Cairo , Egypt +01508281514 darr@elsayad121216.com

الفصل الثامن

*ماضٍ لا يرحل أَتَشَرَّب ضعفي حتى أرتوي أُعايش سلبية باتت ملاذي أَتَقَبَّل وَأَتَقَبَّل ثم أَتَقَبَّل..بلا شُكر.. بلا نِقمة.. بلا فَرَح.. بلا حُزن..وبلا اكتراث!لا تُحاكمونني ولا تظلمون! لا تزدرونني ولا تنهرون!فكما ضعفي كان مُتقناوكما أصبحت للسلبية شِعاراً مُعبِّراً..ستصير صحوتي إعصاراً جارفا فهذا وعد مني ومَن شابه أباه فما ظلم! "ما بالك أمي؟ بِم أنتِ شاردة؟ أرجوكِ ابتسمي قليلاً!، إنه زفاف ابنك الوحيد، لا يجب أن يعلم جميع المدعوين أنكِ غير راضية عن ذلك الزواج."همست بها سارة لأمها التي تجلس صامتة تماماً منذ دقائق، فمنذ أن انصرف المأذون وهي متصلبة بمكانها لا تحاول حتى إظهار الفرحة بابنها الوحيد.وكزت سارة سما في ذراعها فنظرت لها الأخيرة بدهشة متسائلة لتردف بنظرة ذات مغزى:_أليست عروس أخي جميلة يا سما؟دققت سما النظر برهف التي تجلس بجانب خالها وتبدو عليها الفرحة الشديدة مختلطة بالخجل ومقداراً واضحاً من عدم التصديق!_إنها جميلة بالفعل أم ساري، جعلها الله زوجة صالحة لابنك.لم يبد على سوسن أنها سمعتهما بالأصل، كانت محدقة بابنها بتركيز شديد والقلق يستيقظ بداخلها ويكبر؛ويكبر؛ويكبر؛ منذ تم تحديد تاريخ الزفاف وهي تشعر بمصيبة قادمة؛التاريخ وحده كان كارثة محققة..أيعقل أنه اختار هذا التاريخ مصادفة؟!هذا التاريخ الذي تعاهد ثلاثتهم على عدم ذكره معتقدين أنهم بتلك الطريقة ستشفى جراحهم! أيعقل أنه لم يلاحظ؟!مرتين ذهبت إليه كي تنبهه لكنها تراجعت خشية إفساد فرحته وإيقاظ ذكريات دهشت كثيراً من سرعة نسيانه إياها؛أم أنه لم ينس مطلقاً؟! أم أنه اختار هذا اليوم عن عمد؟!لكن بِمَ سيستفيد حينئذٍ؟"ما به ساري؟"ألقت سؤالها الخافت على ابنتها بينما عيناها تطالعان ابنها بِوَجَل..وسيم، أنيق، رزين.. كما العادة؛مظلم،قاتم،متربص.. ليس أبداً كما العادة! نظرت لها سارة متسائلة:_ما به أمي؟ إنه عريس!هَزَّت رأسها نفياً وأطرافها بدأت بالارتجاف رغماً عنها؛هل سبب الذكرى السنوية؟أستعاودها نفس الأعراض؟ ولماذا بعد كل هذه السنوات تحديداً؟!والنبرة القلقة توضحت تماما بينما أوضحت لابنتها:_لا تبدو عليه الفرحة، إنه حتى ينظر إليها بطريقة غريبة للغاية.ضحكت سارة هاتفة:_ربما ابنك حتى الآن لا يصدق أنه تزوج من حبيبته الوحيدة بعد أن هددتِ تحقيق حلمه بها، لذا أصبح هناك عطلاً ما في الجزء المسئول عن إظهار مشاعره. هزة نافية قاطعة هي كل ما أجابتها به أمها بينما لم تستطع نزع نظراتها عن ابنهاملامح متحفزة؛ملامح غاضبة؛ملامح ثائرة؛ملامح متعطشة لانتقام!وشهقة عالية من ابنتها جعلتها رغماً عنها تُبعد عينيها عنه لتنظر إليها، لكن شحوب وجه سارة المحدقة بباب القاعة جعلها تتبعها بعينيها حتى اجتذبها وجه صارم الملامح لطالما كان له النصيب الأكبر من لعناتها لسنوات!يا إلهي!مُحال أن يكون هو نفسه!_من هذا الرجل؟والسؤال الذي ألقته سما بفضول وهي تتطلع إلى ملامح الذعر التي تشاركتها الأم وابنتها بسخاء لم تجبها عنه إحداهما.."علام تنوي يا ساري؟!"وسؤال سوسن لم تستطع التفوه به حقاً، بينما تشبُّث سارة بها بخوف تلقائي سبق سؤالها المذعور:_أمي! أليس ذلك الرجل هو نفسه...؟ولم تستطع سارة إتمام سؤالها، فشحوب وجه أمها والكراهية التي اعتلت وجهها أعلنت وضوح الإجابة. ثم توقف الحوار!وتوقفت الضحكات!وتوقفت الهمسات! تعلقت أنظار الجميع بالعريس الذي يتصدر القاعدة الخشبية ممسكاً بمكبر الصوت."من فضلكم أرغب بدقيقة واحدة من انتباهكم!"وبسطت سوسن كفها على صدرها في محاولة لتهدئة نبضات قلبها التي تهرول هرولة! " أشكركم، وأعدكم أن أكون سريعا، في الواقع لقد رغبت في تقديم زوجتي وعائلتها للجميع!"وارتجف جسد سارة كله في ذعر واضح بينما التصقت أكثر بأمها رغبةً بالحماية! "وها هو أبوها الهارب، إنه هنا معنا جاء كي يطمئن على ابنته ويحرص على رؤيتها في هيئة العروس، كما تعلمون جميعا، حنان الأب لا يعادله شيء. "واتسعت عينا عاصم بصدمة مدركاً حجم المصيبة التي شارك بها دون إدراك، هامساً:_يا إلهي!"رحبوا معي بشديد بك الناجي والد زوجتي والذي لا يريد الاعتراف بها!"وخرج صوت سارة مبحوحاً وهي تجذب ملابس أمها أكثر، بينما صوتها تراجع بتنبيه تحذيري، وبالرغم من ذلك فإنها همست بِحشرجة: _ك..كيف؟!"لكن اعذرني شديد بك، أنا لا أستطيع تحمل نتائج أفعالك أنت.".والصراخ الناهي الذي أطلقته سوسن وهي تهب واقفة لم يسمعه ابنها وهو يحدق بـــــ"عروسه بألم؛ثم بقهر؛برجاء؛ثم بأسف؛فبتصميم!ثم بهتاف بارد: "أنتِ طالق!"هل توقف الزمن؟!هل خرِس الجميع فجأة؟! لِمَ يحدقون بها؟لِمَ ينظر الجميع إليها بصدمة؟!أهذه نظرة تشفي؟!أتلك نظرة إشفاق؟!وهذه نظرة اشمئزاز؟! كل النظرات موجهة إليها وحدها!هي المجرمة..هي اللقيطة.. هي الغادرة!!وتنقلت نظراتها بين وجوه محددة تعرف أصحابها؛تطلب توضيحاً، تأكيداً، نفياً، أو تبريراً!هذه أمه المصدومة الشاحبة..هذه أخته المرتجفة بذعر دامعة.. هذا خالها الذي تصلب مكانه مصعوقاً مثلها.