Cairo , Egypt +01508281514 darr@elsayad121216.com

الفصل التاسع عشر

*سَكَن رُوح* ضُميني.. حرريني!فُكي القيود واتبعيني!سَأطالبك بِقلبك؛ سأطالبك بحبك؛سأطالبك بالانتماء؛وكوني لِروحي السكن؛مثلما صرتِ لي المأوى؛ قبل ساعة:"ألم أطلب منكِ ألا تأتي إلى هنا؟ هيا اذهبي إلى أمك!"صاح بها صلاح بِغيظ فوضعت دينا يدها على الباب كي لا يُغلقه بوجهها، ثم توسلته باكية:_أرجوك أبي انتظر! أنا.. لقد طلقني تامر وطردني من الفيلا هو وأمه!وبرغم الغُصَّة التي شعر بها كأب فإنه أبدى عدم اهتمامه وهو يهتف بها:_وأنا ما شأني؟ كُنت مُتوقِعاً منذ البداية أنكِ لا تصلُحين لتأسيس حياة طبيعية، أنتِ وأمك لا تفلحان سوى في تدبير المكائد والافتراءات وظلم الغير.ازداد انهمار دمعاتها وهي تكاد تُقَبِّل يده هاتفة:_أرجوك أبي! أرجوك أنا ليس لدي مكان أذهب إليه، أنت لن تتركني وحدي بالشارع. صاح بها بغضب:_ولِمَ لا أتركِك وحدِك؟ لقد تركت ابنة أختي وحدها لشهور بسببك أنتِ وأمكِ، وأستطيع أن أفعلها معك أيضاً!توسلته بنبرة مُتأسفة حرَّكت قلبه: _أنا ابنتك أبي، أرجوك، سأفعل أي شيء تريده ودعني أدخل!حدَّق بها بصمت للحظات شعرت هي بها بالرعب.. هل سيرفض إدخالها بيته؟هل سيُلقيها بالشارع مثلما فعل تامر؟أو مثلما فعلت هي بأمها؟أو مثلما فعلت هي وأمها برهف؟جاؤها سؤاله لينزعها من تساؤلاتها الداخلية المذعورة، بنبرة مُقلِقة:_ستفعلين أي شيء أطلبه منكِ دينا؟أومأت برأسها إيجاباً بسرعة والأمل عاد لينتعِش بصدرِها. عودة إلى الوقت الحالي:"ماذا حدث تغريد؟"دلف عَمَّار إلى غرفة زوجته بالمشفى مُلقِياً سؤاله القلِق على أخته التي ابتسمت ولم تُجبه وهي تخرج من الغرفة كلها، نظر إلى مَوَدَّة بقلق فوجدها تبتسم له بحنانها المعهود قائلة: _يبدو عليك التعب حبيبي.زفر بإرهاق واضح وهو يجلس بجانبها:_لقد قُمنا بمُغامرات عديدة تلك الساعات الفائتة، لم أكن أتوقع مُطلقاً أن ينتهي بي الأمر بين حريق واختطاف ووثائق خطيرة وقسم شرطة في يوم واحد. صمت قليلاً ثم أردف بغيظ:_ ربما كنتِ على حق عندما أقنعتِني بضرورة زواج هذين الإثنين بأسرع وقت، وإلا سينتهي العالم قبل أن يجمعهما بيت واحد.اتسعت ابتسامتها وهي تُربِّت على وجهه برقة مُغمغمة:_أنت بطلي عَمَّار، حمداً لله على رُجوعها سالمة.قبَّل يدها الموضوعة على وجنته ثم عاد القلق إليه وهو يقول:_يجب أن تهتمي بتغذيتِك مَوَدَّة، الشحوب والدوار المُلازمين لكِ بالتأكيد بسبب سوء تغذِيتك.ضحكت برقة وهي ترد بمكر:_ربما أنت على حق، أنا يجب أن أهتم بتغذيتي جيداً، حتى لا ينشأ أخ أو أخت إياد ضعيفي البنية.ظل مُحدِّقاً بها بابتسامته للحظات ثم ارتفع حاجبيه لأعلى دهشة بالتدريج، وعندما استوعب الأمر كاملاً عادت الابتسامة الذاهلة إليه وهو يسألها بلهفة:_هل أنتِ حامل مَوَدَّة؟ أومأت برأسها إيجاباً فاجتذبها إلى أحضانه بقوة ثم قال بِفرحة فائقة:_أيعني هذا أنني مُنِحت عطية أخرى تزيد من قوة رابطي بكِ؟ثم أضاف والرضا يشع من صوته: _سأحافظ عليكم جميعاً، لن أخذل أحدكم أبداً، أعدك! ثم قَبَّل جبهتها مُتمتماً:_أنا ومَوَدَّة وإياد، وهذا الصغير، لن يفرقنا شيء مُطلقاً، وسأثبت لثلاثتكم كم أنكم لدي غاليين!ابتعدت تنظر إليه بِحب فهمس لها:_أعشقك مَوَدَّتي وقف حمزة يجز على أسنانه بغضب شديد وهو يلاحِظ نظرات خالد إليها أثناء تحدثهما سوياً بينما يبدو أنها لا تنوي صدُّه بصرامة برغم تململها الواضح، زفر بضيق وهمَّ بالذهاب إليهما حينما استمع إلى نداء باسمه، فالتفت خلفه ليجد صلاح.اتجه الرجل إليه تلحقه ابنته التي تبدو آثار أصابع زوجها على وجهها بوضوح، ابتسم له بتكلُّف والرجل يسأله بلهفة:_ماذا فعلتم يا ولدي؟ رد حمزة عليه يُطمئنه:_لا تقلق يا عم صلاح، الوثائق التي قدمناها ستضمن له سنوات لا بأس بها في السجن. زفر صلاح بارتياح وهو يهمس إليه:_اعذرني حمزة إن سألت: هل هناك ما يُدين ابنتي؟حلِّ الضيق على ملامح حمزة وهو يُجيبه:_لا عم صلاح اطمئن، التُهم التي ستُوَجه إليه تتعلق بالتزوير والغش، لا شأن لها بها.اتسعت ابتسامة صلاح وهو يُعلِّق:_حمداً لله..ثم استدرك باهتمام: _هل رهف لاتزال نائمة؟هز حمزة كتفيه وهو يرد: _لا أعلم، لقد وصلت لتوي.دقق صلاح النظر بعيداً في الأفراد الواقفين أمام الغرفة، لاحظ وجود صديق ساري الذي رآه بحفلي الزفاف وبجانبه خطيبته، ولاحظ وجود أم ساري ثم.._أليست هذه أخت ساري؟