِلْم بها قبل أن يدركها عقلها الصغير منذ سنوات بالأصل! وطالما يعلمها هو حقاً منذ سنوات، لماذا يشعر الآن بكل ذلك الغضب؟لماذا يشعر برغبته في التربيت عليها؟لماذا يكافح من أجل عدم إخفائها بين ذراعيه في التو؟وها هي رغبته في قتل ذلك القذر تزداد..من أجلها وحدها تلك المرة! يتمزق قلبه ويكاد يُجن عقله! ما الذي عليه فعله؟، أيكتفي بها؟! أيأخذها هارباً من أي مكان يتواجد به شديد الناجي؟ وأين سيهرب من ثلاث صور لا تتركه متوسلة أن يعيد لها حقوقها!وأسئلة حقاً تقض مضجعه يلقيها عليها ليرى إجاباتهم جميعهم بعينيها.تحبه..ويعشقها!تتمناه..ويموت من أجلها!ووعد بالتمسك يعلم جيداً أنه لن يفي به! إن كان في شيء صادقاً سيكون في عدم اهتمامه بكونها ابنة شرعية أو غير شرعية أو حتى معدومة النسب.هو أحب رهف، وعشق رهف، وبكُليته لا يريد إلا رهف، لكن..ليست من يريدها رهف شديد الناجي!وصراع آخر مع أمه لكنه يعلم جيداً أنه سينتصر به، لن تكون أمه هي سبب إفشال خطة طالت لسنوات، لن تكون أمه هي من تمنعه راحته، وكل ما يتمناه فقط أن ينتهي قبل الموعد المحدد حتى يؤدي ما عليه كاملاً!لكن ألا يخيب ظنه وتفعلها أمه حقاً وتعرقل خطته فلا يهرع بنفسه نحو قبراً رابعاً يُزين شاهده..اسمه هو؟!وخِطبة!تلك الجميلة خطيبته! السعادة بعينيها مقترنة بوعد لن يدعها تفي به، أين يستطيع التهرب من نظراتها العاشقة؟ أين يستطيع التهرب من قلبه الذي يئن بداخله، ومن عقله الذي يصرخ به متوسلاً..لا تُكمل! لا تمش هذا الطريق!ليس ذنبها هي!هي تحبك وأنت تحبها، ستندم!وتوسُّل منه بأن يهربا معاً يقسم أنها لو وافقته حينئذٍ لكان فعلها بلا تردد؛لكنها للأسف لم توافق!وكما اعتاد كل ليلة ذهب إلى منزله الجديد_السجن سابقاً_ ليصرخ ويحطم كيفما شاء، وبعد قليل يخرج هادئاً_ظاهرياً_ ليواصل طريق انتقامه!وزفاف!! "بارك الله لكما وبارك عليكما وجمع بينكما في خير!" شرد وهو يستمع إلى دعوة الشيخ وترديد الحاضرين بعده، ثم رفع رأسه رامقاً إياه بوجوم وهو لا يصدق أنها أصبحت بالفعل زوجته..رهف زوجته؟!رهف زوجة ساري؟!! أغمض عينيه متشبعاً بتلك المعلومة التي تمسك بها قلبه وهو يتوسله أن يتراجع، لاتزال هناك فرصة، يستطيع إتمام زواجه بها بطريقة طبيعية دون تنفيذ خطته الأبشع على الإطلاق.والآن رآها!آية في الجمال والحُسن، عيناها تخبرانه كم تعشقه لكنه لا يستطيع إخبارها بالمثل؛ بسمتها تعطيه فكرة عن المستقبل الذي تعِده به لكنه لا يستطيع وعدها بالمثل؛ ليس وهي..رهف شديد الناجي! الذي وصل أخيراً للتو بعد أن انتظره لأعوام طوال؛هب واقفاً..وارتد قلبه متوارياً..واحتل انتقامه المظلم عقله .. يراه أمامه وبجواره دماء أمه!يراه أمامه وبجواره وجه سامر الأزرق!يراه أمامه وبجواره جثة سلمى الرضيعة! يراه أمامه وبجواره تصرخ سارة بلا صوت!