*الدائرة* قالوا إن الحب ضعف ذل خيبة وقلتُ إنه قوة عِزَّة وثِقة! إلى أن وُضِع قلبي مَحلاً للاختباروبكل الضعف والذُّل والخيبة استسلمت إلى أن حان الوقت واستيقظت لا تتعارض رأفتي مع كرامتي لا تتعارض مَحَبَّتي مع قيمتي ولن يُعارض قلبي احترامي لذاتي لِذا يا من احتللت قلبي بلا رغبة منك أو مني تنحَ جانبًا فأنا مَلِكة على عرش كياني! منذ أسبوع: "أتخونني عَمَّار؟!" أغمض عينيه لحظة يلعن تَهَورُه ثم فتحهما ليجدها تنظر إليه بصدمة وازدراء وهي تتابع باكية بألم: -لقد أخبرتك عَمَّار، أخبرتك منذ سنوات أنني لن أغفر الخيانة، أعطيتك ستة أعوام من البداية الجديدة من أجل ابننا، ستة أعوام عَمَّار لِمَ أهدرتهم الآن؟ لِمَ جعلتني لتوي أشعر وكأنني كنت أحارب كي أحافظ على صمود جبل من الرمال؟ وبنبرة متخاذلة رد: -لم أخُنك! وبصراخ كان هتافها: كاذب!ثم استدركت بنبرة لائمة بحسرة: أنت تراقبها، تهاتفها، ترسل إليها الرسائل، تخبرها أنك تريدها معك، تخبرها أنك ستعوضها، تخبرها أنها غالية. انتحبت ببكاء قاتل وهو يحدق بها بصدمة فتابعت بشفتين مرتجفتين وصوت متقطع: أتعلم عَمَّار كم تخيلت أنك تُسمعني الكلمات نفسها؟ كم رسمت في عقلي صوتك وأنت تخبرني أنك تريدني معك؟! أنك ستعوضني عن انتظاري لسنوات للحصول على حبك وأنني أصبحت لديك غالية؟! ثم اقتربت منه بخطوات ضعيفة حتى وقفت أمامه تحدق به بعسليتيها المتوسلتين ودمعات ملتهبة وسألته بِلهفة: -ألم تشعر أبدًا عَمَّار أنك تريدني؟ ألم تشعر أبدًا أنني على قلبك غالية؟ وضع يديه على كتفيها بألم ينفي: -أنا لم أخنكِ مَوَدَّة، أبدًا لم أخنكِ. ونفضت يديه صارخة به بجنون: -كاذب عَمَّار، كاذب! كاذب! لقد رأيتك بنفسي كيف تنظر إليها، لقد رأيتك كيف تتطلع إليها بحنان، لقد رأيت هوسك بها، أنت عميت عني تمامًا حتى ما عدت تشعر بوجودي حولك، لقد كنت على بُعد خطواتٍ منك وأنت تقف محدقًا بها باشتياق، لقد كنت أشاهد خيانتك لي بنفسي، أنت خنتني بقلبك وبعقلك وبلسانك، وأنا... توقفت لحظة تلتقط أنفاسًا تؤلم صدرها ثم تابعت بامتعاض: -وأنا أتواجد حولك أستجدي حنانك واهتمامك فلا أجد، فإلى متى تظن عَمَّار أنني سأظل أدور في تلك الدائرة من التسول والتوسل إليك؟ لقد اكتفيت، ولم أعد أرغب بك. شحب وجهه وازدرد لعابه بقلق: -ماذا تقصدين مَوَدَّة؟ ببطء مسحت وجهها بكفيها وشمخت بأنفها وهي تبتسم له ببرود ثم قالت: -أعني أنني قد حققت شرطي من الاتفاق، والآن حان دورك. كان يرفض الفكرة الخبيثة التي تلح على عقله الآن حينما استدركت هي بنفس النبرة القوية المذبوحة: -لقد وعدتني يوم أهداني الله إياد وحذرتك من الخيانة أنك ستنفذ لي مطلبي إن خرقت شرطك، الآن يا عَمَّار، الآن ستُنفذ ذلك الوعد وستطلقني! عودة إلى الوقت الحالي: "لقد زارتْك!" ببطء ترك عاصم ذراع أبيه وهو يحدق به بعدم استيعاب ثم ردد بعد وقت بصوت متحشرج: -زارتني؟! متى؟ ولِمَ لَم أقابلها؟ صاح أبوه بثورة وهو يجذب ذراعه من يده بِحِدة: -ما الذي ذكرك بها الآن؟ إلى أين تريد أن تصل بكل تلك الأسئلة؟ ليهتف به بألم: -إلى الحقيقة أبي، أريد الحقيقة، أريد أن أعلم هل الصورة التي رسمتها أنا لها طوال ذلك الوقت صحيحة أم لا، أريد أن أعرف أهي فعلًا قاسية أنانية أم لا، أريد أن أعرف ما الذي يجعل امرأة تحب ابنها تتركه فجأة وترحل وهو لا يفهم السبب، والآن أريد أن أعرف لِمَ سلبتني حقي برؤيتها منذ سنوات.والعبارة الأخيرة خرجت صارخة فنظر له أبوه بِوجع وهو يسأله بحزن: -ألم تستطع أنعام حل مكانتها لديك؟ وانهمرت دمعتين متوسلتين من عاصم بينما يهز رأسه نفيًا: -كانت أمي أيضًا، وأقسم أنني أحببتها، لكن..لكن أنا لدي أم حقيقية عِشت لِسنوات مُقتنعًا أنها أرادت الابتعاد عني، والآن فقط اكتشفت أنها لم تتخلص مني وتنساني تمامًا مثلما ظننت. طأطأ أبوه رأسه بألم وهو يرد بخفوت: -لم تحبني يومًا! عقد عاصم حاجبيه وفضل الصمت ليستحثه على المواصلة فتابع أبوه بِصوت بانت فيه الهزيمة واضحة: -كنت أكبرها بثمانية عشر عامًا، فتاة جميلة مدللة تفيض رقة وبهاء، وأنا كنت قد تناسيت الاستقرار منذ حملت مسئولية أسرتي، وفي الأربعين استفقت فجأة لأكتشف أن عمري يضيع في العمل وجمع المال، لا زوجة! لا ولد! لا مستقبل، وكانت هي أول من فكرت بها. زفر بعذاب مشوب ببعض الخزي وهو يتهرب من عيني ابنه ثم تابع: -علمت أن حالة أسرتها المادية سيئة للغاية، فرأيت نفسي الفارس الهُمام الذي سينقذها من براثن الفقر، طلبتها، رفَضَت! أعدت طلبها، أعادت الرفض، لكن والداها أجبراها، أشقائها أجبروها، حاجتها أجبرتها، فوافَقَت! ارتفع صوت تنفس عاصم كما اتسعت عيناه ذهولًا وهو يرى الأمر من تلك الزاوية للمرة الأولى وأبوه يتابع بعينين شاردتين في ماضٍ ولى ورحل: -نويت أن أجعلها تبادلني حبي بأية طريقة، حاولت، وحاولت، وحاولت، لكن لا سلطة لنا على قلوبنا يا عاصم، كانت تذوي يومًا بعد يوم، كانت تموت ببطء وأنا أعلم، لكني لم أكن بالقوة التي تجعلني أحررها، لطالما رأيت شعلة تمرد بعينيها تنطفئ ما إن تنظر إليك بحسرة، أخبرت نفسي أنها ولابد ستمل يومًا، ستفقد الأمل، سترضى بنصيبها وستسعد معي، لكن ذلك اليوم لم يأتِ أبدًا، وعندما تعدى الألم نفسها ووصل إلى جسدها كانت النهاية، طالبتني بالتحرر فساومتها بك، تراجَعَت ثم ضَعُفَت، فحررتها! عيناه لم تعودا تبصران بسبب غلالة الدموع الكثيفة التي تتحكم بهما وهو يَتَشَبَّع بِمعنى كل كلمة تُلقى على أذنيه كأكثر العذابات إيلامًا، لم يجد تعليقًا ولم يكن أبوه ينتظر واحدًا فأضاف: -ربما تراني أنانيًا، لكنني اعتقدت أنها ستدرك المزايا التي تركتها خلفها وستعود، خاصة وأنا أعلم كم كانت روحها معلقة بك. أغمض عاصم عينيه محاولًا إخفاء الحسرة التي تنمو بداخلهما عندما نظر له أبوه بندمٍ ثم تابع: -إلى أن علمت بزواجها ذات يوم لتُقتل كل آمالي بِعودتها، فأعماني غضبي وذهبت إليها متوعدًا إياها بألا تراك ثانية، وقبل انتهاء الأسبوع كنت قد تزوجت بأنعام. فتح عينيه رامقًا إياه بِتوجس ثم لم يجد بدًا من طرح السؤال الذي يصرخ بِعقله فتحدث هامسًا: -هل أحببتها أيضا أم.... والدمعات تحررت من عيني أبيه أيضًا بعد تأخر سنوات عِدة ثم رَدد بعذاب: - لقد حاولت يا عاصم، كثيرًا ما حاولت أن أحبها، كنت أسأل نفسي مندهشًا، كيف لا تستطيع احتلال قلبك بكل حنانها وحبها لك؟ كانت كريمة معي ومعك، لم تشكُ أبدًا وهي تدرك أن قلبي تمتلكه غيرها، لكن الله عاقبني وفقدتها بعد بضعة سنوات، لأكتشف أن ربما الوحدة ليست سيئة بذلك الشكل، ربما من مثلي لا يجب أن يجتمعوا بغيرهم حتى لا يؤذوهم، فمن أحببتها ظلمتها، ومن أحبتني خذلتها! جلس عاصم وهو يخفي وجهه بين كفيه، لا يريد أن ينظر له الآن، لقد كان مرتعبًا من اهتزاز الصورة السيئة التي رسمها لأمه طوال عمره، الآن ماذا يفعل في صورة أبيه المُثلى التي تمزقت ومزَّقت معها قلبه بكل قسوة؟! لكن أبوه كان كمن وجد فرصة للاعتراف بِخطاياه أخيرًا بعد سنواتٍ فاخترق بصوته أفكاره قائلًا: -لقد جاءت، كثيرًا ما جاءت، كل يوم ميلاد لك جاءت بهدية لألقيها بوجهها، كل عيد فطر جاءت بصندوق الكعك الذي تحبه من صنع يدها لأردها خائبة، كل مناسبة اعتادت على الاحتفال بها معك جاءت ولم تيأس من أن تراك يومًا، لكني لم أستطع التخلص من حقدي عليها، لم أستطع نسيان أنها تركتني واقترنت بغيري بعد أن أحببتها كل ذلك الحب. لم يتحمل أكثر.. أن يجلس مُستمعًا إلى صوت هدم كل قناعاته لِسنواتٍ خلال دقائق بينما هو عاجز.. صعب للغاية؛ أن يستوعب الآن أن والدته أرادته ولم تتخلَ عنه بلا اهتمام بعد أن مَثَّلَت له صورة للإجحاف.. مؤلِمٌ للغاية؛أن يُدرك الآن أنه ارتكن إلى ظلم أبيه لها دون معرفة منه ولم يتخذ أي خطوة للبحث خلف ما حدث..قاسٍ وموجع للغاية! هب واقفًا متجهًا إلى الخارج قبل أن يقدم على شيء قد يندم عليه طوال عمره فتمسك أبوه بإحدى كفيه بضعف: -ربما أنا أقترب من نهايتي عاصم، ذنبي تجاهها يؤرقني، لا أريد مقابلة ربي وظلمي لها مكبل عنقي. هنا نظر له عاصم بعذاب مرددًا: -أنت لم تظلمها وحدها أبي، لقد ظلمتني أيضًا، و يا للغرابة! لم أختلف أنا عنك كثيرًا، فقد ظلمتها أكثر. وبهدوءٍ جذب كفه من يده وخرج من الشرفة، وعلى فراشه ارتمى محدقًا بذهول في سقف غرفته وهو لا يصدق أن عمره بأكمله قد ضاع في حقد وكراهية من كان كل ذنبها أنها تزوجت من أبيه، ثم أنجبته!"مرحبًا آنسة رهف، أعرفك بنفسي، مهندس ساري رشوان!" حدقت بوجهه للحظات وفعل هو المثل فَغَضَّت بصرها متحدثة بخفوت: -اعذرني! لم أنتبه إلى أنني لم أعلم اسمك إلا الآن. التزم الصمت للحظات لا يحيد بعينيه عنها ثم اتسعت ابتسامته وهو يقترب منها مرددًا بنبرة مَرِحة: -لا يهم، طالما لم تنعتيني باللص! هربت ضحكة رقيقة منها مصاحبة تورد وجنتيها، ثم رفعت نظرها إليه مُتسائلة: -أين أغراضي؟ أجابها بتهذيب وقد اكتسبت نظراته اهتمامًا خالصًا: -كل متعلقاتك بمكتبي بالأعلى. -لِمَ لم تجلبها معك؟ عقد حاجبيه بدهشة متسائلًا بنبرة خافتة: -أتريدينني أن أتمشى ببهو الشركة حاملًا حقيبة نسائية؟ أنتِ بالفعل تعملين على إلصاق تهمة السرقة بي! ابتسمت وهي تتهرب من عينيه فبادرها بتهذيب: -تفضلي آنسة رهف، المصعد من ذلك الاتجاه. تطلعت إلى المكتب الأنيق رغم بساطته، ثم اتجهت إلى المقعد المواجه لمكتبه وجلست تحدق في الأرض بترقب، جلس هو خلف مكتبه ثم التقط هاتفًا داخليًا وهو يسألها: -ماذا تشربين آنسة رهف؟ وبسرعة كان ردها: -لا لا، لا أريد شيئًا، فقط أعطني أغراضي حتى أنصرف. عقد حاجبيه بضيقٍ مفتعل وبنبرة آمرة طلب من محدثه قهوة وعصيرًا طازجًا. تطلع إلى توترها الجلي بابتسامة حاول إخفاءها فلم يستطع، يعترف أن هيئتها الحقيقية تختلف كثيرًا عن صورتها بالهوية.. أكثر هشاشة؟ ربما أكثر رقة؟ يبدو ذلك أكثر فتنة؟ أكيد! وسؤالها المرتبك قاطع استرسال أفكاره: -كيف وصلت مُتعلِّقاتي إليك؟ وقبل أن يجيبها دخلت العاملة بالمشروبات ثم خرجت بعد أن قدمتها لهما. -لقد اضطر اللصوص إلى التخلِّي عنها. أخيرا نظرت إلى عينيه مباشرة وهي تسأله بدهشة: -كيف؟ مط شفتيه ثم أجابها بجدية: - كنت أقود سيارتي فإذا بمجنونين على دراجة نارية يتجاوزاني وكادا أن يصطدما بي، خرجت لأتشاجر معهما فكان أحد كمائن الشرطة أمامنا، تخلصا من الحقيبة فورًا ثم مرَّا بالكمين، لكني شككت بالأمر وكان حدسي بمحله، فعندما وصلت إلى الحقيبة وجدت بها كتبك وهاتفك وحافظتك. ثم أردف بشبه ابتسامة: -ونصف لوح الشوكولاتة خاصتك. كانت تحدق به بانبهار وهو يسرد تفاصيل ما حدث، وعندما انتهى رمقها بابتسامة أربكتها، بسرعة طأطأت رأسها وهي تجلي حنجرتها وقالت: -أشكرك على تعبك واهتمامك وحرصك على أغراضي. اتسعت ابتسامته مرة أخرى وهو يشاكسها: -أرجو ألا أحبطك، لكني منذ صغري وقد تمنيت الحصول على العدالة بيدي والتخلص من الأشرار، لذا لقد سعيت خلف البطولة من أجلي في المقام الأول. بادلته ابتسامته رغمًا عنها وهي تهز كتفيها: -وإن يكن، يظل هدفك سامي. طالت النظرات الصامتة بينهما، فحاولت انتزاع عينيها عنه ولم تستطع، ثم أجبرت نفسها على التهرب، أصدر هو حمحمة مرتبكة وهو يحك لحيته ثم أمرها بلهجة لطيفة: -اشربي العصير آنسة رهف. بيدين مرتبكتين أمسكت بالكوب الزجاجي وهي ترشف بضعًا من السائل حلو المذاق، بينما عادت عيناه تراقبانها بتصميم غريب، و بعد لحظات هبت واقفة وهي تبحث عن كلمات خرجت متوترة: -لقد تأخرت، سأنصرف الآن. وكان رده به بعض الضيق وقليل من الرجاء: -لِمَ أنتِ متعجلة هكذا؟ انتظري قليلا بعد! ثم استدرك بنبرة مرتبكة: -أقصد، انهِ العصير أولًا! وبنفس الارتباك أجابته: -آسفة، لدي حصة بعد قليل، يجب أن أذهب. اجتذب ابتسامة مُدققة ثم قال: -اعتني بنفسك آنسة رهف، وحاولي ألا تمشي بمفردك في وقتٍ متأخر. هزت رأسها بسرعة ثم ابتسمت.. غامزة! غامزة؟! نعم غامزة!! اتسعت عيناها بذهول وهي تلعن غباءها، بينما حدق هو بها بدهشة ينتظر توضيحًا أو تأكيدًا!، لم تُطِل عليه انتظاره وهي تزيد الطين بلة متحدث باضطراب وتهور: -أعتذر! أنا .. أنا لم أكن أغمز لك! أقصد أنني .. إنها "لازمة" وحركة تلقائية أودع بها طلابي.. أعني طالباتي بالطبع.. أنا لم أتعمد أن أغمز لك ومع كل كلمة تصبح وجنتيهاأكثر توردًا!أكثر احمرارًا!وأكثر جاذبية!وردُّه كان ابتسامة تلقاها قلبها فرقصت دقاته بصخب، ثم تلتها عبارته الماكرة: -لا عليكِ! لقد كنت طالبًا ذات يوم، لكن- للأسف- حظي لم يكن بمثل ذلك الإشراق!والابتسامة أصبحت ماكرة، فتراجعت إلى الخلف ثم أولته ظهرها فأوقفها بصوته هادئ:-آنسة رهف! زفرت بعمق وهي توبخ نفسها محاولة رسم الجدية على محياها ثم استدارت هاتفة بِصرامة: -نعم مهندس ساري؟! لتجده ينحني على أحد أدراج مكتبه، فاتسعت عيناها بدهشة وأسدلت أهدابها بِحَرج، حتى شعرت به أمامها مخاطبًا إياها بخفوت: -لقد نسيتِ..أغراضك! نظرت له بِتوتر وحمحمت بحرج وهي تأخذ منه الحقيبة تستشعر ثقلها، ليهمس هو بهدوء: -لا تقلقي! لم آخذ منها سوى نصف لوح الشوكولاتة! وردها التلقائي انطلق: -بألف هناء وشفاء. ثم ارتدت حقيبتها على كتفها لتصبح هيئتها مضحكة بالاثنتين معًا ثم تابعت: -مع السلامة مهندس ساري. وكان الرد القوي الهادئ الذي يعلن بوعد غير منطوق: -أشعر أنني سأراكِ ثانية! وهنا دفعت ساقيها المتخشبتين دفعًا لتتحركا إلى خارج ذلك المكان الذي يجذبها- وصاحبه- إلى شعور غريب يرسل القلق إلى أطرافها، وعندما كانت تتأكد من وجود أغراضها، وجدت كل شيء مثلما تركته، إلا نصف لوح الشوكولاتة الذي لم يعد هناك! وبدلًا منه وجدت لوح كامل من ألذ الأنواع! طرقت تغريد باب جناح أخيها- الذي خلا من زوجته وابنه-عدة طرقات بهدوء وانتظرت حتى فتح لها الباب بعد دقيقة كاملة، تعلَّقت عيناها به بصدمة ونست سبب صعودها إليه في الأصل حُزن، تعب، ضياع، وحقد! للمرة الأولى بحياتها تشعر بكل هذا العنف المكبوت الذي تُنذر به عيناه حتى عندما ثار فجأة منذ سنوات عند ميلاد ابنه اكتفى بالتجاهل، تخلَّص من سطوة أبيهما عليه لكنه لم يقم بأي خطوة تسبب القلق!التزم هُدنة غير مُعلَنَة تحمل شعارًا واضحًا بالتحذير من محاولة التسلُّط، وبدا لها أن أبيهما أيضًا قد أدرك بداية تحرره منه فتظاهر باللامبالاة!-ماذا تريدين تغريد؟ سألها بصوت حمل حنقًا هائلاً تعلم أنه غير موجه لها هي، فقالت له بحنان: -ألن تتناول طعام الغداء؟ أمي أرسلتني كي... قاطعها عائدًا إلى الداخل: -لا أريد! حدَّقت به جالسًا بِتَعَب والهَم يعلو وجهه، اتجهت إليه واتخذت مقعدها إلى جواره ثم حدثته بهدوء: -عَمَّار! إن كنت إلى تلك الدرجة تتعذب بسبب رحيل مَوَدَّة وإياد فلتذهب إليها، اعتذر وأخبرها أن الأمر ليس بيدك. لم يُعَلِّق على نصيحتها فتابعت بنفس النبرة: -هي تحبك ولطالما كانت متأنية في قراراتها. والتهكم احتل وجهه وهو ينظر إليها قائلًا: -الحب له حد تغريد، وهي بالتأكيد تندم الآن على أنها أحبت رجلًا مثلي. ثم استطرد بِحسرة: -لقد اعتقدت أنني باكتفائي بالرفض لكل ما يريده أبي سوف تصير حياتي سوية، اعتقدت أنني بإمكاني الحصول على بداية جديدة.. وعاد التهكم مرة أخرى إلى صوته مع ابتسامةٍ ساخرة مُردِفًا: -ولكن هل يقوم البناء على أساس مهزوز؟ واجهته بحزم متسائلة: -ماذا تريد عَمَّار؟ رمقها في صمت لبعض الوقت ثم تحدث بعذابٍ قائلًا: -أريدها معي! وبالرغم من أنها أدركت هوية من يتحدث عنها إلا أنها قالت بصوت شابه الحَذَر: -أنت تقصد مَوَدَّة، أليس كذلك؟ أنت لن تقوم بشيء يهدم كل... قاطعها بألم والتوسل بعينيه صارخ: -بل رهف! واستدرك بتصميم:-ظهورها الآن بالتحديد هو بمثابة رسالة.ثم جزَّ على أسنانه بغضب وتمتم مُتَوَعِدًا: -رسالة سأعيد توجيهها إلى كل من ظن أنه يستطيع تسيير حيوات الآخرين بذلك الجبروت! تسارعت دقات قلبها واكتنفها القلق، وبعضٌ من الندم.. ربما ليست هي السبب في كل ذلك بالأصل لكنها ساهمت ولو بقدرٍ ضئيلٍ في وصوله إليها.. إلى رهف! -عَمَّار! أنا.. أنا لا أعلم هل عليّ تشجيعك أم نصحك بالتراجع، لكن الأمر صعب، وربما ستحل الكوارث. هتف بِحِقدٍ شديد: -لتحل تغريد، لن أتراجع مهما حدث، لم أعد أهتم، أحتاج فقط إلى ترتيب خطواتي القادمة ولن أطأطئ رأسي مجددًا. رمقته بعتابٍ قائلة: -وَمَوَدَّة، وإياد؟! أغمض عينيه بألم وبلا رد تركها ودلف إلى غرفته! أمام الباب الذي يحمل لافتة: محاسب صبري رشون أخذ يضغط الجرس بإصرار، فتحت سارة الباب لتجده أمامها فانقلبت أنظارها بمللٍ مفتعل قائلة: -في العمل، وفي البيت، وبيوم العطلة! إلى أين يستطيع المرء الهرب كي يتخلص من تلك الخلقة العابسة يومًا واحدًا فقط؟! وقبل أن تسنح له فرصة للرد جاءها صوت والدتها من الداخل: - من بالباب يا سارة؟ بهتافٍ حانق أجابت: -إنه عملي الأسود أمي، عابس الوجه فارع الطول.. وبنبرة خافتة مع ابتسامة مُغيظة أضافت: -قليل الذوق! باقتضابٍ سألها: -هل انتهيتِ؟ وكان الرد بنفس الابتسامة: -إن أجبت بنعم هل ستنصرف وتجعلني أنسى وجهك السَمِح اليوم؟ وقبل أن يرد وصلت أمها: -لِمَ لازلت على الباب عاصم؟ رد بهتافٍ حانق: -ربما لأن الله ابتلاكِ بمصيبة متنقلة تسلط لسانها على كل من يطرق بابكم. جذبتها سوسن بعيدًا عن الباب وهي ترحب به: -ادخل عاصم، ساري بغرفته لكنه نائم. أغلق الباب خلفه وهو يجيبها ناظرًا لسارة شذرًا: -لم آتِ من أجله خالتي، أردت الاطمئنان عليكِ، فقد أخبرتني مريم أنكِ متعبة. جلسَت فجلس أيضًا بمواجهتها، بينما تركتهما سارة وانطلقت إلى غرفتها، ابتسمت سوسن تطمئنه: -لا تقلق بني، إنه فقط ضغط الدم. ثم دققت بوجهه وسألته بِقلقٍ: -ما بكَ عاصم؟ هل حدث شيء؟ هل أبوك بخير؟ أقلقتها البسمة الساخرة على شفتيه وهو يجيب بشرود: -بخير، هو بخير خالتي. ثم التفت إليها ماحيًا بسمته، وبألمٍ تحدث: -لكني أنا من لست بخير على الاطلاق. انتشر الخوف على وجهها وهي تسأله: -بعيد الشر عنك بني، احكِ لي، تخلص من همومك. بألمٍ وصلها رده المُعَذَّب: -هل تظنين خالتي أن التخلص من الهموم سهلًا؟ هل تظنين أن الحديث بكلمات مُسننة تمزق القلب والروح قبل اللسان بسيطًا؟ هل تظنين أن انهيار عالم شخص بأكمله وانقلاب موازين عدله ثم خيبته في قدوته قد يُنسى بمرور الوقت؟! نظرت له بعدم فهم لكنها تتألم، صحيح هو ليس ولدها بالفعل ولا حتى ابن أختها الراحلة، لكن إن كانت صلة الدم مفقودة بينهما فَصِلَة الروح أقوى وأشد! وتابع هو بنفس الشرود: -أتعلمين أنني لطالما حلمت بها، تخبرني أنها آسفة، تخبرني أنها تحبني ولم تتخلَ عني، تخبرني أنها ستعود لتأخذني، تخبرني أنها لن ترضى بيُتمي وهي على قيد الحياة أبدًا، لأصحو كل مرة كارهًا نفسي وضعفي واشتياقي إليها وحاجتي لحضنها الراحل ووجهها البشوش! سألته سوسن ببطءٍ متألمٍ: -أعادت أمك؟ والدمعة المتحجرة بعينيه ذبحت قلبها وهو يرد: -هي لم تذهب أبدًا خالتي، لم تذهب، لقد جاءت وحاولت وتوسلت، لم تيأس ثم ارتضت بالحرمان، وإلى الآن تنتظر. طأطأ رأسه يحاول إخفاء ضعفه فربتت على ذراعه بحنان متسائلة بهدوءٍ: -والآن ماذا تريد؟ رفع رأسه يتطلع إليها بضياع: -لا أعرف! ثم استدرك بألمٍ غاضب: -لا أريد! وعاد بنبرة أضعف: -لا أستطيع!! أطلقت زفيرًا حارًا ثم خاطبته بِهدوء: -أنا لا أعلم تفاصيل ما كان بين والدك ووالدتك عاصم، لا أعلم من منهما المُخطئ ومن الظالم، لكنني متأكدة أن لا أم تترك ابنها بإرادتها، لا أم تُحرَم من ابنها وتعيش سعيدة، حتى وإن امتلكت السعادة بعدها، سيظل فقدها لابنها يؤرقها ويؤلم روحها. التمعت عيناه بِدمعاتٍ لا يخجل من ظهورها أمامها فأضافت بِحسرةٍ: -أنعام قد أخبرتني أن أمك أرادت رؤيتك ذات مرة لكن أبوك هو من تَعَنَّت ورَفَض، لقد اعتقدت أنك أيضًا تلومها يا ولدي فَلم أشأ التدخل. واكتسبت لهجتها بعض الصرامة وهي تُردِف أخيرًا: -لكنك الآن قد علِمت أنها نالت من الألم والاشتياق ما يفوق قدرة أي أم، وأثق بأنك ستتخذ القرار الصحيح. خبأ وجهه بين كفيه فتحركت هي بهدوء إلى الخارج ثم أغلقت الباب عليه، لطالما كان يفضل وحدته في بيتها عن بيته، كان كلما آلمه شيء جاء إليها منفردًا بنفسه لبعض الوقت ثم خرج منتعشًا وكأن شيئًا لم يكن، والآن يبدو أن ثقله أكبر، وعذابه أشد، ويا ليته يقضي وحدته كما يشاء ثم يخرج إليهم مرتاح البال، تعلم أنه في آخر الأمر سيذهب من تلقاء نفسه، سيذهب استجابة لغريزته نحو أمه وليس بناءً على إصرارٍ من غيره. كان يتنقل بين زوايا الجناح وعيناه تحملان نظرة خاوية بلا هدف.متى صار باردًا بذلك الشكل؟ متى تسلل الاختناق إلى أرجائه؟ متى عم الظلام كل ركنٍ به؟ وهل للمكان روح؟!سؤال غريب طرحه عقله عليه الآن ليجيب قلبه بلا مواربة بأنه يمتلك روحًا بالطبع! روحًا كانت تطهي طعامًا هنا، روحًا كانت تلاعب ابنه هنا، روحًا كانت تهتم بكل ما يخصه هنا، روحًا لطالما انتظرته كلما ابتعد، واشتاقت إليه أكثر كلما اقترب، روحًا تنازلت وتنازلت حتى وأدها بقسوة، لكنه ليس بيده، يقسم أن الأمر لم يكن أبدًا بيده، تلك الروح الآن رحلت بلا عودة، لتتركه بمكانه كئيبًا فارغًا مدركًا ضياعه للمرة الثانية! رحلت مَوَدَّة! رحلت ليدرك أنها حرمته من نسمات الراحة التي كانت تحاول إضافتها رغمًا عنه لحياته المتعبة بينما تمسك هو دائمًا بالرفض. رحلت ليقتله التشتت بين رغبته في استعادتها وعدم إبعادها هي وابنه عنه، ورغبته بتخليص تلك الأخرى الوحيدة تمامًا من سُحُب سوداء تتكاثف فوقها مُنذرةً بِعتمةٍ ستحُل قريبًا.رحلت ليقف تائهًا لا يعلم من أين يبدأ الآن وماذا يفعل؟ لديه حرب ستنشب قريبًا ويحتاج أن يصبح أقوى، من أجل نفسه، ومن أجل رهف! تململت أم محمود في جلستها وهي تتظاهر بِعدم ملاحظة غيظ شروق الشديد ثم قالت: -أنتِ من تأخرتِ في الرد عليّ يا شروق، والرجل ظل منتظرًا منذ شهر حتى تنتهي عدتها، لكني لم أستطع الضغط عليه أكثر وهو بحاجة لزوجة تهتم به وببيته. نظرت لها شروق بِغِلٍ حاولت إخفاؤه بلا جدوى وأصوات الزغاريد تصلها من البيت المجاور تنهش بعقلها وتثير بصدرها الحقد. ثم استأنفت أم محمود بنبرةٍ خافتة: -لكن لا تقلقي! عريس دينا عندي، وأنا لن أهدأ حتى أطمئن عليها بنفسي مع من يستحقها. بلهجة مكتومة ردت شروق: -شكرًا أم محمود، أتعبناكِ والله! انصرفت المرأة مسرعةً كي تلحق بعقد القران بالمنزل المجاور وهي تطلق الزغاريد التي انطلقت كرصاصات تخترق أذني شروق أثناء مراقبتها - من نافذة الصالة- العروس التي تصغر ابنتها بخمسة أعوام تتأبط ذراع من كانت تتخيل منذ فترة أنه سيصبح صهرها وستتغير أحوالهم المادية على يديه. -لِمَ أنت واقفة هكذا أمي؟ التفتت لترى ابنتها ترمقها بقلق فأجابت بغم: -ألا تسمعين الزغاريد؟ ردت دينا بلامبالاة: -أسمع، إنه زفاف طارق وابنة الحاج عبد الرحيم. هتفت شروق من بين أسنانها: -كان من المفترض أن يكون زفافك أنتِ، لولا تعقيدات أبيكِ الذي يعشق الفقر كعشقه لحياته. زفرت دينا بملل وهي تجلس على الأريكة وتقلم أظافرها بالمبرد: -لا تبالي أمي، هو أيضًا لم يكن بالعريس الذي لا يُعوض، لا تنسِ أنني أصغر منه بالكثير، كما أنني كنت سأبتلى بأربعة أولاد لا يخصونني بشيء. نظرت لها أمها بذهول ثم هتفت بها بغضب: -غريب! لم يكن هذا رأيك عندما أخبرتك بالأمر أول مرة! ردت دينا بلا اكتراث وهي تحدق في أظافرها باهتمام: -كل ما في الأمر أمي أنني لم أعترض، لكن هذا لا يعني أنني كدت أطير فرحًا به، كان مناسب من بضعة جهات فقط ليس إلا، وقد قررت الانتظار حتى أجد من هو أفضل. ضيقت شروق عينيها بحذر وهي تحاول فهم ذلك التغيير المفاجئ، تحفظ ابنتها كخطوط يدها، وتعلم أن تلك الكلمات تخفي وراءها أمرًا آخر.. أو.. شخصًا آخر! -أهناك آخر يا دينا؟ وبلحظة حصلت على كامل انتباهها، انتفاضة، ثم شحوب، ثم محاولة تماسك فتظاهر باللامبالاة، لتخرج النتيجة من خلال صوت متوتر متكسر أكد لها صدق ظنها رغم تفوه ابنتها بالعكس: -ما الذي تقولينه أمي؟ أي آخر؟! من أين؟ ومتى؟ بالطبع لا! أنا فقط أريد التمتع بحريتي قليلًا. وقبل أن تعاودها بسؤالٍ آخر وصل زوجها من الخارج مُحييًا: -السلام عليكم. وبدلا من رد السلام كانت الثورة والغضب: -هل أنت سعيد الآن؟! لقد تزوج الرجل في غضون أيام، والآن ستهنأ من هي أصغر من ابنتك بماله، ولنظل نحن في ذلك الهَم حتى الممات. فكان رده السريع بابتسامة متشفية: -عسى من يتوقع الهم أن يجد الهم! وقبل أن تستمع للردود المتبادلة التي ستتحول إلى شجار حتمًا تسللت إلى غرفتها موصدة بابها بمفتاحها وعند أقصى ركن بها وقفت تجيب النداء الصامت لهاتفها بهمس:-أخبرتك ألا تتصل بي وأنا بالمنزل، إن علم والدي أنني أحدثك ستحل الكوارث.وانتظرت رده الهادىء ثم أجابته: -سأحضر، فقط اترك لي عنوان المكان وسآتي الأربعاء القادم بالموعد.ثم انتهت المكالمة فابتسمت هي بأمل وهي تتمنى أن تصبح ظنونها حقيقية في أقرب وقت! "ما بِكِ اليوم يا مريم؟ لقد لاحظت شرودكِ طوال الحصة، هل أزعجك أحدهم مرة أخرى؟" هتفت بها رهف وهي تواجه مريم التي تستند على أحد الجدران في باحة المعهد، فردت الفتاة بابتسامةٍ ضعيفة: -لا آنسة مريم، لكن.. أخي مريض قليلًا وأنا قلقة عليه. ربتت رهف على إحدى كتفيها بحنان:-شافاه الله وعافاه، الكثير يمرض هذه الأيام، هو أمر شائع لا تقلقي، فقط اجعلوه يشرب الكثير من السوائل الدافئة. ابتسمت الفتاة بامتنانٍ فتابعت رهف: - هل هو نفسه أخوكِ الذي يقلك كل مرة؟ هزت مريم رأسها إيجابًا فعقدت رهف حاجبيها تساؤلًا: -كيف ستعودين إلى منزلك إذن؟ أجابتها مريم بهدوء: -ابنة خالتي ستأتي وسأعود معها لبيتهم. -هل تحبين أن أنتظر معك حتى تصل؟ وما إن همت الفتاة بالرد حتى تراجعت فجأة وهي تنظر إلى نقطة خلف رهف و تبتسم بفرحة، التفتت الأخيرة لتتسمر مكانها وهي لا تعي أحقيقة هذه أم خيال!، لكن تحديقه الذاهل المتبادل بها جعلها تنفض شرودها وهو يتقدم منها ببطءٍ بينما قفزت مريم هاتفة: -ساري! ووصل إليهما لا ينزع عينيه عن عينيها وهو يحاول التخلص من تلك المفاجأة فاستدركت مريم: -لقد قال لي عاصم أن سارة من ستأتي لتقلني، لِمَ أتيت أنت؟وبدون أن يحيد بعينيه عنها أجاب بهمسٍ وصلها وحدها:-لأن أمي دعت لي دعوة صالحة هذا الصباح! توردت وجنتاها وتهربت منه عيناها فأردف بنبرة خافتة: -ألم أخبرك بأني أشعر أنني سأراكِ ثانية؟! تدخلت مريم وهي تنقل نظراتهما بينهما: -الآنسة رهف ساري، إنها معلمتي! رد بابتسامته الرائعة: -أهلًا آنسة رهف، وأنا أكون ساري ابن خالة مريم. أومأت برأسها في تحية صامتة، ثم تخلصت من توترها بسرعة وهي تحاول الابتسام بمجاملة: -لا تضايقي نفسكِ مريم، ألف سلامة لأخوكِ، بعد إذنكما. اندفع بسرعة قبل أن تتحرك وهو يعرض بلهفة واضحة: -انتظري آنسة رهف! سنقلك إلى منزلك، الظلام بدأ في الحلول بالفعل. تململت في وقفتها بارتباكٍ ثم ردت: -لا داع، أنا سأستقل الحافلة، شكرًا لك. توسلتها مريم: -أرجوكِ آنسة رهف! تعالِ معنا! ابتسمت رهف لها بحرج وهي ترد بهدوء: -صدقيني مريم لا أستطيع. توجه ساري بالكلام إلى مريم: -اذهبي مريم وانتظريني بالسيارة. نظرت لها مريم بابتسامة ثم انطلقت إلى سيارته، ازداد توترها ثم تشبثت بكتبها وهي تبادر: -إلى اللقاء. وقبل أن تتحرك هتف: -انتظري رهف! نظرت له بدهشة فحك ذقنه بارتباكٍ: -آسف! لم أقصد رفع الألقاب. هزت رأسها بلا تعبير فأردف: -أخبريني! ما هي أعَمَار طلابك؟ رفعت رأسها تنظر له بدهشة وهي تجيبه: -عفوًا؟! حمحم بحرجٍ وهو يعيد سؤاله: -أقصد.. الطلاب الذين تُدَرِّسين لهم، ما هو الحد الأقصى لأعَمَارهم؟ أرغب بالحصول على معلومات عن ذلك المركز. برتابة أجابته: -من الخامسة إلى الخامسة عشرة. عقد حاجبيه بضيق وهو يهتف بها: -هذا ليس عدلًا! وماذا عن الأكبر سنًا؟ ألا يحق لهم تعلم اللغة؟ هذا ظلم بَيِّن! استغربت حدته وهي تُجيبه بسرعة: -كنت أعتقد أنك تسأل عن الفصول المقامة الآن، بالطبع هناك فصول مختلفة لجميع الأعَمَار وبمواعيد مختلفة كي يتسنى لمن لديهم وظائف الحضور. مالت شفتيه بابتسامة خطفت أنظارها وهو يردد بنبرة خطرة:-إذن أهناك فصول لشاب في الثانية والثلاثين يرغب-وبشدة- في التعلم؟ وأُصدقك القول حينما أؤكد لكِ أنه مجتهد جداً! وملتزم بالحضور جدًا! وسيحرص على الاستذكار جدًا جدًا!!جف حلقها وهي تبتعد بعينيها عنه بقلق ثم ردت:-لقد..لقد أخبرتك، يوجد فصول لجميع الفئات والأعَمار بغض النظر عن الوظيفة، تستطيع الحصول على المعلومات بمكتب الاستقبال.خفت صوته وهو يسألها بتدقيق: -وأنتِ، هل من الممكن أن تُدَرِّسي في أحد هذه الفصول؟ تظاهرت بالجدية وهي ترد عليه هاربة بتصميم من عينيه اللتين تحدقان بها:-أنا لا أحب تدريس الكبار، أفضل أن أتعامل مع الأطفال وصغار السن فقط.لينقلب توترها إلى الدهشة حينما أجابها بلا تردد:-خيرًا فعلتِ!حدَّقت به بتوجس والتساؤلات تسبح بعينيها، ماذا يقصد؟! ماذا يعني ذلك الإنسان الغريب؟ بل ماذا يريد منها ولِمَ يحملق بها بذلك الشكل؟ وقبل أن تعثر على إجاباتٍ لأسئلتها بادرها هو مبتسمًا:-فلا أظن أنه من الجيد أن تُحيي المُعلمة كبار السن بغمزة، لن يقتنع أحدٌ منهم أنها حركة تلقائية، وربما تزرع الأمل بقلوب الكثيرين.