هتف صلاح بها فالتفت حمزة ينظر إليها والغيظ يشتد على ملامحه، ثم أجابه بهدوء ظاهري:_هي بعينها عم صلاح. تساءل صلاح بفضول:_والشاب الذي يقف معها خطيبها؟ رد حمزة بحدة:_ذلك البارد؟!! بالطبع ليس خطيبها، هو شخص غريب عنها كلياً.لم يُلاحظ صلاح حِدَته وهو يُعَلِّق: _سأذهب لأطمئن منها، بعد إذنك حمزة.وقف حمزة مكانه مُحاوِلاً السيطرة على غضبه الشديد، فالسمِج البارِد الثرثار كُلَما همَّت بالانصراف اجتذبها لحديث ثانِ، يجب عليه تخليصها منه إذن..."حمزة!"انطلق النداء الثاني باسمه فالتفت إليها هاتفاً بنزق:_خيراً؟!ثم زفر بضيق وهو يُهدىء من نبرته قليلاً ويُتابع:_ماذا تُريدين دينا؟!اكتنف التوتر ملامحها وهي تُحاوِل البحث عن كلِمات مُرَتَبة، وأخيراً نطقت:_أنا.. لقد طلقني تامر.لم يبد عليه أي انفعال، لا دهشة، لا ضيق، لا اهتمام، وبمنهى البرود رد: _وما المطلوب مني؟ازداد ارتباكها بوضوح وهي تُحمحم ثم تتحدث بحرج :_لقد.. لقد عَرَضْت عليَّ ذات مرة وظيفة بمكتب محاماة يمتلكه صديقك، فهل.. فهل لاتزال قائمة؟ حدِّق بها حمزة بدهشة وهو يتذكر عرضه عليها مِراراً مُحاولة الاستفادة من دراستها، بينما هو في الواقع كان يتمنى أن يمنحها شيئاً يُشغِلها عن الشجارات الكثيرة مع أهله، لكنها دائماً كانت تقابل عرضه بالرفض بحجَة عدم اضطرارِها للتعب حينما يُلبي هو كل طلباتها، ما الذي تغيَّر الآن إذن؟ذلك التحوُّل في أحد أهم مبادئها غير مُريح؛ نظرتها التي ترمُقُه بها الآن غير مُريحةالارتباك الذي.. تتصنعه ذلك غير مريح؛يتذكر جيداً مهارتها في تحقيق أهدافها ورغباتها منه بنبرة الضعف تلك..هل تحاوِل دينا بعد شهور من طلاقهما خداعه؟!!وردُّه جاء بارداً مُحمَّلاً بكل الازدراء الذي استطاع الحُصول عليه:_سأسأله وسأُخبِر عم صلاح.وبدون حرف إضافي تركها واتجه إلى ذلك المُستفِز!حاولت سارة التظاهر بالاستماع لما يقوله قريب مَوَدَّة عن دهشته عندما علم بالأحداث التي وقعت خلال اليومين الفائتين أثناء سفرُه إلى إحدى المُدن الساحلية في عطلة قصيرة فلم تنجح..فالدكتور الذي عرض عليها الزواج منذ بضعة أيام ثم اعترف لها أنه ضرب زوجته ولم يبد عليه الندم يقف الآن مع نفس الزوجة يتبادل معها حديثاً يبدو أنه سبب لها الارتباك أو الخجل! هل انتابه الندم أخيراً؟هل اكتنفته الرغبة في إصلاح الأمور؟أوليست مُتزوِجة في الأصل؟!جذبت نظراتها عنه بصعوبة وابتسمت لخالد الذي يُدقق بملامحها الجميلة بمُنتهى الجُرأة التي لم تكن هي تعي منها شيئاً، حتى."مرحباً أستاذ خالد!"التفت الاثنان إليه وصافحه خالد ببشاشته المعهودة صائحاً:_أهلا بك دكتور!أومأ حمزة برأسه عابساً دون تكليف نفسه عناء الرد عليه ثم التفت إلى سارة قائلاً: _سارة! أريد التحدث معك.تظاهرت بالبرود وهي ترد: _تفضل دكتور حمزة.هنا أدار رأسه مرة أخرى إلى خالد هاتفاً من بين أسنانه:_بمفردنا!وعاجله بسرعة:_أرجو أن تبحث عن شيء ما، أو شخص آخر ما لتثرثر معه أستاذ، فبيني وبين سارة حديث يخصنا وحدنا!شعر خالد أخيراً بالحرج وهو يُحمحِم بخشونة:_أنا سأذهب للاطمئنان على عَمَّار ومَوَدَّة، بعد إذنكما.تابعه حمزة بعينيه بحنق واضح ثم التفت إلى سارة التي بادرته متسائلة:_ماذا تريد دكتور حمزة؟بنبرة صارمة أجابها:_سنتحدث بحديقة المشفى، هيا!وأمام الأمر الصارخ بعينيه لم تستطع سوى الخُضوع! "أنا.. أنا كنت أود الاعتذار منكِ رهف."حدَّقت رهف بابنة خالها بذهول على الرغم من الضيق البادي على وجه الأخيرة والذي يُنبئها بأن ذلك الاعتذار ليس نابعاً من ضميرٍ عثرت عليه مؤخراً، وإنما تم إجبارها عليه بطريقة ما، نقلت أنظارها بينها وبين ساري الذي استشاط غضباً وهو يهدر بها:_علام تعتذرين بالضبط؟ أتعلمين أن زوجتي ظلت مُختطفة لساعات على يد شريكك وكان من الممكن أن أفقدها بسبب غِلِّك وكراهيتك؟!ثم أضاف بنظرة مغتاظة: _يا حقووودة!والاعتراض خرج من رهف بنبرة ضعيفة: _ساري!أشاح بإحدى يديه حانقاً:_سيصمُت ساري! سيصمُت..وعاد بنظراته إلى دينا متوعداً:_ لكن أقسم إن كانت تلك إحدى ألاعيبك ومُخططاتك القذرة سأنفذ وعدي القديم بإحالة حياتك إلى الجحيم، وفي التو! دافعت دينا عن نفسها بضعف:_أنا لا أقوم بالألاعيب. فرد هو بصياح ساخر:_إذن هي والدتي من تفعل! نظرت له رهف شزراً هاتفة بتحذير:_ساري!