يراه أمامه وبجواره يرقد أبوه يائساً رافعاً سبابته إلى الأعلى لِرَبُّه مُفَوِّضَاً أمره!يراه أمامه وبجواره هو نفسه مراهقاً مُقَيَّداً إلى عمود حديدي كي تنهش الوحوش جسده ويستبيحوا كرامته!يراه أمامه ويرى فيه نهاية مشواره الذي هرول فيه يائساً!والآن حان وقت القصاص!!نظرة حقد منه.. تقابلها نظرة دهشة من ذلك القاتل!نظرة كراهية صريحة.. تقابلها نظرة خوف وقد بدأ يشعر بوجود خطأ ما!نظرة تشفِ تأخرت كثيراً..تقابلها نظرة ذعر ما إن بدأ العريس بالتحدث!ثم.."أنتِ طالق!" عودة إلى الوقت الحالي:"لِمَ؟!"يقف أمامها منهكاً كما كان في ذلك القبو منذ سنوات؛أطرافه باردة كما كانت أطراف سامر منذ سنوات؛وجهه شاحب كما كان وجه أبيه عندما غطاه بنفسه منذ سنوات؛لا يجد صوته كي يتحدث كما كانت سارة منذ سنوات؛ضئيل الروح، والنفس، والقوة، كما كانت سلمى منذ سنوات؛ملتاعاً، مقهوراً، متحسراً، كما هي أمه..حتى الآن ومنذ سنوات!وبم يجيب؟أيخبرها لأنه نذل؟خسيس؟ظالم؟!أيخبرها لأنه لا يشعر حقاً بأي مما يدور حوله؟أيخبرها بأن ذلك السؤال بالتحديد يقف منذ سنوات في حلقه لِيُصَعِّب عليه التنفس، لكنه للأسف يفشل في إيقافه تماماً؟ولما لم يجب تابعت:_هل شعرت بالندم أثناء عقد القران؟ أم قبله؟ أم بعده؟ هل فكرت في التخلّي عني قبله أم بعده؟ هل اكتشفت صعوبة ما ورطت نفسك به قبله أم بعده؟وجاء صوته المبحوح أخيراً لدهشتها صادقاً حاسماً:_أنا لم أشعر بالندم على ارتباطي بك أبداً رهف.واصلت تحديقها الهادىء به ثم تحدثت: _إذن؟!ازدرد لعابه ثم أجاب بخفوت:_أبوكِ هو من كان هدفي!وكانت تلك العبارة هي بداية جذب انتباهها إلى شيء آخر، إلى العبارات المُشَوَّشَة التي صاح بها أخوها في القاعة عقب الفضيحة، عقدت حاجبيها باستغراب ثم بدأت عيناها تتسعان ببطء، ليدرك هو أنها أدركت.منذ متى؟ أغمض عينيه مدارياً ألمه فصرخت فجأة:_أجبني منذ متى؟ ولما لم يرد اقتربت منه مصدومة هاتفة:_منذ البداية؟ منذ البداية يا ساري كان هو هدفك؟ثم توقفت لحظة واتسعت عيناها أكثر وارتجفت شفتاها مُتسائلة : _السرقة.. كانت مُدبرة؟!ترقرقت عيناه المغمضتان بالدموع فكررت صارخة:_أجبني ساري، السرقة كانت مُدبرة؟ زياراتك لابنة خالتك كانت مُدبرة؟ كل ما حدث لم يكن صدفة ؟ لم تكن هناك أية صدفة؟!ثم شهقت باكية وهي تتابع:_كل تمسُكك بي واهتمامك بي وإصرارك عليّ لم يكونوا صدفة؟ كل.بترت عبارتها واتسعت عيناها مرة أخرى ثم سألته بِخفوت:_أكنت تعرف ساري؟ كنت تعرف منذ البداية أنني لقيطة وتركتني أشعر بالخزي والخجل أمامك؟ كنت تعرف وتركتني أرتعب وأنا أفكر في نظرتك إليّ طوال الوقت؟ أكنت تعرف؟وعندما حاول الرد كان صوته قد هرب منه تماماً، ليقوم بإيماء رأسه إيجاباً فارتدت إلى الخلف شاهقة:_يا إلهي!