أما هذا فسبب نكبتها وعارها وعذابها..ثم هذا؛قاتلها!!” قاتلتي أنتِ يا رهف! يوماً ما ستكونين قاتلتي!"هل أخبرها يوماً أنها قاتلته؟!ابتسمت!كاذب! لقد قتلها هو!..."أتعلمين؟! _ولا أتعمد ازعاجك_ اسمحي لي أن أقل لك أنكِ ضحية لقطة!” هل أخبرها يوماً أنها ضحية لُقطة؟!ضحكت!صادق إذن! فهي بالفعل لُقطة!" سأهتم بنفسي مستقبلا على ألا تعاودك تلك الحالة، هذا وعد مني!هل وعدها يوماً أنه سيهتم بألا يعاودها شلل ذراعها؟!قهقهت !أخلف وعده إذن! فقد انتصرت عليه تلك الذراع في التو وتصلبت تماما! ليرتفع فجأة الصوت الأكثر حقداً وقساوة في أنحاء القاعة: _يبدو أنك مخطىء، أنا لا أعرفك، ولا أعرف من هي تلك الفتاة ولم يسبق لي أن رأيت أحدكما من قبل، ليس لدي سوى ابن وابنة شرعيين أتشرَّف بهما، وبالتأكيد تلك اللقيطة لا تنتمي إليّ، لكنني لن أسكت أبداً عن ذلك التشهير وسأقاضيك!وزادت ضحكاتها حتى تسابقت دمعاتها للحصول على نصيبها من المشاهدة والتسلية.. النظرات المحدقة بها من الجميع منذ البداية تخلَّت عن الحسد والغيرة والامتعاض، وأصبحت ترمقها برهبة؛"يا إلهي! يبدو أن الفتاة جُنت!""أينقصها العار حتى تُطَلَّق ليلة زفافها؟""مستحيل أن تكون ابنة شديد الناجي!""بالتأكيد أحد منافسيه من دَبَّر الأمر ليؤذيه بتجارته!""يبدو أن الشاب أدرك أخيراً خطأه، وهل يتزوج عاقلاً من لقيطة؟!" ويداً حانية امتدت إليها، رفعت رأسها متسائلة عن احبتها التي جرؤت واقتربت من هالة العار المخزية التي تم فصيلها لتناسب قياسها، لتجدها زوجة... أخيها!هو نفسه أخوها الذي صرخ حالا وهو يندفع من باب القاعة كالقذيفة: "كاذب!!"ثم وقف أمام أبيه تماماً.عيناً بعين؛نداً بند؛حقداً بحقد؛تحذير بـ..وعيد؛ثم....رفض وعِنْد!_رهف أختي، رهف أختي أنا وابنتك، ابنة شديد محمود لناجي،والدتهاالسيدة عايدة التي تزوجتها عرفياً منذ سنوات وماتت قبل أن تعلن عن زواجك منها، أمي أنا تعرف ذلك، خالتي وزوجها يعرفان ذلك، خال رهف وزوجته وابنته يعرفون ذلك.ثم نزع عينيه عنه إلى ساري الذي يقف متخصراً مشاهداً بصمت..فتح فاهه غاضباً هامَّاً برميه بأقذع الألفاظ، وعلى الفور أغلقه..آسفاً!وتوقفت الكلمات في حلقه.. ربما خزياً، ربما ندماً، ربما اعتذاراً!ليتبادل كلاهما نظرات متحسرة؛نظرات عائدة من ماض أجبر عَمَّار نفسه على نسيانه؛بينما اكتشف لتوه أن الآخر لم يفعل المثل! لكنه تجاوزه إلى رهف المبتسمة بالرغم من دمعاتها ليصدح صوته هادراً:_وهذا الحقير بالتأكيد يعرف ذلك.ثم استدار مواجها الحضور الذين بدأوا بالاستمتاع جداً بذلك الزفاف الفريد، مستدركاً:_كما ترون جميعا، العروس ، رهف شديد الناجي هي أختي أنا وليست أبداً بلقيطة، ضحية هي لذلك الرجل الذي نبذها منذ زمن وتسبب لها في ازدراء أمثالكم، ثم ضحية له أيضاً حينما قرر ذلك النذل الانتقام منه عن طريقها.تعالت الهمسات والفضول ينتشر في هواء القاعة، ولم يشأ عَمَّار أن يطيل انتظارهم فتابع بابتسامة ساخرة:_وما لا تعلمونه أن شديد بك الناجي لم يؤذني أنا فقط، لم يؤذِ رهف أختي فقط، لم يؤذِ أمها وخالها فقط، بل للأسف امتد أذاه إلى أسرة أخرى كاملة، ومنذ عدة سنوات.تخشبت سوسن بمكانها؛وتهاوت سارة على مقعدها؛وساري..تعلَّقت عيناه بعَمَّار ساخراً!أيعتقد أنه باعترافه بذلك يعيد الحقوق؟ومن يعيد أصحاب الحقوق؟!أيعتقد أنه بذلك يبرىء ذمته؟وكيف يعيد من يتوجب لهم الاعتذار؟!واسود وجه شديد وهو ينظر لابنه بنظرة قاتلة لكن الأخير لم يهتم على الإطلاق وهو يتابع بنظرة حاقدة موجهة إلى ساري:_لِمَ انتقمت منه فيها؟ لِمَ لم تأخذ حقك بأي طريقة أخرى؟ لِمَ لم تنتقم من خلالي أنا؟جمود..ظلام..قسوة وضعف!كيف يمتزجون جميعهم بعينيه؟كيف يستعيض بنظراته عن الرد؟!ولما طال انتظار عَمَّار للرد تابع باستسلام:_كنت أنتظرك، كنت أنتظرك منذ ذلك اليوم وكنت مستعداً لظهورك وانتويت أن أساعدك!لحظة..والثانية؛والثالثة؛وألقى ساري ذراعيه جانباً وهو يجيب عَمَّار بصوت حمل كل آلام الدنيا، كل عجز الدنيا، كل قهر الدنيا:_أتغالي في قيمتك لديه؟ أتعتقد أنه يمكن إيذائه عن طريقك دكتور؟!اهتزت نظرات عَمَّار مُصدقاً دون كلمات على ما تفوه به..العريس!ليتابع الأخير بنبرة لا تحمل أي نوع من أنواع الانتصار:_وهل لدى شديد بك الناجي أغلى من اسمه كي أصيبه فيه؟!الحديث يدور أمامها لكنها لا تستمع؛"أخوها" يصرخ بكلمات لكن لا تصلها سوى حركة شفتيه؛هل أُصيبت بالصمم أيضاً؟! وجذبتها أخيراً مَوَدَّة لتقف فوق ساقين مرتجفتين، بينما عيناها متعلقتان به.لو أخبرها الآن أن كل ذلك كان مزاحاً ثقيلاً ستصدقه!ستنسى كل ما حدث وتصدقه!سترحل مع إلى بيته، إلى حيث السعادة والأمل؛ لكن.. لكنه منذ تلك الكلمة الأخيرة التي وجهها إليها لم ينظر لها.الكلمة الأخيرة؟! "أنتِ طالق!"لقد طلقها!لقد نبذها!لقد حرمها مستقبلاً تمنته معه وحده!ويد أخرى ساعدتها على التحرك من انها، نظرت إليها بتشوش، خطيبة صديقه التي قابلتها قبل عقد القران هي.عقد القران؟!لمدة نصف ساعة؟ألم يستطع الندم أن يغزوه مبكراً قليلاً؟