أشاح بوجهه عنها هاتفاً بنزق:_سكتنا!زفرت بضيق وهي تلتفت إلى دينا وتحاول إيجاد رداً مُناسباً فلا تنجح...لقد حاولت منذ سنوات التقرُّب منها وإسكانها مكانة الأخت التي لم تحصل عليها يوماً؛تحمَّلت كل اتهامها وسبابها والمكائد التي لطالما نصبتها لها؛لكن كل محاولاتها باءت بالفشل...!فلم تخف دينا عنها يوماً كراهيتها وحقدها، حتى عندما تزوجت من حمزة وتركت المنزل ظلت تحرض والدتها عليها؛وبالإضافة إلى كل ذلك اكتشفت أنها هي من سرقت دليل براءتها الوحيد وخبأته كي تُمعِن في تعذيبها؛ومكيدة تلو الأخرى حتى تسببت في اختطافها؛والآن تبغي منها سماحاً؟! هي ليست ملاكاً بالطبع ولن تُخبرها أنها ستتغاضى عن كل جرائمها بحقها بلحظة واحدة..فنظرت لها ثم خاطبتها بهدوء:_اسمعي دينا! أنتِ وأمك آذيتماني لسنوات بِعِدة طرق، بذلتما كل الجهود كي تُصعِّبان حياتي وتُزيدان من سوئها، وأنا كلما حاولت التماس أعذار لكما لا أجد، أنتِ لا تتوقعين مني أن أنسى كل ما فعلتماه بكلمة اعتذار غير نابعة من قلبك، أليس كذلك؟توترت عينا دينا وهي تنظر إليها بغيظ فشلت في إخفائه، فشعر ساري أنه على وشك ضرب امرأة للمرة الأولى بحياته، أما رهف فقد ابتسمت بسخرية وهي تُشيح بعينيها عنها هاتفة بهدوء:_تستطيعين الانصراف دينا، وسأُخبر خالي بحرارة اعتذارك!وقبل أن تستوعب أنه يتم طردها أضاف ساري بحقد لم يحاول مداراته:_لآخر مرة أخبرك أنني لا أتمنى أن أرى وجهك مرة ثانية وإلا أنا غير مسئول عن ردة فعلي.ثم أتبع عبارته بنظرة مُرعِبة مُتوعِدة اقترنت مع تمرير سبابته ببطء بمحاذاة عنقه في إشارة واضحة بالـ.. ذبح!وقفت ببطء مُقترن بإذلال أصبح رفيقاً لها منذ ساعات قليلة فقط وانصرفت في هدوء، التفتت رهف إلى ساري مُتصنعة الغضب هاتفة: _أنت تنطلق في طريق الإجرام بسرعة الصاروخ، أتدرك ذلك؟ليهتف هو غضباً من بين أسنانه:_ثلاثة مرات! انعقد حاجباها دهشة فتابع بحنق:_رأيتها ثلاثة مرات فقط وقتلتها بداخل ذهني عشرات المرات، لا أدري كيف عِشتِ معها لسنوات بمكانٍ واحد دون تهشيم رأسها فحسب!ثم أضاف بِغيظ:_ عقرب سام، وليسامحني العقرب!"أنا أنتظر دكتور حمزة!"قالتها سارة بضيق واضح بينما يحاول هو منذ دقائق التغلُّب على توتره المُعتاد كلما أوشك على ذِكر ذلك الموضوع بالأخص.تطلعت عيناه إلى الأفراد القليلين الذين يتجولون هنا وهناك بحديقة المشفى، ثم زفر حانقاً وهو يجلس على المِقعد الأسمنتي قائلاً:_أنا.. أنا أود أن أخبرك عن سبب انفصالي عن دينا. علَّقت سارة ببرود:_أنا أعرف السبب بالفعل دكتور حمزة، فقد ذكرته لي بنفسك، لقد أخبرتني أنك ضربتها، هل نسيت؟وقبل أن يرد هَبت واقفة متابعة:_على العموم زواجك أو طلاقك ليس لي شأن به، بعد إذنك. وعندما همت بالانصراف هب واقفاً صائحاً بها:_اجلسي سارة واستمعي إليّ ولا تُثيري غضبي أكثر!تقافز الجنون بعينيها وهي تُحدِّق بعينيه بعناد صائحة بالمثل:_ماذا ستفعل حمزة؟ أخبرني ماذا ستفعل إن أثرت غضبك؟ولدهشتها اتسعت ابتسامته وهو يقول متسائلاً:_حمزة؟! ردت باستغراب، حانقة:_أوليس هذا اسمك؟مُحتفظاً بابتسامته، غارقاً أكثر بعينيها رد:_تناديني دوماً بدكتور حمزة!انتشر التورد بوجهها وساد الارتباك نبرتها وهي تُبرر: _عذراً، زلة لسان لن تتكرر!وبخفوت رد:_لكنني أريدها أن تتكرر سارة، أصدقك القول أنا أحب لقب "دكتور" من الجميع إلا أنتِ!تهرَّبت بعينيها منه وهي تزفر بتعب:_ماذا تريد؟أغمض عينيه بضيق شديد والذكرى الأكثر إيلاماً بحياته تجتاح عقله، جلس على المِقعَد مرة ثانية فعادت تلقائياً إلى مِقعدها، مُستشعِرة الحُزن الذي يكتنفه الآن، مُنتظرة!وبصوته الهادىء الذي جاء مُثقَلاً بهمَّ افتتح سيرة الذكريات:_بينما يعتقد الجميع أن سبب طلاقي لدينا هو ما تَسَبَبَت به عندما ذهبت لشديد وجعلته يهدد رهف ويضرب أبيها وهي تشاهد بكل برود، كان هناك سبب آخر، سبب قوي آخر، سبب قاتل آخر..والفضول امتزج بالاهتمام وهي تُحدِّق به بدون كلمة فتابع هو بنفس الحُزن: _ تخيلي أن أظل لسنوات ثلاثة انتظر مجيء طفل يجعل الحياة بيني وبينها أكثر رحمة، أكثر تقبُّلاً، يمنحنا بعض الحب الذي نفتقده أنا وهي، وعندما مر أكثر من عام ونصف ولم يحدث حمل صممتُ أنا على إجراء الفحوصات اللازمة للاطمئنان أو بدء العلاج إن احتاج أحدُنا وكانت النتيجة جيدة للغاية لكلينا، لأكتشف يوماً ما بالصُدفة أنها تتناول أقراصاً لمنع الحمل!