فتح عينيه أخيراً وهو لا ينوي إخفاء دمعاته عنها وحدها قائلاً بألم:_أنا.. أعرف أنني ظالم ونذل، أعرف تماماً أنكِ لا تستحقين ما فعلته بك، لكن.. لكن ثقي بأن عقابي بكراهيتك لي وفقداني لكِ أنا أتلقاه الآن و...صرخت مقاطعة إياه بِقهر:_بِمَ يفيدني ذلك؟ بِمَ يفيدني بعد أن كسرت قلبي وأجهزت على حياتي، لقد عشت بماض مُخزِ وحاضر مؤلم وبلا مستقبل، وحينما وعدتني أنت بالمستقبل اختطفته مني وصفعتني بعار آخر سيلاحقني لبقية عمري.أنَّاتها الضعيفة الباكية تمزقه، اقترب خطوة يتوسل لمسة..لمسة واحدة فقط هي كل ما يتمنى؛لمسة كانت من حقه منذ يومين فقط لكنه بمنتهى القسوة والغباء حرم نفسه منها! فَكوَّر قبضتيه يبغي تمزيقهما وهي تتابع بصوت سيقتله حتما الآن:_ألم.. ألم يكن هناك أي شيء حقيقي؟ أي شعور ربما؟وعندما هم بالإجابة بسرعة انتفضت مقاطعة بصراخ:_لا! لا تُجِب! لا أريد، لن أصدقك على أي حال.اتسعت عيناها وازدردت لعابها بينما غيوم الجهل تنقشع عن عقلها رويداً رويداً: _هو.. قام بإيذائك بطريقةٍ ما فاستخدمتني أنا! .. أهذه هي العدالة التي كنت تتمنى تحقيقها؟ ألهذا كنت أنا أهم أهدافك؟!وعادت شهقاتها الباكية ثم أردفت بصوت خافت:_لقد أحببتك منذ رأيتك ساري، أحببتك لكنني لم أجرؤ حتى على تمني ارتباطك بي، وعندما حدث ذلك كدت أطير من فرط سعادتي، كنت أحدق بصورتي بالمرآة وأتساءل: هل أنت حقاً تراني؟ هل أنت تفكر بي؟ هل أنت فعلا تريد الزواج مني؟وفجأة ارتسمت ابتسامة ساخرة على شفتيها وهي تهتف:_ أتذكر ذلك اليوم الذي نعتّك فيه باللص؟! يا إلهي كم كنت محقة!وبلهجة متوسلة حدّق بعينيها قائلاً بِخفوت:_أرجوكِ رهف، أنا أموت بالفعل، أموت كلما أستعيد ما فعلته بك، لكنني لا أستطيع تراجعاً، لا أجد راحة فيما فعلت، ولم أكن سأجدها مطلقاً إن لم أفعل، لكنني لم أتعمد قتلك أنتِ رهف، لم هنا قاطعته صائحة:_قتلي؟! أتعتقد ساري أنك قتلتني حينما عيرتني أمام الجميع بأن أبي لا يريد الاعتراف بي ؟!! أتعتقد بأن ما آلمني هو معرفة الحاضرين بأنني ابنة غير شرعية؟! صمتت ليتنازعا النظرات المتألمة فتابعت:_لا!، لقد اعتدت ذلك الوصف منذ سنوات من الجميع حتى ما عاد يؤثر بي. سقطت دمعتان على وجنتيه توازيان دمعتيها بينما أكملت بصوت مبحوح وهي تشير إليه بسبابة مرتجفة:_ما قتلني وجرحني حتى الصميم هو أنك أنت من أطلقت رصاصك على قلبي تماماً بينما أنا بانتظار ضمة من ذراعيك، ضمة تخبرني أنني وصلت لملاذي الآمن أخيراً، ضمة تخبرني بها أنك لن تسمح لأي شيء بجرحي مجدداً.أغمض عينيه مرة أخرى والاحتراق بداخله يزداد ويشتعل وهو يدعو بداخله أن تنتهي أنفاسه فورا عند قدميها، ثم فتحهما مرة أخرى على عبارتها الهادئة:_أنت دون الجميع من وثقت بك، أنت فقط! هل ستصدقني حينما أخبرك أنني لم أحب سواك مطلقاً؟ لم أهتم بتلك المشاعر حتى بمراهقتي مثل جميع الفتيات؟اجتذبت أنفاساً اختلطت بشهقاتها ثم تابعت: _لكن أنت وحدك ساري من استيقظ قلبي لك، حتى تمزقه بمنتهى القسوة!