ألم يستطع إدراك فداحة خطأه قبل نصف ساعة فقط؟ألم يستطع التراجع قبل إضافة عار آخر إلى حياتها؟وبقوة دفع مَوَدَّة وسما وجدت نفسها خارج القاعة، داخل سيارة زرقاء لا تعلم من احبها بصمت تام جالسة، وفي الخارج يقف حمزة يتحدث مع مَوَدَّة بانفعال ثم ينطلق إلى الداخل، وبجانبها تلك الفتاة ضئيلة القامة تربت عليها والدمعات تترقرق بعينيها.وفي الداخل:اقترب عَمَّار من ساري بتمهل مشددا بنبرة هادئة: _سأنتقم منك لأجلها يا ساري.ليأتي الرد رغم بطء كلماته سريعاً خافتاً متقطعاً:_وهل تعتقد أنني سأمنعك عَمَّار؟! تبادلا نظرات لا يفهم مغزاها سواهما ثم انطلق عَمَّار إلى الخارج مسرعاً."هل أنت ابني؟! هل أنت حقاً ساري ابني؟!" وبالحسرة.والقهروالصدمةفالخسارة!نظر إلى أمه التي شعرت الآن أنه قد شاخ بلحظات قليلة وبابتسامة ميتة أجابها:_لا أمي! أنا مجرد شبح!وفي شقة "العروسين": بعدما لم يُوجه له أحد كلمة واحدة ولم ينتظر هو بالأصل، بتثاقل دلف إلى الغرفة المُزينة، وببطء مشى يتلمس أغراضها التجميلية على طاولة الزينة؛ملابسها المعلقة داخل الخزانة؛مئزر أبيض حريري خطف دقات قلبه قبل أن تدركه عيناه؛ولوح من الشوكولاتة على الفراش وبجانبه..خطاب!!وكأنه يُطالِع قيد آخر، سيلتف حول قلبه تلك المرة؛سيختطف أنفاسه التي تجبره على الاستمرار بالحياة؛يخاف من ورقة؟!بعدما هدم عالمه قبل عالمها، بعدما كسر قلبه قبل قلبها، بعدما مَزَّق روحه قبل روحها.. يخاف من ورقة؟!بل تذكار، هدية، نفحة من حبيبته! "حبيبي ساري الآن أنت حبيبي، زوجي ومستقبلي الذي أشرق أخيراً، أعلم أنك لم تقُلها لي أبداً، أعلم أنني_بما أنني الفتاة_ فيجب علي الانتظار حتى تخبرني إياها أولا، لكنني "أحبك".أحبك ساري منذ رأيتك للمرة الأولى بغرفة مكتبك، أحبك كما لم أظن أنني سأفعل يوماً، أحبك وأعلم شدة الصراع الذي تعانيه بسبب ارتباطك بفتاة لها مثل ظروفي، أحبك وأعدك أنني سأبذل كل ما بوسعي حتى أعوضك، وحتى أستمع إلى تلك الكلمة التي أتمناها منك : "أحبك".رهف:زوجتك"وسقطت منه دمعة.. تلو أخرى..وتلو أخرى..شوهت حروف كلماتها؛وطمست كلمات خطابها؛خطاب عشقها ووعودها الذي مزق ثنايا قلبه وروحه وهو يهتف متأوها صارخاً معذباً باسمها.. آآآآآه يا رهف!بل..رهف شديد الناجي!بفستان الزفاف البسيط وفي وضع الجنين مضطجعة على فراش بغرفة لا تعلم من صاحبها، بشقة لا تعلم من مالكها منذ بعض الوقت.الباب يُفتح ويُغلق أشخاص تدخل وتخرج.. تربيتة حانية على كتفها..قبلة حانية على رأسها.أنين رجولي خافت بالقرب منها..وهي حقاً لا تعلم أكل هذا واقع أم خيال!أيجب عليها البكاء؟ لا!أيجب عليها الانهيار؟ لا! أيجب عليها الصراخ؟ ربما!!وفي فعل لطالما قامت به ببيت خالها حينما كانت تحيط بها الأزمات من كل جانب، اجتذبت وسادة صغيرة من أسفل رأسها، كاتمة بها فمها وصوتها، ثم.صرخةوصرخة أعلى وصرخة أعلى وأعلى وأعلى.دقائق متواصلة من الصراخ المكتوم المصحوب بنحيب حتى شعرت بجفاف مآقيها وانهاك روحها جسدها.. ثم أخيراً استسلمت.. نائمة! وفي الخارج:"لقد نامت!"قالتها مَوَدَّة لزوجها ذي العينين الحمراوتين وهو يدفن رأسه بين كفيه، جلست إلى جواره مربتة على كتفيه بمواساة، وبخفوت رددت:_عَمَّار، يجب أن تتشبث ببعض القوة ، هي تحتاج إليك الآن بالتحديد أكثر من أي وقت مضى._لقد قتلناها!قالها بهمس ذاهل ثم تابع:_شديد بك، وأنا، وخالها، وذلك الوغد.مردفاً بصوت أقوي:_جميعنا قتلناها! ثم هب واقفا وهو يصرخ:_شديد بك تبرأ منها، أنا تخاذلت في استعادتها، خالها لم يقُم بدوره وفضّل التخلص منها سريعا، وذلك الحقير قتلها بسكين بارد!!وسقط مرة أخرى على المقعد متابعاً بعد صمت مرير:_عندما ذهبتُ إليها منذ يومين أرجوها أن تتقبلني بحياتها، شعُرت كم العذاب الذي تعانيه وأدركُت أن ما تدمّر بها منذ سنوات لا يمكنني إعادة بنائه بسهولة.ثم رمقها بألم قائلاً:_أخبريني الآن مَوَدَّة ما الذي يمكنني فعله بعد استباحة كرامتها وثقتها وقلبها هذه الليلة على مشهد من الجميع؟لتجيبه مَوَدَّة بدمعات ممتزجة بلهجة واثقة:_يمكنك فعل الكثير عَمَّار، يمكنك التواجد بجانبها، يمكنك التمسك بها، كما يمكنك البحث عن حل لمشكلتها الأساسية.رفع أنظاره إليها متسائلاً: _ماذا تقصدين؟مسحت دمعاتها بسرعة وهي تهتف بقوة: _يجب أن تعلن بكل مكان أنها أختك كما فعلت الليلة أمام الجميع، يجب أن تساعدها على عدم الاستسلام لانهيارها، الفتاة فقدت بالفعل كل ما كان لديها، لم يعد هناك سواك عَمَّار، فلا تخذلها أنت أيضاً.تأمل عَمَّار الإصرار الذي يرتسم بعيني زوجته ثم توسلها بخفوت:_ضُميني مَوَدَّة!رمشت بأهدابها مترددة فكرر:_أرجوكِ مَوَدَّة ضميني! فلم تسمح له بتكرارها للمرة الثالثة وهي تجذبه إليها بسرعة مربتة عليه بحنان شديد بينما استسلم هو باحثاً عن سَكَن بين ذراعيها قُرب الفجر:منهارة ببكاء مرير بداخل أحضان أمها على فراش الأخيرة منذ عودتهما إلى المنزل؛ كلما اعتقدت سوسن أنها ستنام إنهاكاً فاجأتها ابنتها بذرف العديد من الدمعات المصحوبة بشهقات عالية.._سارة، أرجوكِ توقفي عن البكاء، لا أحتمل المزيد، اهدئي ابنتي! وصوت سارة جاء مبحوحاً متقطعاً، والذعر لايزال يتحكم به:_لقد..