وضعت سارة كفها على فمها تكتُم شهقة دهشة، حينما تابع هو: _حدث ذلك بعد زواجنا بعامين وانتهى بشجار هائل بيني وبينها أسفر عن خصام لعدة أيام.صمت لوهلة سامحاً لابتسامة ساخرة لم ترها على ملامحه من قبل ثم أكمل: _بعدها حاولت أن اهدأ قليلا وتقربت منها ثانية وحدثتها عن رغبتي بطفل يربط بيني وبينها فأخبرتني أنها لن تكرر فعلتها وستعمل معي على إنجاب طفل يمنحنا بعض البهجة والحنان والاهتمام.ثم انمحت الابتسامة الساخرة لترتسم أخرى حاقدة وهو يُتابع:_ وبعد عام من ذلك اليوم سافرت إلى إحدى محافظات الصعيد لحضور زفاف أحد أصدقائي واضطررت للمبيت بضعة أيام بينما تشاجرت هي معي بنفس يوم سفري بلا سبب حقيقي بعدما أخبرتني أنها ستقضي أيام سفري لدى أهلها.كوَّر قبضتيه في لمحة غضب شديد لم تخف عليها ثم هتف بحنق شديد: _اتصلت بها مراراً كي أصالحها لكنها لم تُجِب، فعُدُت أبكر يوما واحداً واضطررت إلى الذهاب رأساً من محطة القطارات إلى المشفى، ليقابلني عَمَّار ويخبرني أن زوجتي المصون تقوم بالابتزاز كي تتخلص من وجود أخته ببيتهم. هذا الجزء تعرفه بالفعل ولقد احتقرتها بسببه كثيراً، وحينما همَّت بالتعليق تابع هو بحقد وكراهية وغضب وألم:_ ذهبت إلى بيت أهلها فلم أجدها، فعلمت أنها لدى صديقتها ومخبأ أسرارها، ذهبت إليها وكل ما كنت أفكر به هو أنني سأجبرها على الاعتراف بما تمتلك وتقوم بالابتزاز عن طريقه وأُخيرها بين البداية الجديدة معي للمرة الثانية أو الانفصال بهدوء.ليتوقف فجأة عن الحديث وهو يضغط عينيه بإصبعيه ثم يستدرك بهدوء مُميت: _وهناك فوجئت بها، بزوجتي العزيزة تقضي فترة نقاهة بعدما أجرت عملية لإجهاض ابني الذي لم أعرف مُطلقاً بوجوده ، والذي كان عمره حينها أكثر من شهرين! والشهقة خرجت منها تلك المرة بصوت واضح مُتبعَاً بصيحتها المصدومة:_يا إلهي!هنا نظر حمزة إليها بمنتهى القوة والثقة والتصميم هاتفاً:_ القاتلة المجرمة قتلت ابني الذي انتظرته طويلا، ولو لم أكن مُتعقلا لكنت قتلتها مثله ولم أكتفِ بصفعة واحدة!وعندما ترقرقت عيناها بالدموع تابع:_لِذا يا سارة إن كنتِ تنتظرين مني إبداء ندمي على ضربها، فللأسف أنا سأخذلك، لم أندم يوماً سوى لأنني تزوجت تلك المرأة ومنحتها ثقتي برغم كل التحذيرات المُحيطة بها.أنهى عبارته ووقف بهدوء فتعلَّقت عيناها اللامعتان بالدموع به وهو يبتسم إليها بألم قائلاً:_آسف سارة إن خيبت أملك.ثم انصرف!ألقى صلاح السلام عليهما مُقبِّلاً رأسها مُهنئاً إياها على سلامتها ثم خرج، التفتت هي إلى عاقِد الحاجبين الذي لم ينبس ببنت شفة منذ دخل خالها متسائلة:_ما بك ساري؟مط شفتيه وهو يقترب ليجلس بجوارها على الفراش الصغير:_أنا بخير حبيبتي. دققت النظر في عينيه وهي تهز رأسها رفضاً مُعلِّقة: _لا، منذ دخل خالي صلاح إلى الغرفة وأنت صامت، هل حدث شيء ما؟ارتسمت شبه ابتسامة على شفتيه وهو يهز رأسه نفياً ثم انتقل خلفها و أحاط جذعها بذراعيه فهتفت باعتراض مرتبك:_ساري! ماذا تفعل؟ نحن بالمشفى! همس بأُذنها بِمكر:_لا تُسافري بخيالك بعيداً رهف، أنا سأصفف لكِ شعرك فقط!توردت وجنتاها بحياء بينما تابع هو بنبرة أشد مكراً:_لكن لو لديكِ أية اقتراحات أخرى نقضي بها وقت انتظارنا فأنا أكثر من مُرحِب بالتأكيد! والوكزة التي تلقَّاها بمعدته جعلته يبتلع عرضه فوراً! فك عُقدة شعرها وهو يُحاول الوصول إلى نهاية طوله ثم هتف بدهشة:_يا إلهي! شعرك طويل للغاية رهف! ضحكت برقة ثم عَلَّقت: _هل أعتبر هذا حَسَد؟!وإجابته كانت قُبُلات متناثرة على جميع أنحاء شعرها حتى شعرت بضعف غريب بدأ يكتنفها فاعترضت بخفوت:_توقف ساري!وتوقف بالفعل وأصوات أنفاسه المتسارعة تتخلل أذنها، حتى رفع رأسه أخيراً وهو يتناول الفُرشاة ويبدأ بتصفيف شعرها بحنان دغدغها، اتسعت ابتسامتها وهي تُغمِض عينيها باستسلام وبعد قليل تحدثت بخفوت: _منذ سنوات كثيرة لم يُصفف أحد لي شعري.لم يُعلِّق مُدركاً رغبتها في التعبير فتابعت:_كنت أذهب إلى المدرسة بشعر ضعيف ومُهمَل فيسخر زُملائي مني، حتى عَنَّفتني إحدى المُعلمات لأطلب من أمي أن تُصفف لي شعري قبل الذهاب إلى المدرسة، أخبرتها أن أمي ماتت وأن... ابتلعت غُصة مُسننة بحلقها وهي تُتابع:_وأن زوجة خالي تكون مُتعجِّلة في الصباح فلا تجد الوقت لتصفيف شعري، حينها طلبت مني المُعلمة أن أُحضر فرشاة معي يومياً.