اتسعت عيناها بدهشة ما لبثت أن تحولت لغضب وهي تهتف به:-أنت ماذا تقصد؟! هل تلمح إلى ما حدث بمكتبك رغمًا عني؟! اسمع! صدق أو لا تصدق، إنها تلقائية تمامًا ولم أعنِ بها شيء.ثم أردفت بحنق ولسانٍ منفلت:-أيها المغرور! ووصل رده سريعًا بابتسامةٍ لامبالية: -وأنتِ أهدابك مُشعثة! ارتدت للخلف تبرق عيناها بجنون وهي تسأله بصدمة: _-ماذا قلت؟!! مط شفتيه بلا اهتمام وهو ينظر لها بجدية: -قلت أن أهدابك مشعثة، ألم ترينهن بالمرآة؟! بالتأكيد لديكِ واحدة. اندلع الجنون بعينيها فتسارعت دقات قلبه وهو بالكاد يمنع ابتسامته: -هل تتنمر عليّ؟! ليرد ببرود: -ومتى تنمرت؟! لقد قلت أن أهدابك مشعثة، وإن كنتِ لا تعلمين أنها من إحدى علامات الجمال، تعطي العينين مظهرًا مميزًا وتختطف أنظار المساكين أمثالي، فليس ذنبي أنكِ جاهلة في ذلك النحو.تخطت معنى ما قاله بإصرار وهي تضيق عينيها بتحفز: -هل قلت أنني جاهلة؟! عض على شفته السفلى بغيظ لجمه بصعوبة ثم هتف: -من بين كلماتي جميعهن لم تلتقط أذناكِ إلا جاهلة؟! زفرت بضيق وهي تشدد من احتضان كتبها ثم قالت: -على العموم إن كنت تريد الاستفسار عن الدورات يجب عليك الحضور مبكرًا، لأن الموظفين انصرفوا بالفعل، أستأذنك. تجاوزته متجهةً للخارج فلحقها يبدي لامبالاة مفتعلة: -لا عليكِ، لقد غيرت رأيي، ربما قد أحصل ذات يوم على درس خصوصي لدى إحدى المُعلمات المميزات، فأنا-إن كنتِ لا تعلمين-أحب التركيز جدًا، وأحترم الدراسة جدًا. تجاهلت كلماته عندما وصلت إلى خارج المعهد ثم التفتت راسمةً ابتسامة رسمية: -كما تحب، بعد إذنك. وأتى رده على تحيتها ابتسامة ماكرة مصحوبة بـ.. غمزة!! صف سيارته بباحة فيلا خالته وهو يقفز منها مهرولًا إلى الداخل، فتح له زوج خالته الباب فبادره بقلقٍ عارم: -ماذا حدث عمي؟ ماذا به إياد؟ أجابه زوج خالته من بين أسنانه: -كان يعاني الأنفلونزا، لكنه أفضل حالاً الآن. تبعه عَمَّار إلى الداخل وهو يدور بعينيه في المكان بلهفة متسائلًا: -أين هو عمي؟ أريد أن أراه. أشاح الرجل بوجهه بعيًدا وهو يرد كاظما غيظه: -إنه بالطابق الأعلى، تستطيع الصعود إليه. ما إن أنهى عبارته حتى انطلق عَمَّار إلى الأعلى فلم يستطع الرجل منع نظرة الامتعاض التي رماه به، لو بيده لانتقم منه على كسر قلب ابنته الوحيدة، عديم الشعور! احتضن ابنه بلهفة وهو يعي ضعفه الشديد وعندما تأكد من استغراقه في النوم بحث بعينيه عنها، أخذ يدور في الغرفة باحثًا عن أية آثار لها، ومن خلال النافذة لمحها تجلس وحيدة شاردة بالحديقة الخلفية. اقتادته قدماه حتى هبط إليها مُتجاهلًا نظرة الغيظ التي رمقه بها أبوها لعلمه بأنه محقٌ بالطبع، وعندما أصبح خلفها تمامًا بحث عن كلماتٍ بعقله فلم يجد، وكعادتها لم تتركه لحيرته وهي تلتفت له بهدوء: -هل اطمأننت على إياد؟ تَعَلَّقت عيناه بها والألم يكتنفه بشدة، ما به صوتها؟! لقد كان كلحنٍ طائر، ما به أصبح أبحًا مجروحًا هكذا؟ أمرض ابنه السبب؟ أم فِعلته هو؟ -إنه.. نائم. أولته ظهرها وتحدثت باقتضاب: -تستطيع الانصراف إذن، سأُطَمئن خالتي على إياد. تخشب مكانه لا يستطيع تقدم ولا يقوى على تراجع، أيعود إلى برود البيت دونها؟ أيعود إلى الظلام الكامن بأعماقه وبروحه بعد انسلاخها عنه، أم..، أم يتخذ خطوة طائشة ويخسرها إلى الأبد؟ يحق لها الاختيار أليس كذلك؟ -مَوَدَّة، أريد أن أخبرك بنفسي عَن كل شيء! بسكينٍ ثلم يغزو قلبها ببرودٍ قاتلٍ يدعس كرامتها وروحها هل ستمنحه هي الفرصة؟ هل ستؤكد له أن قلبها الأحمق مازال يصرخ باسمه؟ أظهرت لامبالاة ثم قالت: لا أهتم. وبغضبٍ هتف: أنا أهتم. التفتت إليه دامعة العينين رغما عنها: -إن اشترطت أن تتخلى عنها .... قاطعها بحسم: -لا أستطيع. وكتمت شهقة ذَبْحَها بصعوبة.. تناظره بِحسرة والخسارة تطغى على عينيها.. ألهذه الدرجة عَمَّار؟ ألهذه الدرجة؟ أشاحت بوجهها بعيدًا هاتفة: -اذهب إليها عَمَّار، اذهب ولا تعُد! وفجأة وجدته يقف أمامها وبعينيه صراع، هالها العذاب المرتسم داخل عينيه اللتين تطلبان غفران ومشورة ومساندة.. "يا حمقاء!! أستشفقين عليه الآن؟ إنه يقف أمامك ليتبجح بتمسكه بأخرى ربما مُتعللًا بصراحته معكِ منذ سنواتٍ أو بصداقة من طرف واحد، لم يحبك ولم يخدعكِ يومًا، وكما لم تستطيعي أنتِ التخلص من حبك له على الرغم من كل ما فعل، فهو أيضًا لا يستطيع السيطرة على مشاعره!" قاطع سيل أفكارها بعد أن حسم نتيجة الصراع أخيرًا قائلًا:مَوَدَّة! دومًا ما كنتِ حنونة مُتَعَقِّلَة، سأخبرك بالحقيقة كلها وأرجو أن تتفهمي موقفي وتغفري لي إخفائي عنكِ شيئًا بتلك الأهمية، الأمر ليس بيدي، سأمنحك حق الاختيار وأرجو أن يكون حُكمِك عادلاً! أنهى صلاته بالمسجد وسار بلا هُدى، أصبح لا يطيق العودة إلى المنزل الذي بات خانقًا، المرأة وابنتها لا يكفان عن تكدير معيشته، زوجته تعايره طوال الوقت بالجنوح إلى الفقر و بالنظر تحت قدميه، وابنته هي ألم غائر بقلبه تزداد حسرته عليها يومًا بعد يوم. متى توحشت هكذا؟! كيف رباها مع ابنة أخته بنفس المكان وبنفس الوسائل لتنشأ الاثنتان متناقضتان تمامًا؟! لم ينتبه من فرط شروده إلى تلك السيارة التي توقفت على بُعد أمتار منه، ليكتشف أنه يسير بمنتصف طريق السيارات، تنحى جانبًا يرفع رأسه باعتذار لقائد السيارة وهم بمتابعة سيره عندما انطلقت العبارة المُرَحِّبَة من خلفه:-مرحبًا عم صلاح! التفت باستغراب ثم أشرق وجهه ببسمةٍ هاتفًا والآخر يتقدم منه:-مرحبًا حمزة، كيف حالك بني؟ وصل إليه حمزة مصافحًا إياه قائلاً:-الحمد لله عمي، أنا بخير، كيف حالك أنت؟ -أنا بخير بني. ثم نظر خلفه ليقول بِصدق: -مبارك السيارة الجديدة. ابتسم حمزة ببشاشة وهو يجيبه: -بارك الله بك عمي، هل أنت عائد إلى المنزل؟ تعال لأقلك بطريقي. وبعد إلحاح منه استقل المقعد المجاور له، وفي الطريق علم منه أن أحواله المادية تحسنت كثيرًا وقد عاد لتوه من أداء العمرة مع والديه. وبعد قليل تنحنح حمزة بحرجٍ قائلًا: -وما أخباركم عمي؟ أرجو أن تبلغ أم دينا سلامي. -بك الخير ولدي. سأله حمزة باهتمام: -ورهف أيضًا، طمئني عن أخبارها، كيف تبلي في عملها الذي التحقت به منذ فترة؟ ارتسم التوتر المشوب بالحرج بعيني صلاح وهو يجيب بخفوت: -رهف رحلت يا حمزة. نظر حمزة له بحدة هاتفًا: -إلى أين رحلت عمي؟ حاول إبداء نبرة اعتيادية بصوته وهو يجيبه: -استقلت بمعيشتها عنا. توقف حمزة بالسيارة فجأة فانطلقت الأبواق من خلفه باعتراض، لكنه لم يأبه وهو يهتف متسائلاً باعتراض أشد: -ماذا؟! استقلت؟ أهي تعيش بمفردها الآن؟ فقد صلاح سيطرته على نفسه وصاح حانقًا: -نعم حمزة، تعيش بمفردها تمامًا، بمكان وضيع ويعلم الجميع أنها وحيدة، فلا تظن أنني سعيد بسبب ذلك، أنا ألعن نفسي كل لحظة بسبب تركي إياها، حتى أنني قد فكرت بالاستقرار معها وترك من تسببتا في ذلك الوضع لتجربا النبذ والإهمال اللذين أذاقتاها إياه طوال عمرها.. ثم هدأت نبرته وهو يتابع: - لكن ما بيدي حيلة بني، أنا مضطر لذلك كي تكون هي آمنة. هتف حمزة من بين أسنانه: -وما أدراك أنها الآن آمنة؟! ألم يخطر ببالك أن يلاحقها ذلك الحقير مستغلًا وحدتها؟! حدق صلاح في وجهه بصدمة مرددًا: -أنت..أنت.. قاطعه حمزة بهدوء: -نعم عمي، أنا أعلم ما حدث جيدًا ذلك اليوم، وأعلم أن ذلك الرجل لن يدعها وشأنها.ظلت النظرة المصدومة على وجه صلاح وهو يحدق بحمزة الذي يرتفع صدره ويهبط بغضبٍ واضح، الآن فقط أدرك أن السبب الحقيقي لطلاق ابنته سيكون أحدهم.الخوف أو الخزي أو الازدراء! تأففت سارة بِغيظ وهي تحاول التزام أقصى قواعد التهذيب عندما سمعت المرأة تسألها: -هل تجيدين الطهي يا عروس؟ يجب أن أخبرك بأن أحمد يحب جميع أنواع الطعام، ويدقق به كثيرًا، كما أنه لا يستطيع تناول نفس النوع يومين متتاليين. ابتسمت سارة ببرود: -أستطيع أن أعد بعض المعكرونة بصلصة الطماطم! عقدت المرأة حاجبيها بدهشة متسائلة: -وماذا عن بقية الأنواع؟ مطت سارة شفتيها بلا مبالاة وهي تجيب: -سأكتفي بالمعكرونة. عوجت المرأة شفتيها بضيق وهي تنظر لابنها فتدخلت سوسن بابتسامة مصطنعة: -سارة تمزح، إنها تحب المزاح ما شاء الله، هي تعد جميع أنواع المأكولات، أليس كذلك حبيبتي؟ والسؤال الأخير كان بنظرة تحذيرية انقطعت عندما تحدث ساري ببرود: -على أي حال أعتقد أن الطعام الصحي أصبح نَمَطًا شائعًا ضروريًا هذه الأيام أستاذ أحمد، أنصحك بتجربته! وقبل أن يرد الشاب هتف عاصم بتصديق: -معك حق، كما أن هناك ما هو هام أكثر من أنواع المأكولات لنتناقش بشأنه الآن. سألت الأم بصراحة: -هل تعملين يا عروس؟ أجابت سارة ببرود: -أنا محاسبة بشركة أخي وابن خالتي. ظهر الفضول على وجه المرأة وابنها الذي لا ينطق وهي تسألها:-وستظلين بوظيفتك بعد الزواج، أليس كذلك؟ كشَّرت سارة عن أنيابها وهمت بالرد، لكن أخوها بادر: -أي زواج ؟ ولو افترضنا أنه سيتم، لِمَ تعتقدين أنها ستعمل؟ربما ستُفضل أختي أن تترك العمل، هذا شأنها وحدها. تبادلت المرأة النظرات مع ابنها بتوتر ثم قالت: -لكن أنت تعلم مهندس ساري أن الظروف المادية أصبحت شاقة، لا بأس أن تساعد المرأة زوجها طالما هي بالأصل تعمل، إنه بيتهما سويًا. ليجيبها ساري ببرود:-هذا أمر يكون بالرغبة لا بالإجبار يا فندم، ربما يفضلان أن يعيشا بقدر دخل الرجل حتى يوسع الله رزقهما، لا أنا ولا أنتِ لنا أن نتحدث في شيءٍ خاص كهذا.لم تستطع المرأة إخفاء علامات الخيبة والامتعاض من على وجهها فنظرت لابنها نظرة ذات مغزى فوقف لتتبعه مبتسمة بمجاملة:-خيرًا، سنتبادل الاتصالات خلال أيام، إن شاء الله يكن النصيب لهما معًا. همس ساري بغيظ: -إن شاء الله لن نرى وجهك أنتِ وابنك ثانية. وعندما وصلا الى الباب تتبعتهما سوسن التي تداري غضبها بصعوبة وساري الذي يكاد يركلهما بقدمه، هتف عاصم: -أستاذ أحمد فكر في النادي الرياضي بجانب الطعام الصحي، عسى أن تنمو لك بعض العضلات.وما إن أغلقت سوسن الباب حتى استدارت لهم جميعًا هاتفة بغضب: -إلى متى ستتسببون بفضحي أمام الناس؟ رد عاصم بدهشة: -وأين الناس؟ لم يحضر سوى امرأة فضولية متسلطة وبحوزتها كائن غريب الملامح لم نسمع حتى صوت سعاله، كيف يريد ذلك الزواج؟ عَلَّقَ ساري بابتسامة مستفزة: -بجهود أمه! ضرب الاثنان كفيهما ببعض وهما يتضاحكان بينما سارة تكاد تطير سعادة بتخلصها من ذلك السمج، صرخت بهم سوسن بغضب:-ولا واحد من ثلاثتكم يريد أن يسعدني، ولا واحد يريد أن يجعلني أحضر زفافًا. ثم شرعت في أنينٍ مفتعلٍ فاتجه إليها ساري واحتضنها بحنانٍ قائلًا: -يا إلهي! أكل ذلك من أجل حضور زفاف؟، حسنًا حبيبتي ارتدِ أجمل ما عندك والآن سآخذك إلى أقرب قاعة أفراح لتُصفقي وتزغردي كما تشائين، لكن بدون رقص. لكزته أمه في إحدى كتفيه وهي تعاتبه: -أتسخر مني ساري؟ أتقلل من قيمة مشاعري ورغبتي بالاطمئنان عليكم؟ قبل ساري جبهتها بحنانٍ ثم همس بإحدى أذنيها بعيدًا عن الآخرين:-دعواتك أمي،دَعْكِ من ابنتك وابن أختك، ربما أُسعدك أنا قريبًا. ابتسمت أمه بلهفة وهي تسأله بصوت قوي: -أحقًا ساري؟! أهناك فتاة؟! من هي؟! أخبرني ما اسمها وأين رأيتها؟ أغمض عينيه زافرًا بيأسٍ وهو يستمع إلى هتاف عاصم من خلفه: -الله الله!! أهناك فتاة؟ وأنا لا أعلم؟! أين؟ ومتى؟ وكيف وأنا ملاصقٌ لك طوال اليوم، وطوال الأسبوع؟ هبت سارة هاتفةً بفرحة: -ما اسمها ساري؟ وكيف تعارفتما؟ هل هو حب من النظرة الأولى؟ هل هي جميلة؟ ليسأله عاصم بنزق:-ومتى كنت ستفكر بإخباري؟ قبل زفافك بيومين أم في حفل عقيقة ابنك؟ لم أكن أتوقع أن تصدر تلك النذالة عنك أبدًا يا ساري! بينما عقدت سارة حاجبيها بحزنٍ مفتعل: -وماذا عني أنا؟ أنا أخته الوحيدة معه بالبيت وبالعمل، وأنا مخزن أسراره، وقد أخفى عني أهم ما بهم، أتدرك مقدار حزني وخيبتي عاصم؟ وافقها عاصم بإيماءة حزينة من رأسه: -أدركها تمامًا ابنتي، طعنةٌ نجلاء تنفذ إلى القلب، وتفقدك الثقة في أقرب الناس إليكِ. ردت سارة:-أوَ تدري أيضًا عاصم كفى يا أوغاااااد!!- عم الصمت بينهما عندما قاطعتهما صيحته المدوية وهو ينظر إليهما متسعي الأعين ومتسمرين كالأصنام ثم اقترب منهما هاتفًا بغيظ وهو يتوجه بنظره إلى أخته أولًا: -أنتِ! اسمعيني جيدًا! هل تريدين إعطاء تلك السيدة..أقصد ابن تلك السيدة فرصة؟ هزت سارة رأسها نفيًا بسرعة: -إطلاقًا! بصرامة جاء رده: -انتهى! سأحرص على وصول ردك إليهما، أنا لن أجبرك أبدًا على شيءٍ لا تريدينه سارة. ابتسمت بامتنانٍ وهي تحتضن أخيها بحبٍ فربت عليها بأبوة واضحة ثم التفت إلى عاصم غاضبًا: -وأنت!! بسرعة رد عاصم رافعًا كفه أمام وجهه: -أنا لا أريد الزواج من أي أحد. عقد ساري حاجبيه بحنق: -أي زواج يا أحمق؟! أنت لن تأتي إلى الشركة بالغد، عسى حجتك بانعدام التفرغ تبطل وتقوم بالزيارة التي أجلتها طويلًا. حدق عاصم بعيني صديقه بتساؤلٍ ضائع وملامح مهزومة فابتسم ساري بحنان مخاطبًا إياه بهدوء: -يا أبله! أيكون للمرء أحد والديه على قيد الحياة ويهدر أيامه في التردد والخوف، اذهب عاصم، هي أمك وتتمنى رؤيتك، اذهب ولا تنتظر أكثر كي لا تتأخر فتندم! ابتسامة ضعيفة بدأت بالظهور على شفتي عاصم بالتدريج ليغمز له ساري ببسمة ثم تتسع عيناه بذعرٍ مفتعل هامسًا باستدراك:"تلك المشعثة أصابتني بالعدوى!" وبغرفة الجلوس كانت مريم تعبث بهاتفها، جلس ساري على المقعد المجاور لها متسائلاً بلا اكتراث: -ماذا تفعلين؟ أجابته وهي محدقةً بهاتفها: -أشاهد صور الحفل. -أي حفل؟ نظرت له متحدثة باهتمام: -حفل ختام الفصل الماضي، انظر! تظاهر بالاهتمام وهو ينظر إلى هاتفها بغير تركيز للحظات ثم اتسعت عيناه فجأة وهو يختطف الهاتف منها قائلًا: -أعيدي الصورة السابقة! أعادتها مريم ثم ابتسمت هاتفة: _إنها الآنسة رهف، أنت قد قابلتها معي. شملت ابتسامته وجهه وهو يرد محدقًا بالهاتف: -بالطبع قابلتها. مدت مريم يدها لتأخذ هاتفها فهتف بنبرة مهتمة: -صحيح! هل رأيتِ ذلك التطبيق الحديث على هاتف سارة الذي يضع للوجه أذني حيوانات؟ نظرت له باستغراب: -بالطبع ساري أعرفه! إنه لدى الجميع! وهمت باختطاف هاتفها فأبعده عنها بإصرار وهو يخاطبها بنزقٍ مفتعل: -لم أقصد ذلك التطبيق القديم يا ذكية، هناك آخر لتوه تم إصداره وبه مميزات كثيرة، اذهبي الآن واحضري هاتف سارة وسأريكِ إياه. نظرت له بفضول ثم انطلقت إلى الخارج، فالتقط هو هاتفه بسرعة وقام بإرسال صورتها إليه، وعندما عادت مريم تعطيه هاتف أخته لم يكلف نفسه عناء الرد عليها وهو يتجه إلى الخارج سعيدًا بغنيمته! يوم الأربعاء العاشرة صباحًا: بتثاقل أخذ يصعد الدرجات وهو يفكر في التراجع، لا يعلم كيف أقنعه ساري بالقدوم إلى هنا، لا يعلم ماذا يجب عليه أن يقول أو يفعل، هل يبتسم لها؟ هل يحتضنها؟ هل يناديها بـ"أمي"؟! زفر بحيرة وهو يتوقف بمنتصف الدرجات... هبطت عيناه إلى الأسفل درجة درجة ثم صعدت إلى الأعلى درجة درجة يستطيع الآن الهرب إلى خارج البناية إذا اختار الهبوط فتخرج أمه من حياته إلى الأبد، ويستطيع أيضًا أن يقتحم ذلك الباب بالأعلى مطالبًا بحقه بأمومتها له فلا يسمح لها بالابتعاد عنه لحظة أخرى. ماذا يختار؟ لحظة..والثانية..وفي الثالثة دفعته قوة ما إلى الدرجة الأعلى.. ثم الأعلى، ثم الأعلى، حتى وجد نفسه بعد ثلاثة درجات يركض ركضًا إلى أن توقف مضطرًا أمام الباب يدقه بيده اليمنى ويضغط جرسه باليسرى بإصرارٍ وهو يلهث.. قلبه يلهث يريد حنانها عقله يلهث يصرخ باسمها روحه تلهث تشتاق لحضنها وعندما فُتِح الباب فجأة توقف لهاثه منسحبًا لتحل محله شهقة! فأمامه كانت ضئيلة القامة عيناها دامعتان ومُتشحة بحجاب أسود!! وأطلق لسانه- بحشرجة مذعورة- السؤال بدون إذن منه: -هل تأخرت؟!الثانية عشر ظهرًا: هبطت من سيارتها ثم دلفت إلى داخل المبنى، وبهدوء اتجهت إلى مكتب الحجز، بادرتها الموظفة بابتسامة: -تحت أمركِ سيدتي، أتحبين الاستفسار عن الدورات؟ وبابتسامة أيضًا جميلة ردت: -لا، أنا أريد الحجز في إحدى الدورات لطفلي. -كم عمره سيدتي؟ بابتسامةٍ ردت: -عمره ستة أعوام. -والاسم؟ ردت بقوة: -إياد عَمَّار الناجي. بدأت الموظفة بتسجيل البيانات حينما بادرتها: -لكن بعد إذنك، أيحق لي اختيار الفصل الذي سيدرس به؟ ردت الموظفة ببشاشة: -بالطبع سيدتي، أستطيع ترشيح أفضل المعلمين لابنك. ابتسمت باقتضابٍ وهي ترد بجدية: -شكرًا لكِ، لكني أريد أن يلتحق ابني بالفصل الذي تدرس به الآنسة رهف! وبنفس المكان بنفس الوقت وعلى بُعد بضعة أمتار تلفتت رهف حولها بقلق بعد أن استدعوها لمقابلة شخصٍ ما يريدها فورًا، وعندما وصلت أخيرًا إلى باحة الإستقبال حدقت بظهره باستغراب مُحَاوِلَة أن تتعرفه، لكنه التفت على الفور إليها فارتفع حاجباها في دهشة، وقبل أن تنطق بادرها بتوترٍ ملحوظ: -أريدك أن تحذري رهف، ربما هناك من يتربص بك! وازدادت دهشتها وهي تهتف به بقلق: -من تقصد يا حمزة؟! الواحدة ظهرًا: مطعم راقٍ للغاية وموسيقى ناعمة ملابس غالية وسيارات فخمة تصطف بالخارج يا للحسرة ألا يكون نصيبها مثل واحدة من هؤلاء النسوة! لكن ربما مجيئها لمقابلته هو خطوة بأول طريقها، فهو يبدو مهتمًا للغاية.وفي أبعد ركن بالمكان وجدته، اتجهت إليه ترسم ابتسامة أنثوية رائعة، فرفع عينيه إليها وبادلها ابتسامتها، ثم وقف جاذبًا أحد المقاعد كي تجلس عليه.مهذب وسيم ذو مكانه عاليةوالأهم: ثري!متزوج؟ لا تهتم!لديه طفل؟ أيضًا لا تهتم!لن تسمح لأي شيء تافه أن يقف أمام أحلامها وانطلق سؤالها بأنوثة ناعمة:-لِمَ طلبت أن تراني؟ وجاءها الرد على الفور:-هناك شيئًا أريده منكِ بشدة سيدة دينا. عقدت حاجبيها بدهشة مفتعلة: -وماذا يكون هذا الشيء دكتور عَمَّار؟