لقد اعتقدت أنني نسيته أمي، لقد تجاهلت كل الكوابيس التي زارني خلالها بإصرار طوال تلك السنوات... ثم هَبَّت جالسة تسألها بألم:_لماذا لم أنس وجهه قط؟ لماذا طُبِعَت ملامحه بمخيلتي لثمانية عشر عاماً؟!وأتبعته بآخر أكثر ألماً:_كنت طفلة! كيف لازلت أتذكر ملامحه حتى الآن، وكأنه لم يغِب عن عيني قط؟ثم آخر مُتشبِّع بالحيرة: _وكيف لازلت أتذكر كل شيء أمي؟ وكأنه تم الليلة فقط! تعالت دقات قلب سوسن بخوف وأحاطت وجه ابنتها متسائلة بِحَذَر:_أي كوابيس تلك التي تنتابك سارة؟ ومنذ متى؟ ولماذا لم تخبرينني عنها من قبل؟ازدادت غزارة دمعات ابنتها وارتجفت شفتاها..شحب وجهها أكثر وارتعشت أصابعها حتى عادت تماماً على نفس الصورة في مثل ذلك اليوم...منذ عدة أعوام!_كنت..كنت أراه يكتم فمي يمنعني عن الصراخ، كنت أرى كفه غارقة بالدماء فأتسمَّر مكاني ولا أستطيع النطق..قالتها سارة برهبة، ثم أردفت بخفوت: _وبنفس الكف يقوم بجرائمه أمامي، بينما أنا..صامتة كالتمثال!صمتت رغماً عنها بعدما انقطع صوتها فجأة مع آخر كلمة فانتفضت أمها مذعورة، لكن سارة رَفَعَت وجهها إليها متابعة ترمقها بعينين زائغتين..ضائعتين:_وعندما تسيل الدماء أنهاراً، يولِّي هو مذعوراً، فأكتشف أنها كانت كفي أنا، كفي أنا أمي! أنا من كنت أضع كفي على فمي، أنا من كنت أكتم صوتي بنفسي، أنا من أحمل على عاتقي تلك الدماء!جذبتها أمها إلى أحضانها تربت عليها برفق وتشاركها بكائها، ثم بعد قليل قالت متوسلة:_ليس لكِ ذنب سارة، لم يكن بوسعك فعل أي شيء، هو المجرم لعنه الله، أرجوكِ حبيبتي لا نريد مصيبة أخرى الآن، إياكِ أن تهربي إلى ذلك العجز مرة أخرى!لكنها نظرت إليها لتسألها بحسرة: _ما ذنب رهف أمي؟ لماذا فعل ساري بها هذا؟ لماذا قتلها؟ وكيف فعل بها وبنفسه ذلك؟!والحسرة أيضاً شاركتها بها أمها، وقد ظهر عذاب السنوات الأآن تحديداً على ملامحها، ثم أجابتها:_ساري أُصيب بالعمى يا سارة، وقريباً سيرتد إليه بصره، لكنه لن يفيده حينها!"بحياتي كلها لم أتوقعك بمثل تلك النذالة!"لم يكلف نفسه عناء الرد على عاصم الذي يبدو وأن هدفه منذ وصوله صباحاً مُركّز بصياحه به، صياح يستحقه على أي حال._كيف؟! كيف واتتك الجرأة لتفعل بها ذلك؟! أنت حتى استخدمتني أنا! لم يُعلِّق ساري بِحرف فتابع عاصم هادراً:_استخدمتني ساري كي أستطيع دعوة ذلك الرجل على زفافك دون إخباره بأنه عُرسك أنت، وأنا كالأحمق لم أشأ أن أعارضك أو أسألك عن نيتك في أمر يخص ماضيك المؤلم برغم دهشتي من تصميمك على دعوته، لكن.. لكن لم أكن أتصوّر أبداً أنك تُخطط لتلك المسرحية، ما ذنبها هي؟ ما ذنبها؟!!الصمت المقابل أثار أعصابه إلى أقصى حد وهو يصرخ به:_أجبني ساري! أجبني يكاد عقلي أن ينفجر! أخيراً جاء صوته بمنتهى الهدوء وهو يشرد بأحد الجدران: _ماذا تريد مني أن أقول؟وبغيظ سأله عاصم:_ماذا استفدت؟صمت طويل عمّ والنظرة السوداء المظلمة تحتل ملامحه بالتدريج..يرمقه عاصم بقلق يتحول إلى دهشة..أيضاً بالتدريج!أهذا صديقه الذي يعرفه منذ سنوات؟أهذا من اعتقد أنه مرآة لروحه؟! أهذا هو أكثر من يثق به في هذا العالم؟!ليجيبه بلهجة حاقدة لم يستمع إليها منه يوماً:_لقد رأيت الذعر بعينيه، رأيت سقوطاً مدوياً، رأيت توسلاً لم ينطق به أن أرحمه، ألا أفضحه، رأيت بكاءاً صامتاً وترقباً لما سيحدث، رأيت ذل وإهانة وخزي وقهر.اقترب منه عاصم متسائلاً بصوت غاضب:_وماذا رأيت بها هي؟ إذا كنت قد اهتممت بها في الأصل؟اختفت النظرة السوداء لتحل ملامح تعاني شيئاً لا يدركه، شيء عَبَر حدود العذاب إلى أقصاها، أغمض عينيه ثم أمره بهدوء_اذهب عاصم، اذهب ولا تتحدث في ذلك الأمر، لقد انتهى.وبضحكة ساخرة أجاب عاصم: _بل انتهت، إنسانة بريئة كانت تكافح للهرب من براثن وحوش المجتمع التي لم ترحمها يوماً فسقطت بين فكي الوحش الأكثر خداعاً على الإطلاق!وصفعة الباب خلفه أجفلته، وعندما ظنّ أنه بمفرده أتاه صوت أمه التي دلفت إلى غرفته قبل انصراف عاصم حانقاً:_هل أحببتها حقاً يا ساري؟أغمض عينيه ثانية وهو يكور قبضتيه بقوة حتى ابيضتا فكررت أمه:_هل أحببتها يوماً؟ليزفر بألم ويجيبها بخفوت صادق:_لم أعشق بحياتي سواها يا أمي، ولآخر نفس بصدري لن تكن هناك سواها!ونبرتها الباكية قطعت صمته الميِّت الذي يغرق به:_لِمَ خدعتها إذن؟_لِمَ استغللتها؟_لِمَ ذبحتها؟وثلاثة أسئلة أحرقت قلبه وعقله، ليجد نفسه يستدير إليها صارخاً بزئير ليس من ادته_أمامها_:_لأنها السوط الذي جلدته به أمي! هي ابنة ذلك الوغد القاتل! ابنة شديد الناجي يا أمي، ونقطة الضعف الوحيدة لديه، ولا تخبريني أنكِ نسيتِه!واشتد بكاؤها وهي تصرخ به بدورها:_لم أنس، لم أنسه، لم أنس يوماً ما فعل، لكنني اعتقدت أنك تخطيت ذلك منذ زمن، لقد اعتقدت أنك ستبدأ بالاهتمام بنفسك وبحياتك ومستقبلك، لقد اعتقدت أنك لن تُغرِق نفسك عمداً في عذابات الماضي وغيابات بحور الانتقام.