صمتت قليلاً واتسعت ابتسامتها وهي تُردِف: _كانت تتفنن كل يوم في تصفيفه بطريقة جديدة بسبب طوله، كانت تقول لي أن شعري جميل للغاية، لكن في أحد الأيام استيقظت من النوم لأجد جديلتي الطويلة مُنقسِمة إلى نصفين.توقفت يده بالفرشاة على شعرها فاستدركت: _قصته لي دينا خلال نومي حتى لا يكون أطول من شعرها. حركة صدره في تنفسه الغاضب السريع استطاعت الشعور بها بسهولة فأكملت:_ومنذ ذلك اليوم لا أسمح لأي شخص أن يمس شعري أبداً، حتى أنني لا أذهب إلى صالون التجميل وأقص أطرافه في البيت بنفسي.ساد الصمت لثوان حتى أسند هو ذقنه على كتفها وهو يهمس بأذنها: _لن يمسه أحد سواي رهف، سأُصففه لكِ يومياً وسأعتني أنا وحدي به.تمتعت هي بالحنان الصارخ من كل خلجاته في صمت، فتابع بنبرة واعدة:_كل ما آلمك منذ طفولتك سأعوضك أنا عنه.هنا فتحت عينيها وأدارت رأسها تنظر إليه مُتسائلة:_وهل ستتركني أفعل المِثل معك؟ هل ستتركني أعوضك عن كل ما عانيته؟ هل ستتركني أساعدك على نسيان الماضي ساري؟ضمها إلى جسده بقوة مُسنِداً ظهرها على صدره وهو يُجيبها: _سأتركك تفعلين ما تشائين، لكن ظلَّي معي دوماً رهف. والنظرة الشاردة التي ارتسمت بعينيها لم يلاحظها هو مُستأنِفاً تصفيف شعرها!وباللحظة التالية تعالت طرقات على الباب، ثم دخلت مَوَدَّة مبتسمة بحنان يتبعها عَمَّار بحالة مماثلة، لكن ابتسامته انمحت فوراً ليحل عبوس شديد بدلاً منها ما إن رآه يجلس خلفها، ليصيح به حانقاً وهو يشير إلى أحد أركان الغرفة:_هل عُميت عن رؤية هذه المقاعد أم ماذا؟أخفت مَوَدَّة وجهها بين كفيها تداري ضحكاتها وهي تجلس على الأريكة، بينما توردت وجنتا رهف بحياء مُطرقة رأسها لأسفل، أما ساري فقد رَدَّ باستهجان: _لم أفعل بعد، لكنني أشعر بالراحة هنا، أهناك ما يمنع جلوسي بجوار "زوجتي"؟والكلمة الأخيرة خرجت بابتسامة مُغيظة ليتقدم عَمَّار منه قائلاً بتصميم:_أستطيع أن ألغي كل شيء، وهي ليست زوجتك بعد!تظاهر ساري بالدهشة وهو يقف بمواجهته، مُعلقاً:_حقاً؟! وبِمَ تفيد الوثيقة التي أملكها إذن؟!تقدم عَمَّار منه هاتفاً بتحذير:_اسمعني أنا.. قاطعت رهف حوارهما بضعف مفتعل قائلة:_أيمكنكما التوقف قليلاً؟ لقد بدأت أشعر بالدوار.ارتمى ساري إلى جوارها يحدق بها بقلق ثم قال بسرعة:_ما بكِ حبيبتي؟ سأستدعي الطبيب!وعندما هَمَّ بالانطلاق أمسكت بذراعه قائلة بابتسامة:_لا! انتظر ساري، صرت بخير.تأفف عَمَّار مُشيحاً بوجهه بامتعاض، بينما اتسعت ابتسامة ساري مردداً:_أتختبرين مدى خوفي عليكِ يا مُشَعَّثَة؟!تعالت ضحكات مَوَدَّة المستمتعة، بينما أغمضت رهف عينيها بِحَرَج.. وساري حمحم مُدركاً اندفاعه، حينما نظر عَمَّار لهما بدهشة متسائلاً:_يا.. ماذا؟!!ثم هتف مستنكراً: _هل تُنادي أختي بالمُشَعَّثَة؟! أنت فعلاً أعمى!نظر ساري إليه قائلاً بِحرج:_ليس شعرها.. إنما أعني.. ثم بتر عبارته هاتفاً بنزق:_ما علاقتك أنت؟ إنه شيء يخصنا وحدنا! وقبل أن يرد عَمَّار تدخلت رهف لتغير مجرى الحديث الغريب، موجهة كلماتها إلى مَوَدَّة:_إذن هناك ضيف جديد سنتشرف به قريباً مَوَدَّة، مبارك لكما.شَعَّ وجه مَوَدَّة بسعادة غامرة وهي تقول:_لقد أفلتي من كل التعب الذي شاركتني إياه تغريد أثناء حملي بإياد، فلتستعدي إذن هذه المرة، سأرهقك!قاسمتها رهف سعادتها وهي تقول بنبرة شابها الشَجَن:_لا تعلمين كم تمنيت أن أعيش تلك اللحظات، ولا تعلمين كم تخيلت شكل إياد في مراحله المُختلفة ووددت لو كنت أعلم بوجوده حينها ورأيته رضيعاً ثم عايشت كل مراحل نموه.تَثَبَّتت نظراتهم جميعاً عليها بإشفاق، حتى أحاط ساري كتفيها بذراعه قائلاً بحنان: _أعتذر مَوَدَّة، ربما زوجتي لن تكون متفرغة، لأنني أريد الحصول على واحد أيضاً بأقصى سرعة!شهقت رهف حينما انفعل عَمَّار هاتفاً بحنق:_توقف عن وقاحتك وإلا لضربتك هنا وأمامهما!نظر إليه ساري ببرود قائلاً بتهكم: _لقد أصبحت تتفاخر بقوتك بِشدة، أتذكر أنك لم تكن تستطيع حمل لوح واحد من الأخشاب دون أن يسقط على قدمك فتظل طريح الفراش بعدها لأيام كمن أجرى عملية زرع مُخ!وبالرغم من رغبة عَمَّار بالابتسام لتلك الذكرى إلا أنه لم يفعل، لكن ساري ابتسم حقاً عندما استمع لعبارته الدَهِشَة:_ورأيت ذلك أيضاً؟! هل تمتلك آلات تصوير بظهرك أم ماذا؟!وقفت مَوَدَّة مُخاطبة زوجها:_ها قد اطمئننا على رهف، هيا بنا عَمَّار، اقترب موعد فحصي، لا أريد أن أتأخر.