ودمعتاه تكاثرا وتكاثرا حتى أغرقوا وجهه وهي تسأله بتوسل:_أخبرني ساري، وأنت تطلق عليّ يمين الطلاق بليلة زفافي، وأمام جميع الحاضرين، وأمام عدوّي الأكبر، ألم.. ألم تشعر ولو بقليل من الشفقة بقلبك؟ ولما اختار الصمت صرخت به:_تكلم ساري!، تكلم! ألم تشعر بأية شفقة بقلبك؟! بروحك؟!أتموت عينا إنسان وهو على قيد الحياة؟!أتتردد الأنفاس بصدر جثة؟! أترتعش أصابع تمثال يقف أمامها الآن..يختنق؟! وعندما وصلها رده الهادىء تماماً تسمرت تحاول استيعابه، واستيعاب الألم والقهر والحسرة الذين تغرق بهم خضراوتاه:_ أتسألين عن قلبي؟!توقف مبتسماً من بين دمعاته ثم تابع:_أنا لا أملك واحداً، لقد دفنته في نفس القبر مع أبي وأخي وأختي الرضيعة.حدقت به بلا فهم فأكمل بابتسامة أكثر اتساعاً ولا زالت دمعاته تنهمر أكثر: _أتسألين عن روحي؟!هز رأسه نفياً وهو يردف:_هي لازالت هناك، حبيسة قبو مظلم، معلّقة بسوط ينهال على جسدي ليبعثر كرامتي ويمزق رجولتي!وعادت غيوم الجهل إلى عقلها مرة أخرى؛وعاد الضياع يلف كليهما على حدة مرة أخرى؛ وصمت تام!تتلاقى به نظرات الوداع؛تعجز الألسنة عن النطق؛تغلق القلوب أبوابها باكية؛وانتهى!عدلت من حجابها وأغراضها وتقدمت لتتجاوزه، وعندما وصلت إلى جواره، على بُعد سنتيمترات قليلة من كتفه نظرت له وبصوت خافت تحدثت:_أتعلم ساري؟! ربما أنا المخطئة منذ البداية، لقد ركضت خلف سراب.. سراب الحب والحماية والأمل، بينما المنبع الحقيقي يلهث خلفي وأرده كل مرة خائباً..صمتت تلتقط أنفاسها الثقيلة فاستغل الفرصة ليغرق في عينيها ربما للمرة الأخيرة، حتى أردفت: _ لِذا ربما يجب عليّ شكرك على تسببك في إفاقتي. وبمنتهى الهدوء خلعت حلقتها لتضعها على مقدمة سيارته بينما شحب وجهه تماماً وارتفع صدره وانخفض في تنفس عنيف وهو يحدق بها..وبدون تحية وداع رحلت!ليستند هو على سيارته ملتقطاً حلقتها، ثم ألقى نفسه خلف عجلة القيادة، وأخيراً أطلق العنان لدموعه كي تنعي خسارة روحهوموت قلبه! وبمجرد أن فتح لها عَمَّار الباب بلهفة وقلق بادرته بدمعات متألمة:_لقد طلبت مني يوماً أن أسمح لك بالتواجد إلى جواري، وأن أسمح لك أن تكن سندي وأماني، ووعدتني أنك ستدافع عني.صمتت للحظات فَحَدَّق بها بلهفة يومىء رأسه إيجاباً بسرعة، لتتابع هي:_ ها أنا جئت إليك اليوم لتحميني من أبيك ومن أذاه، ولتحميني أيضاً من مُعذّبي ومن قلبي الذي بالرغم من كل ما فعل به فإنه مازال يهفو إليه، هل لازالت عند وعدك عَمَّار؟وكانت إجابته زفرة حارقة مُتبعة بضمة شديدة بين ذراعيه اللذين تشبثت بهما ليبكي كلاهما سوياً!مودعان ظُلماً غابراً وحرماناً مؤلماً..مُستقبلان حناناً أخوياً وحُباً صادقاً..بينما هتف عَمَّار بِصِدق:_سأحميكِ بحياتي رهف، سأبذل قصارى جهدي كي أعوضك، وسأثبت لكِ كم أنكِ لديّ غالية