توقفت قليلاً شاهقة ببكاء عندما أدار وجهه عنها ثانية ثم تابعت بذهول: _يا إلهي! كلما تذكرت كم شعُرت بالغيرة منها وأفكر في حالها الآن يتمزق قلبي من أجلها.ثم صرخت به:_أهي اختارت أن تكون ابنته؟ ألا يكفيها ما تعاني؟ ألا يكفيها القهر الذي عايشته منذ صغرها؟!وتابعت بحسرة: _أنت لا تعلم كم كانت تحبك! لقد اعتقدت أنا أنها وجدتك فرصة عظيمة لم تكن لتحلم بها، لقد اعتقدت أنها لا ترى بك أكثر من اسم وبيت تحتمي بهما.توقفت لتنتحب قليلاً ثم أضافت بندم:_وعندما ذهبت إليها أدركت أن تلك الفتاة تعشقك، تعشقك يا ساري بغض النظر عن معاناتها، لقد رأيت بعينيها وعداً بالسعادة لك وحدك، لكنك.. لكنك أجهزت عليها، ذبحتها بكل قسوة ولم تتراجع لحظة واحدة! التقطت أنفاسا متسارعة ثم تابعت:_هل أنت ابني بالفعل؟ ابني الذي ربيته طوال سنوات ورأيت به السند لي ولأختك بعد مصائبنا؟ كيف تحولت إلى إنسان قاسِ هكذا؟! متى نُزِعت منك الرحمة يا بني؟يوليها ظهره ببرود مفتعل، وعيناه تسيلان أنهاراً من العذاب والألم، كل كلمة تنطق بها عن عشق حبيبته له تقتله بدلاً من أن تمنحه السعادة، والآن ليس لديه رد، كل ذلك بلا فائدة، لا يمكنه إعادة الزمن أليس كذلك؟!"دكتور حمزة!"التفت عابساً ثم ما لبث أن ازداد عبوسه أكثر وهي تقترب منه بارتباك، وعندما هَمَّت بالكلام عاجلها بحنق:_خيراً؟! بأي مصيبة أرسلك أخوكِ النذل؟تلفتت حولها وهي ترى بعضاً من المارين بالمشفى ينظرون إليهما بفضول بسبب صياحه ثم قالت بِحرج:_هو.. هو لا يعلم أنني جئت، لقد.. أردتُ الاطمئنان على رهف بعدما...ليقاطعها بغضب: _بعدما قتلها أخوكِ الحقير الخسيس أليس كذلك؟ وباعتراض واهن ردت:_أرجوك لا تسبه!ليميل بوجهه تجاهها بغضب مشدداً بنبرة بطيئة:_ليتني أستطيع فعل أي شيء سوى السَب، ليتني أطال عنقه الآن لأكسره، عديم الضمير الغادر النذل.طأطأت رأسها حرجاً لا تحاول حتى البحث عن دفاع، محق هو بكل كلمة قالها وإن قال أكثر...هي نفسها_للمرة الأولى بحياتها_ لا تتحمل رؤيته، لا تتحدث معه، تقاطعه بامتعاض!_أردت فقط معرفة حالها، هاتفها مغلق منذ الأمس و. ليقاطعها مرة ثانية ساخراً:_أنسيتِ أنها عروس و زفافها كان بالأمس فقط؟! بالطبع هاتفها مغلق!ازدردت لعابها بألم وهي تحدثه بخفوت:_أرجوك دكتور حمزة، أريد فقط الوصول إلى أخيها الذي أخذها بالأمس، أريد أن اطمئن عليها. نظر لها حمزة باشمئزاز شديد وهو يهتف:_ابتعدي عنها، لا أعتقد أنها ستتحمل رؤية أي شخص له صلة بذلك الجبان، يكفيها ما فعلتم بها، يكفيها المصيبة الجديدة التي أهديتموها إليها.فرفعت عينيها الدامعتين إليه بألم هاتفة بحروف تلكأت رغماً عنها:_وما ذنبي أنا؟ هل تعتقد أنني راضية عَمَّ فعل؟ هل تعتقد أنني كنت على علم بذلك؟ أقسم لقد صُدمت مثل جميع الحضور بالأمس. حدق بالصدق الناطق بعينيها بغيظ شديد واجتاحه خيط من الندم إلا أنه سرعان ما هتف:_وإن كنتِ صادقة، ماذا تريدين منها؟ لا يحق لأيٍ منكم حتى ذكر اسمها، دعوها وشأنها، هي الآن ليست وحيدة، عَمَّار لن يتركها وأخبري أخوكِ النذل بذلك!ثم أولاها ظهره وانصرف لتقف هي مكانها للحظات تحارب ظهور دمعاتها، وما لبثت أن تقهقرت منصرفة.خرجت من الغرفة الصغيرة بفستان زفافها تتجول كالتائهة في المكان الذي لم تتعرفه بعد، وحينما دعست بالخطأ على إحدى الألعاب أتاها صياح طفولي من خلفها:_احذري آنسة رهف!التفتت بدهشة مشوشة الرؤية لترى أمامها الطفل الجميل ينظر إليها ببراءته المحببة صائحاً:_يا إلهي! لِمَ أنتِ بشعة هكذا؟!شهقتها الضعيفة اقترنت بصيحة أنثوية حرِجة من مَوَدَّة: _إياد! ما هذا؟! أيصح أن تتحدث هكذا مع عَمَّتَك؟! نظرت إليها بدهشة والإدراك يغزو حالها لوضعها ومكانها، بينما الطفل طأطأ رأسه بحرج:_عذرا أمي، قصدت أن وجهها يبدو غريب الشكل.وضعت مَوَدَّة يدها على ذراعها المتيبسة مبتسمة:_صباح الخير رهف، يبدو أن مواد الزينة لطخت وجهك تماما، هيا بنا إلى غرفتك لتبدلي ملابسك وتنتعشي قليلا.وبدون كلمة واحدة سارت بجانبها بانقياد تام إلى نفس الغرفة التي قضت ليلتها الكئيبة بها، وبينما مَوَدَّة تبحث عن شيء ما بالخزانة بادرتها رهف بصوت متقطع: _أعاني صداعاً شديدأً. التفتت لها مَوَدَّة بحنان جارف وهي تعطيها بعض الملابس قائلة:_سأجلب لكِ مُسكناً، لكن بعد أن تتناولي طعام الإفطار، هيا انعشي نفسك وسأنتظرك خارجاً. ودعتها مَوَدَّة مؤقتاً بابتسامة لم تستطع مبادلتها إياها ثم خرجت.بعد قليل:جلست على طاولة الطعام تراقب اهتمام مَوَدَّة بابنها وهي تطعمه وتقبّله بحب، تضمه بين كل قضمة والأخرى، أخفضت عينيها أرضاً ورغماً عنها شردت في الليلة السابقة.لن تبكي الآن؛بالطبع لن تفعل؛وشهقاتها الباكية جعلت مَوَدَّة تنتفض إليها وهي محتضنة إياها بين ذراعيها، بالضبط كما كانت تفعل للتو مع ابنها، لتجد رهف نفسها تطلق العنان لبكائها مرددة كلمة واحدة:"لِمَ؟" بمجرد خروجه إلى صالة الجلوس هَبَّت سارة لتنصرف من المكان فأوقفها نداؤه:_سارة! أتخاصمينني أنتِ أيضاً؟ وعلى الفور التفتت إليه بغضب عارم هاتفة:_لماذا سأخاصمك ساري؟ هل فعلت ما يستحق؟ هل ظلمت أحداً ما؟ هل جنيت على روح بريئة ما؟ هل_وبمنتهى البرود_ مزقت قلب ما أحبك ووثق بك؟!ولما لم يرد صرخت به أخته للمرة الأولى بحياتها:_لقد وثِقَت بك ساري، رهف وَثِقَت بك وحدك! لقد ظلّت لأيام متتالية تسألني ماذا تحب؟، ماذا تكره؟، كم طفلاً تتمنى؟، هل حقاً تحبها؟... لم تكن تصدق هل تحبها أصلا أم لا يا ساري، لكنها رددتها على مسامعي عدة مرات بمنتهى البراءة، لقد وعدتني أنا_أختك_ بسعادة مقبلة ستغمرك بها، هل لك أن تتخيل ماذا فَقَدْت؟وبصوت متهدج تابعت:_لقد كانت خائفة ، خافت أن تتركها يوماً ما إن أصابك بعض الندم، لكنها للأسف لم تكن تتصور أن ذلك اليوم سيكون هو نفسه أسعد يوم بحياتها.ودمعاته التي ترقرقت بها عيناه جعلتها تُخرِس لسانها بنفسها وهو يجيبها بصوت أكثر تهدُجاً: _أتعتقدين أنني لا أتعذب سارة؟! أتعتقدين أنني أرفل في ثوب راحتي منذ اتخذت قراري؟! أتعتقدين أنني لا أموت حياً؟!رمقته بألم فيما تابع هو بنبرة تقطر منها القهر بكرم: _لقد نحرت روحي بيدي، لقد قهرتُ قلبي، وحكمت على نفسي باحتراق أبدي لا أستحق منه أي إنقاذ!ودمعاتها سألته وهي تعي حالته التي لم تره عليها يوماً:_ولِمَاذا فعلت بنفسك ذلك؟ ولماذا فعلت بها ذلك؟ ولما آثر الاستسلام للصمت تابعت بمرارة:_لقد قلتها بنفسك لأخيها، أبوهما السفاح لم يكن ليهتم بأحدهما، لماذا دعست قلبك بقدمك أخي؟والإجابة التي رددها على نفسه منذ سنوات باستمرار لم تكن لتضيف شيئاً فالتزم الصمت.. ثم الهروب."وما ذنبها المسكينة؟"لم يستطع عاصم إجابة أمه وهو نفسه لا يجد أي مبرر لِمَ فعله صديقه، صديق الذي شعر أنه أصبح بالسبعين من عمره فقط ذلك الصباح!"كيف حال صديقك النذل؟ عسى أن يكون هانىء مرتاح البال!"هتفت بها سما بعد أن استيقظت بوقت متأخر بعدما تنازعتها أفكارها الحزينة على عروس الأمس!_كُفّي سما! عاصم ليس له ذنب، هو لم يكن يعلم.قالتها أمه بحزم، فعمّ صمت بالمكان فسألته سما بصرامة:_أحقاً لم تكن تعلم؟وعاد الصمت لتقطعه أمه بتوجس:_أنت لم تكن تعلم بخطة صديقك يا عاصم أليس كذلك؟! أنت لم تشارك بتلك الجريمة! أنت لم ترضى بالظلم لفتاة مسكينة وقد رأيت ما وقع على أمك من ظلم لسنوات.ولما لم يجب أمرته بصياح:_أجب عاصم، أجبني ولا تصدمني بابني الوحيد!هنا فقد كل هدوئه وهو ينتفض صارخاً:_كنت أعلم!! كنت أعلم أنه يريد الانتقام منه منذ سنوات! كنت أعلم أنه لديه كل الحق ليعيش عمره كله منتظرا القصاص، كنت أعلم وكنت أشجعه بكل ما أوتيت من قوة، بل ساعدته!شهقة ذاهلة من أمه مقترنة مع نظرة مصدومة من سما أوقفتاه، لكنه ما لبث أن تابع حاقداً:_أنا أرسلت عدة تهديدات لذلك المجرم، ولقد تسببت بِصِلاتي في خسارات متتالية له بدون ظهور ساري في الصورة لأن مجرد ذكر اسمه سيجعل ذلك القذر يحذر، أتعرفان لِمَ؟ لأنه يستحق عذاباً أبدياً في جحيم لا ينتهي! ثم تهدّلت كتفاه بألم واضح وهو يتابع بنبرة انهزامية:_لكن لكني لم أكن أعلم بالجزء الخاص برهف، لم أكن أعلم قط أنها ابنته، لم أكن أعلم أن ساري في فورة غضبه وجنونه سيظلم أخرى ليس لها ذنب سوى أنها تنتمي رغماً عنها لحقير سفاح مجرم، ظلم الكثيرين قبلها وتنصل منها! _هل يدرك صديقك أنه بالأمس خسر أكثر مم اكتسب؟ والسؤال خرج بنبرة عادية جداً من سما، وبالرغم من ذلك فقد تحفّز لاستدراكها الذي أتى بالفعل بسرعة: _أنا لم أر تلك الفتاة سوى بالأمس، لكني أجزم أنها كانت تعشقه، أجزم أنها كانت ستقضي حياتها متفانية في إسعاده.محقة هي، فكل من حضر الزفاف شهِد كم كانت فرحتها طاغية، كم كانت نظراتها عاشقة وبالكثير واعدة، انتزعته عبارة سما من أفكاره مرة أخرى وهي تردف بلهجة بها بعضاً من الوعيد:_لكنه فضّل انتقامه فهنيئاً له!، وأرجو أن يظل مكتفياً به عندما تدرك هي كيف كانت مخطئة بحق نفسها عندما أقللت من قدرها لأجله! "لِمَ أنت مرتدية تلك الملابس رهف؟"نظرت رهف إلى هيئتها ثم ردت بحرج:_اعذريني ملابسي ليست هنا و.قاطعتها مَوَدَّة مقتربة منها بهدوء:_لم أقصد حبيبتي، كل الملابس بالخزانة لكِ بالأصل، لقد ابتعناها أنا وعَمَّار لكِ ما إن انتقلنا إلى هنا، أنا قصدت هل أنتِ ذاهبة إلى مكانٍ ما؟هزت رهف رأسها بالإيجاب وهي تجيب:_نعم، أنا لدي حصص بعد قليل.نظرت لها مَوَدَّة بدهشة شديدة ثم سألتها ببطء: _ألستِ.. ألستِ في إجازة؟تلك المرة هزت رأسها بلا اهتمام وهي تجيبها:_كان لدي أسبوعين كإجازة زواج، والآن.. لا زواج، إذن سأعود إلى عملي، لا داعي لبقائي بالبيت. حدقت بها مَوَدَّة بقلق شديد ثم افتعلت ابتسامة هاتفة: _معِك حق، العمل أفضل وسيلة الآن للــ...ثم بترت عبارتها بنفسها مستدركة:_انتظريني قليلاً سأبدل ملابسي وأُقلك. تمسكت بكتبها بذراعها السليمة وهي ترد:_لا داع، سأستقل أقرب حافلة، ألن يذهب ابنك اليوم؟ صمتت مَوَدَّة واعية لتهربها من نطق اسم الطفل متعمدة، هي لازالت لم تتقبل تلك الصلة، لم تتقبلهم جميعهم، لكن هل هذا البرود طبيعي بعدما بكت بأحضانها لساعات بالأمس حتى نامت إرهاقاً؟_لقد ذهب به عَمَّار إلى أمي وأبي كي يقضي معهم بعض الوقت.