زَفَر بضيق وهو ينظر إلى ساري الذي يتمسك بأخته بقوة، قبل أن يقول الأخير باستخفاف:_زوجتك مُحقة، كما أن هذا موعد درسي الخصوصي، وأنت تعطلني عنه!"تباً لك ساري!"هَمَست بها رهف وهي تسدل جفنيها بِحَرَج واضح، وازدردت لعابها بارتباك حينما سمعت سؤال أخيها مُستغرباً:_عن أي درس يتحدث هذا السمج؟! لم تجد مفراً من الإجابة حينما نظرت إلى ساري الذي يتراقص المرح مع المكر بعينيه، ثم قالت بتوتر:_إنه.. أنا.. تحشرج صوتها قليلاً ثم تابعت دون أن تنظر إلى عَمَّار: _أنا أقوم بتعليمه اللغة الإنجليزية._عفواً؟!وتعليق أخيها المُستهجن وجد الرد الهادىء من زوجها:_كما سمعت، ألم تعلم بأنها وظيفتها؟وباستنكار وجه عَمَّار كلامه إليه: _أنت لا تتقن اللغة الإنجليزية؟! أتسخر مني؟!وقبل أن ينشب شجاراً طفولياً آخر جذبته مَوَدَّة بقوة قائلة:_هيا عَمَّار! تغريد تتعجلني.ونظرة متوعدة كانت آخر ما رافق عَمَّار قبل أن يخرج بصحبة زوجته، فالتفت ساري إلى رهف التي ارتسم التوبيخ على وجهها هامساً بمكر:_هناك نقطة كنت أرغب بالاستفسار عنها قبل أن يقاطعنا أخوكِ الدكتووور، هلا وضحتِها لي من فضلك؟!كبتت ابتسامتها بصعوبة ثم رَدَّت ببرود:_لا نُقط، ولا استفسارات، ولا أسئلة طالما تستفز أخي يا ساري..وعندما ظهر الرفض على وجهه تابعت:_وإلا لا دروس على الإطلاق!اتسعت عيناه بقلق ثم هتف حانقاً:_لا دروس على الإطلاق؟! أتريدين قتلي؟! وتابع مغمغماً باعتراض:_لا أعلم لِمَ يُحارب الجميع رغبتي بالتعلُّم؟!هرولت شروق وهي تُلقي بمنشفة المطبخ من يديها مُستجيبة لصياح المرأة الغاضبة على الدوام ثم وقفت أمامها تلهث قائلة:_نعم أم هشام؟هتفت المرأة بها بغضب: _ماذا تفعلين؟ أناديكِ منذ دقائق!أكملت تجفيف يديها بملابسها وهي ترد بسرعة:_كنت بالمطبخ، أغسل بعض الصحون.نظرت لها أم هشام بعدم رضى ثم أمرتها بعجرفة:_أنهي غسلهم واتبعيني إلى سطح الدار، واحضري السكين الضخمة!عقدت شروق حاجبيها بدهشة ثم تساءلت:_لماذا؟ ماذا سنفعل؟فأجابتها المرأة بلا اكتراث وهي تجلس ثانية إحدى قدميها أسفلها:_سنقوم بذبح الخروف بالأعلى.ازدردت شروق لُعابها بقلق وهي تتساءل: _من الذي سيذبحه؟ابتسمت أم هشام ببرود هاتفة: _أنتِ من ستفعلين بالتأكيد!تراجعت شروق إلى الخلف بِضعة خطوات وهي تُشَبِّك أصابع يديها ببعضهم بتوتر: _لكن.. لكن أنا لا أستطيع.. أخاف بشدة من...صرخت بها المرأة الأكبر منها سِناً بغضب هائل:_ما بكِ يا امرأة؟ ما هذا الدلال؟ اسمعي! أنا لا أهتم أنكِ عشتِ عُمرك كله بالقاهرة مُرفهة تحصلين على اللحوم من محلات الجِزارة، هنا نحن نذبح بأيدينا وطالما تعيشين في بيتنا ستمتثلين لقواعِدنا!ابتلعت شروق اعتراضها وهي تُطأطِأ رأسها بِذُل مُستعيدة ما حدث منذ طلاقها من صلاح، فهي لم تذهب إلى الفندق كما اقترحت عليها ابنتها، بل فضلت الاحتفاظ بالأموال ولم تجد حلاً سوى اللجوء لشقيقها الذي يكبرها بخمسة عشر عاماً والذي لم يترك قريتهم بإحدى المحافظات البعيدة.وهكذا استقلت القطار مُتخيلة استقبال أخيها وأسرته لها بعد سنوات طوال لم تر أياً منهم، لتُصدم بالاستقبال البارد من زوجته التي أعلنت رفضها لاستقرارها معهم في بادىء الأمر ثم أذعنت لتوسلات زوجها بعد ذلك لتبدأ هي في ارتشاف مرارة الذل لما يقرب من ثلاثة أسابيع هنا.فزوجته لا تطيقها البتة وتُحمِّلها الأعمال الشاقة طوال اليوم بالإضافة إلى أنها علمت بحوزتها بعض الأموال فأخذتها منها بالقوة بحجة ضرورة مُساهمتها في الإنفاق بأي شكل!والآن تعيش هي ببيت أخيها مُضطرة مذلولة مُتحملة جميع أنواع الإهانة بدون مُراعاة لِعُمرها..ولا تعلم لماذا قفزت إلى ذهنها الآن صورة رهف بالتحديد! في اليوم التالي:"أنا لا أفهم ساري، لماذا تريد مني العودة إلى بيت أخي؟"ألقت السؤال والحُزن يعلو ملامحها وهي تُمسِّد بيُمناها على ذراعها اليُسرى التي بدأت بالعودة تدريجياً إلى الحركة فأسرع هو للإجابة بلهفة:_بضعة أيام فقط حبيبتي، حتى أتخلَّص من قصة شديد نِهائياً، كي أكون مُطمئناً عليكِ.ظهر عدم الرضى على وجهها فأردف برجاء: _رهف، يعلم الله أنني لا أُطيق صبراً على بدء حياتي معك، لكنني أريد أن أُنهي كل الأشياء المُتعلِّقة به أولاً.حدَّقت به قليلاً ثم ارتسمت ابتسامة ماكرة على شفتيها وهي ترد: _حسناً، سأوافق بشرط.وبدون تردد جاء رده: _أياً ما تريدين رهف.فعلَّقت هي بهدوء:_ليس الآن ساري، سأتركه لحينها، لكنك لن ترفض، أليس كذلك؟ وكانت إجابته سؤالاً آخر:_لِمَ بدأت أشعر بالقلق من شرطك هذا؟ضحكت برقة خلبت لُبُّه وهي تُجيب: _لا تقلق أبداً حبيبي.اتسعت ابتسامته وهو يعي تلقائيتها الوليدة في الحديث معه ثم علَّق:_حينما تقولين "حبيبي" هذه أكون على استعداد لفعل أي شيء تتمنينه رهف. وحينما أصبحت نظرته خطِرة تهرِّبت من عينيه بحياء وهي تُثبِّت حجابها بالدبابيس وتهتف بتوتر:_لِمَ لا تحب خالي يا ساري؟ارتسم الضيق فوراً على وجهه ثم أشاح به بعيداً وهو يهتف:_أنا لا أكرهه رهف، لكنني لا أجد مُبرراً أبداً يجعل رجل يترك ابنة أخته تعيش بمفردها بحجة الخوف عليها، وكلما تخيلت لو كان هناك غير عَمَّار من يترصدك اشتعل غيظي منه أكثر.زفرت باستسلام وهي تناديه برقة: _ساري! انظر إليَّ!وعندما نظر إليها على مضض تابعت بهدوء:_خالي تحمِّل الكثير من أجلي وكان سنداً لي لسنوات طويلة، ربما تراه أنت مُتخاذِلاً بعض الشيء، لكنني أعلم أنه قام بكل ما استطاعه.ثم أردفت برجاء:_لا أحب شعور أنك تتضايق منه.انتظرت لثوان حتى زفر بضيق وهو يعبس كالطفل قائلاً:_سأحاول تناسي ذلك الأمر.أغلقت الحقيبة التي أحضرتها تغريد من المنزل مُتسائلة بدلال أُنثَوي فِطري:_إذن، ألن تُقلني حتى منزل عَمَّار؟ أم ينبغي عليَّ العودة معهما؟وعادت الابتسامة بتأثُّره بتدلُلها ثم اقترب منها جاذباً إياها بين ذراعيه هامساً:_ما رأيك ألا تعودي مع عَمَّار وأخطفك أنا إلى مكان بعيد ليس به سوانا؟ولتُزيد في عذابه أحاطت عُنُقُه بجرأة وهي تهمس بدورِها:_أجدها فكرة رائعة حبيبي.وعندما أظلمت عيناه ومال مقترباً تراجعت فجأة مُبتسمة بمكر وهي تحمل الحقيبة قائلة بنفس الدلال:_لكنك أنت من اخترت، فلتتحمل إذن! عضَّ على شفته بغيظ شديد ثم اختطف منها الحقيبة بغضب مُشيراً بيده إلى الباب هاتفاً: _تفضَّلي يا مُدللة!بعد أيام:دَقَّ عاصم على سطح المكتب بِغيظ ثم وضع كفيه على وجهه هاتفاً:_يا إلهي! ألن ننتهي من تلك القصة؟ هل أَصْبَحَت هوايتك أم ماذا؟خاطبه ساري بهدوء قائلاً:_يا عاصم اسمع أنا...قاطعه بحنق شديد صائحاً:_ماذا أسمع ساري؟ أتريد بالفعل إقامة حفل زفاف للمرة الثالثة؟! أنا بحياتي لم أر مُطلقاً رجل يقيم ذلك العدد من حفلات الزفاف على نفس المرأة. زفر ساري بضيق شديد وهو يُصيح به:_يا ابني اسمعني، تلك المرة لن يكون حفل ضخم مثل سابقيه، سيكون تجمُعاً بسيطاً يضم أقرب المقربين فقط.ضغط عاصم أسنانه بغيظ مُتسائِلاً:_ألم تتعظ ساري؟! لِمَ لا تؤمن أن حفلات الزفاف بالنسبة إليك هي فأل سيء؟ رهف بالفعل زوجتك، فلتأخذها ولتذهبا إلى بيتكما وتُجَنِّب نفسك وتُجَنِّبها الفضائح وتُجَنِّبني أنا تخطيطاتك التي لا تنتهي والهرولة خلف مصائبكم بعد كل زفاف! ابتسم ساري بمُهادنة وهو يُعلِّق:_إن شاء الله سينتهي على خير هذه المرة..ثم أردف بِشَك:_أعني.. أتمنى أن ينتهي على خير هذه المرة!مط عاصم شفتيه بعدم اقتناع وهو يسأله: _إذن ماذا تُريد سيادتك "هذه المرة"؟ هل أقوم بدعوة قاتل مأجور أم تِنينَ مُجَنح إلى حفلِكم ليُضيف بعض الحركة والإثارة والمتعة؟نظر له ساري بامتعاض هاتفاً:_لا يا خفيف الظل، أنا اتفقت مع عَمَّار على إقامة الحفل ببيته في الأصل، كل ما عليك فعله أن تجعل خطيبتك المُبَجَّلَة تُقنِعها بالذهاب معها إلى حفل ما في نفس الوقت. حدَّق به عاصم بدهشة ثم صاح:_يا إلهي! أتريد ألا تجعلها تحضر حفل زفافها؟ لقد جَنَحت أفكارك بعيداً هذه المرة حقاً!عض ساري على شفتيه بغيظ وهو يهتف به: _يا عاصم ركِّز معي قليلاً، أريد أن أُرتب لها نوعاً من المفاجأة، هي لا تعلم بذلك الموضوع من الأساس. ظهرت علامات الاستيعاب أخيراً على وجه عاصم ثم رد: _فهمت، اعذرني أنا لي خبرة سابقة مع مفاجآتك وهي ليست دائماً بتلك الشاعرية!ابتسم ساري باستفزاز وهو يرد:_لايزال طريقك طويلاً جداً لتتعلم مني!رمقه عاصم بضيق وهو يسأله:_إذن ما هي الخطة الجديدة؟التمعت عينا ساري بمكر وهو يُجيبه:_سأخبرك!"هُناك حالة أخرى بعد دكتور حمزة."نظر حمزة إلى مساعدته بضيق، فقد كان يستعد للعودة إلى المنزل والحصول على بعض النوم الذي يهرب به من عينين خضراوتين لا تتركانه ينعم بأية أفكار هادئة._أدخليها رنا ولتكون الأخيرة لليوم.