لم تكلف نفسها عناء الرد عليها وهي تتجه إلى الباب فهتفت بها مَوَدَّة:_هل قمتِ بتشغيل هاتفك؟وبدون كلمة هزت رأسها وهي تختفي بالخارج"ما ذلك الصوت المرتفع؟"صاح بها صلاح وهو يغلق جهاز التلفاز الذي استمع إلى صوته من الدور الأسفل ثم تابع:_أليس لديكِ ذرة إحساس دينا؟ ابنة عمتك طُلِقت أول أمس وأنتِ تستمعين إلى تلك الأغاني بمنتهى البرود؟ مطت دينا شفتيها بلا اهتمام ثم رَدَّت:_تقصد تزوجت وطُلِقت أول أمس أبي، وماذا تريد مني أن أفعل؟ نظر لها صلاح باشمئزاز وخيبة أمل، وهَمَّ بنهرها عندما تصاعدت الطرقات على باب الشقة، وبمجرد أن فتح الباب اقتحم عَمَّار المكان بثورة هاتفاً بدينا:_أين هي؟ الآن حالاً ستخبرينني أين هي وإلا سأفتعل فضيحة هنا!ارتعدت دينا وهي تختبىء خلف جسد أبيها الذي صاح بعَمَّار:_ما الذي تفعله يا هذا؟ كيف تقتحم منزلي بذلك الشكل؟ ماذا تريد منا؟وهنا صاح عَمَّار بغضب مُوجه كله إلى دينا: _اسأل ابنتك، اسألها ما الذي لديها ويستطيع تبرئة أختي من تهمة ليس لديها شأن بها.التفت صلاح إلى ابنته مستفهماً:_ماذا يقصد؟ عمّ يتكلم؟شحب وجه دينا تماماً وهي ترد بتوتر:_أنا.. أنا لا أعلم، إنه سبق وهددني وأنا لم أرغب بالتسبب بمشكلات، لكن يا أبي هو من يصمم على التعرض إليّ!ضيق عَمَّار عينيه وهو يود لو يهدي وجهها لكمة يشفي بها بعضاً من غضبه مردداً:_أخبري أبيكِ إذن عن زيارتك أنت ووالدتك منذ بضعة أشهر إلى فيلا شديد بك، أخبريه عن سبب ظهوركما قبل تشريفه بزيارته الكريمة إلى منزلكم والتي على إثرها تركت رهف البيت. حدق صلاح في وجه ابنته الشاحبة بعدم فهم وذكرى تلك الإهانة تعود إلى عقله بعد أن تهرّب منها مراراً، بينما دارت عينا دينا بعيداً وهي تحاول فهم كيفية معرفته بكل تلك التفاصيل، لا يعقل أن أباه أخبره بها! وبدهشة سألها أبوها مجدداً:_ماذا يقصد دينا؟ نظرت إلى عَمَّار بِغِل شديد وهي تستعيد تلك الفترة التي أعقبت طلاقها..لقد ظهر في حياتها متقرباً منها فلم تمانع اعتقاداً منها بأنه سيقوم بتعويضها عن حياتها مع حمزة، لم تهتم بزواجه أو بطفله، حتى فوجئت به يطلب منها ما يخص رهف ولم تعرف لِمَ يتحدث عنه بتلك الثقة.. لتخبرها أمها بأنه أخيها!لكنه الآن يتفوه بتفاصيل جديدة تماماً لا يعلم بشأنها سواها وأمها وشديد!"أنا كنت هناك!" حدق به الاثنان أحدهما بعدم فهم والأخرى بصدمة، فتجاوز أبيها وتوقف أمامها مردداً بصرامة:_أنا كنت هناك، ورأيتك أنتِ وأمك في فيلا شديد بك الناجي! منذ بضعة أشهر:اختلس النظر من شق الباب الموارَب لغرفة مكتب والده بعدما حضر في غير موعده ليفاجأ بصياحه المرتفع:"أتهدديني أنتِ وابنتك؟! ألا تعرفا ما يمكنني فعله؟ ألم تخبرك زوجة أخيك قبل أن تموت أنني أستطيع تحطيم كل من يتجرأ على إغضابي؟"وقفت شروق يبدو الذعر على وجهها وهي تخاطبه بأسف:_والله لم نقصد أبداً أن نهددك يا بك، نحن فقط نحذرك، تلك الفتاة تنوي ابتزازك وفضح زواج أمها منك بالماضي، ونحن نتمنى أن تتدخل وتخلص نفسك وتخلصنها منها، الوضع أصبح لا يطاق!هنا صاح شديد بها :_وما شأني أنا؟ لقد تبرأت منها منذ زمن بعد أن أمرت عايدة بإجهاضها وعصتني، أنا حتى لم أتذكر وجودها إلا حينما أتيتما اليوم.وببرود وقفت دينا ترد:_لكنها لاتزال ابنتك أنت!عقد عَمَّار حاجبيه بدهشة وهو يحاول البحث عن معنى آخر معقول غير ذلك الذي يفرض نفسه أمامه، لكن أبيه وأد تلك المحاولة تماماً في مهدها عندما رد بنبرة أكثر خبثاً يحفظها جيداً:_وهل تستطيعين إثبات أنها ابنتي؟ أمها نفسها لم تستطع فعلها قبل أن تموت.ابتسمت دينا أمام وجهه بتحدي وهي تهتف: _أمها لم تستطع، لكننا نمتلك شيء ما قد يقلب الأمور كلها، أنت تفهم ما نقصد تماماً شديد بك أليس كذلك؟! تخيل أن يظهر الآن ما يشوه سمعتك بوجود ابنة غير شرعية لك، ماذا ستفعل حينها؟ارتد عَمَّار للخلف مصعوقاً والكلمة تضرب عقله ابنة؟!غير شرعية؟أخت له؟ كيف؟؟؟لكنه اضطر إلى متابعة الحديث الدائر عندما تحدثت المرأة الأكبر سناً بمهادنة وقد بدت أضعف من ابنتها المتبجحة:_اسمع يا بك، نحن هدفنا واحد، أنت لا تريد تلك الفتاة بحياتك ولا نريدها نحن ببيتنا، لكنها كالطفيلية لا تود الانصراف، تستطيع أنت المجيء وتهديدها كي تبتعد عنا وتتراجع عن نيتها بابتزازك، ماذا قلت؟!وما حدث بعد ذلك علمه من أخته الصغرى تغريد التي سمعت اتفاق أبيها مع رجاله، فما كان منه إلا أن بحث خلف المرأتين ليعلم أن الصغرى متزوجة من زميل، وهكذا قرر أن يقوم بتأديبها! عودة إلى الوقت الحالي:وصفعة من أبيها جعلتها ترتمي أرضاً صارخة وهو يجذبها من شعرها صارخاً:_كنت غاضباً منكما بسبب طردكما لها، لكنني لم أتخيل أنكما قد صرتما على تلك الدرجة من الوضاعة، لقد أهانني هؤلاء المجرمين بسببكما؟! لقد ضربوني أمامكما في عمري هذا ولم تتحرك أحدكما، لم تكن إلى جواري سوى تلك التي تكرهونها كالعمى، كيف أصبحتما على ذلك الشر؟ كيف أصبحتما بتلك الوضاعة؟!"أريد أن أعرف ما الذي لديكما وخاف شديد بك من ظهوره؟"صاح بها عَمَّار بنفاد صبر وهو لا يهتم حقاً بإهانة أبيها لها أمامه:_عقد الزواج العرفي. والعبارة انطلقت من شروق التي تقف مرتجفة بأحد الأركان فحدق بها الرجلان بصدمة، لكن عَمَّار اقترب منها هاتفاً بلهفة:_أين هو ذلك العقد الآن؟صاحت شروق بسرعة:_أقسم أنه ضاع، لم يعد بحوزتنا!فصرخ بها عَمَّار: _بالتأكيد تكذبين، أين هو؟ثم رقّت نبرته وهو يتوسلها:_أرجوكِ سيدة، أخبريني أين هو ذلك العقد؟ إذا انت مشكلتك وجود رهف معكم فهي تقيم معي الآن، لن ترينها أبدا، لكن أخبريني أين العقد كي أُحسن من موقفها. هتفت دينا بتقطع:_قالت لك ليست بحوزتنا! نظر إلى كلتيهما باشمئزاز واضح ثم اتجه إلى الباب هاتفاً: _أعلم أنكما كاذبتين، وسأعود من أجل ذلك العقد وسأثبت لكما كم أنني أحياناً أشبهه!وعندما أصبح أسفل البناية التي يقطن بها صلاح جاؤه اتصال هاتفي للمرة الأولى..منها!!وبكل لهفة الدنيا رد هاتفاً:_رهف!ليجد الرد الهادىء تماماً:_لقد طردوني من العمل عَمَّار!عاد إلى البيت مسرعاً والغضب يعلو وجهه، وما إن دلف إلى الشقة قابلته مَوَدَّة بقلق:_هل هاتفتها عَمَّار؟ليجيبها بغضب :_هي من هاتفتني، أخبرتني أنهم طردوها من العمل، وأنها تريد التمشية وحدها قليلا ثم ستعود.اقتربت منه مَوَدَّة مخاطبة إياه بهدوء:_أعطها وقتها لاستيعاب صدمتها عَمَّار، يكفي أنها ستعود إليك.ويبدو أن عبارتها البسيطة هدأت من جموح غضبه فزفر مستسلماً ثم قال بقهر:_هناك عقد زواج عرفي يثبت زواج أمها من شديد بك.بانت الفرحة على وجه مَوَدَّة وهي تهتف:_حقاً؟! حمداً لله، وأين هو؟ _لقد قالت زوجة خالها وابنتها أنه ضاع ولا يعلما أين. سألته مَوَدَّة باهتمام:_وهل تعتقد أن هذا ما حدث بالفعل؟هَزَّ رأسه نفياً ثم قال بِنبرة مُتوعِّدَة:_بالطبع لا، إنهما تكذبان، لكنني لن أتركهما ينعما بحياتهما، سوف أجعلهما يندمان على كل ما تسببا به لأختي، وذلك العقدسوف آخذه حتى وإن اضطررت لارتكاب الجرائم في سبيل الحصول عليه.حَدَّقَت مَوَدَّة في عينيه وسألته بلهجة ذات مغزى:_وتصبح مثل ساري؟رَفَع عَمَّار عينيه إليها في صمت فتابعت بِحزم:_اجعل هدفك ترميم ما فسد برهف عَمَّار، الانتقام لا يمنح الراحة، لقد رأيت ذلك واضحاً في عينيه أمس الأول.تَمَسَّك بالصمت فأردفت باستفهام: _هل ستخبرني لِماذا انتقم بتلك القسوة؟وأضافت باستغراب:_هل ستخبرني عَمَّار ما الذي يُجبر رجل عاشق أن ينتزع حبه بيده ويتخلَّص من روحه بنفسه بذلك القهر الذي كان يصرخ به؟التمعت عينا عَمَّار بِرفض واضح ثم قال بِخِزي:_لا مَوَدَّة! لن أخبرك، لأن من بين جميع أفعال شديد بك تظل جرائمه المُرتَكَبَة في حق ساري وأسرته هي الأكثر شناعة على الإطلاق.وأردف بألم:_كنت أنتظره، كنت أعلم أنه سيظهر يوماً ما ولقد اتخذت احتياطاتي منذ سنوات لحماية تغريد، لكنني في صدمة اكتشافي وجود أخت أخرى غفلت عن حمايتها، وكان هو أقرب إليها مني. ونظر إليها بحسرة متابعاً:_ربما لو أخبرتك ستخافين مني أنا أيضا لأنني أحمل دمائه، ربما ستخافين على إياد من جده، لذا لا! لا أحب التحدث في تلك القصة على الأخص. والخوف بِعينيه جعلها تتراجع بالفعل عن رغبتها بالمعرفة وهي تشعر أن ما تبحث خلفه مخيف ولا تُحَبِّذ العلم به! "أرجو التوقيع على تلك الملفات وإرسالها إليّ مع سكرتيرتك!"ألقى عاصم عبارته بنزق ثم عاد إلى الباب لينصرف بِغضب واضح فأوقفه ساري بِصوت مهموم: _حتى أنت يا عاصم؟!التفت إليه وكأنه كان منتظراً عتاباً منه هاتفاً بِكل حنقه:_بالذات أنا ساري، بالذات أنا! ثم اقترب من المكتب مُشيراً بِسبابته إلى صدره وهو يصيح: _أنا من عشت في خدعة كبيرة لسنوات ظلمت بها امرأة كل ذنبها أنني لم أستمع إليها مرة واحدة ولم أبحث عنها وعندما وجدتها في نهاية الأمر لم يعد بإمكاني رفع الظلم عنها، ولا محو الإحساس الذي عانته بسبب أبي وبسبب حرمانها مني، والآن أجد نفسي مشاركاً_وبدون قصد _ في ظلم أخرى ليس لها أي ذنب بأي شيء على الإطلاق!ثم عاد أدراجه إلى الباب مردداً:_لذا فأرجو أن تسامحني عندما تجدني لست متعاطفاً معك أو فخوراً بمشاركتك جريمتك!ظل مكانه في صمت قاتل وأغمض عينيه يطرد دمعات تحرق مقلتيه ولا يُصرَّح له بظهورها، ثم وقف ببطء كهِرَم تثقل أمراضه وذنوبه جسده، ألغى باقي مواعيده وانصرف.وفي موقف السيارات بحث بعينيه عن سيارته حتى وجدها.وأيضاً وجدها عليها تستند!بحقيبة مرتخية على كتفها الأيمن؛ وكتب متمسكة بها بذراعها الأيمن؛فأدرك أن الأخرى والفضل له.. مُعطلة!وعندما أدارت رأسها جانباً تنظر له توقفت نبضات قلبه حتى ظن أنه يحتضر!ألا يستطيع الاقتراب؟!ألا يستطيع الاعتذار؟!ألا يستطيع تفحُّص أهدابها؟!ألا يحق له استنشاق رائحة لم يجد الوقت للتمتع بها؟!ألا يحق له الاستشفاء بضمة منها؟!واختطفت عيناه حلقتها الذهبية التي لاتزال بيسراها مُتزينة. بالضبط كما يتحسس هو حلقته الفضية الآن.. بحسرة؛ وعندما فتحت شفتيها لتطلق عليه لعنات وسباب يستحق الآلاف منه جاء صوتها الرقيق المبحوح بكلمة واحدة: "لِمَ؟!"

Get In Touch

Cairo , Egypt

darr@elsayad121216.com

+01508281514