شرد بأفكاره إلى مُقتحِمة عقله والتي لم يعلم عنها شيء منذ أن أفضى إليها بأشد أسراره ألماً، ربما لاتزال غاضبة منه، ربما تعاطفت معه لكن ذلك التعاطف لم يُغير من نظرتها إليه كضارب للنساء!لكن أفكاره البائسة حَلَّقَت بعيداً فجأة مع اندفاع الباب وانطلاق أكثر صوت يتمنى سماعه هذه اللحظة بهتاف:_ أنا حقاً أريد رفع شكواي إلى مدير هذا المركز، لقد أُصيبت عيني منذ بضعة أسابيع بالتهاب فوَصَفْت لي نوعاً ما من القطرات لينتهي الالتهاب فوراً ثم يعود الآن بصورة أشدّ!واقتربت منه تميل على مكتبه مُشيرة بسبابتها إلى عينيها هاتفة:_انظر!ليرد بخفوت على ثورتها المُصطنعة غارقاً بِحقول عينيها:_أنا بالفعل أنظر! حمحمت بخجل مُتظاهرة بالحنق وهي تهتف:_أنا أفهم حركات الأطباء تلك، أردت أن تجعلني أُدمن تلك القطرات ولا أتوقف عن شرائها، ربما تذهب بعض أرباح بيعها إلى أحد أصدقائك في النهاية، أليس كذلك؟هنا هب واقفاً بدهشة مُفتعلة هاتفاً:_مهلاً مهلاً! لِمَ تُصيحين بي بهذا الشكل؟ أنا قد وصفت لكِ علاجاً لحالتك ونجح، انتهينا!، ما يحدث بعد ذلك ليس من مسئوليتي، هو إهمال منكِ لا أكثر!ثم مال مُحدِّقاً بعينيها قائلاً:_لا ذنب لي أنكِ لا تقدرين قيمة تلكما العينين!وتوقفت عن التظاهر.. فتوقف هو؛ وتوردت وجنتاها.. فاتسعت ابتسامته هو؛ولمَّا نضبت كلماتها.. تحدث هو:_إذن يا آنسة سارة، هل أفهم من زيارتك أنكِ تراجعتِ عن كراهيتي؟هزت رأسها نفياً بسرعة وهي تهتف:_أنا لم أكرهك أبداً دكتـ...قاطعها مُبتسماً: _حمزة!عضت على شفتيها بحرج وهي تعي نظرته المُتأملة ثم تحدثت:_أنا لم أكرهك أبداً حمزة، لكنني نشأت على احترام المرأة وعدم استخدام العنف معها، لذا فلم أتقبَّل كونك ضربت زوجتك السابقة.هتف مُدافِعاً بلهفة:_لكن.. فقاطعته هي مُبتسمة بهدوء:_لكن أنا فهِمت حمزة، أُدرك معنى الفُقدان جيداً وأشعر بما شعرت أنت به من صدمة وألم وحسرة.لثوانِ لم يجدا سوى النظرات المُتبادلة كي تُعبر عما يشعره كلاهما، حتى حمحمت هي بحرج مُستدعية حنقاً زائفاً:_إذن يا دكتور حمزة، هل ستصِف لي نوعاً أفضل من تلك القطرات السابقة؟ أم أبحث عن طبيب رمد آخر؟ابتسم هو مُجيباً إياها بخفوت:_لا طبيب رمد آخر بعد اليوم آنسة سارة، عيناكِ لي وحدي وسأُشرف على علاج ذلك الالتهاب بنفسي، لن أسمح له بتكدير صفو حبيبتاي أكثر من ذلك.تهرَّبت بعينيها منه وهي تتشبث بحقيبتها لا تستطيع التحكم في ابتسامة مُلِحَّة عاشقة ثم قالت:_إذن سامحتك، لن أثير المشاكل هذه المرة، إلى اللقاء!وكعادتها دون انتظار ردَّاً رحلت!لكنه لم يندهش تلك المرة، لقد أصبح يفهم كل طِباعها، وقريباً لن تستطيع منه هرباً..المجنونة، الشقية، الرائعة، حبيبته الأولى والأخيرة! "لا أفهم عاصم !إنها الشقة الثالثة التي نتجول بها بنفس البناية؟ ! أستترك الهندسة وتبدأ بامتهان المقاولات أم ماذا؟"هتفت سما بتلك العبارة وهي تتأمل أركان الشقة حديثة البناء والتي تُشبه سابقتيها، فحينما مرَّ عليها عاصم اليوم بالعمل أخبرها أنه يريد عرض "شيء هام" عليها، ليبدأ في المرور معها على شقتين حديثتين البناء وها هما الآن بالثالثة!ظهر التفكير على ملامحه ثم قال بِنبرة متآمرة: _أتعلمين أنها فكرة ممتازة كي أتخلص من ساري وتخطيطاته؟! إلا أنها للأسف ليست صحيحة، أنا أريد أن أعرف رأيك أنتِ في تلك الشقق اللاتي شاهدناها. ضيقت عينيها وابتسمت ببرود وهي تسأله:_أنت تعلم بتماثلهن تماماً، أليس كذلك؟رد بنفاد صبر:_أعلم ولازلت أريد رأيك.حملقت سما في الأسقف والجدران الخالية وهي تهز رأسها باستحسان قائلة:_مساحتها واسعة، والغُرَف مُنظمة، والمنظر من الشرفة رائع.ثم عادت بنظراتها إليه مُتسائلة:_هل ستفتتحون فرعاً آخر للشركة؟اقترب منها مُبتسِماً بحب مُجيباً سؤالها بهدوء:_الشقة الأولى لأمي، والثانية لأبي ولمريم، والثالثة لنا أنا وأنتِ.فغرت فاهها دهشة ثم هتفت:_كيف؟اتسعت ابتسامته مع الذهول المُتقافز من عينيها وهي تهتف:_كيف؟ أمي لديها شقة، وأبوك ومريم لديهما شقة، و...كيف؟حدَّق بعينيها مُخاطِباً إياها بحنان:_إنها فكرة أبي بالأساس عندما علِم أنني لا أجد حلاً لتلك المشكلة، فأمي مُتشبثة بكِ وأنتِ لا تودين مُغادرتها ولا نستطيع تركها وحدها، وأبي أيضاً لا أستطيع تركه بمفرده تماماً ومريم لاتزال صغيرة، فاقترح هو أن نبحث عن بناية حديثة البناء تضمنا جميعاً. أخيراً ابتسمت وهي تقفز بفرحة شديدة صائحة: _أنت تمزح عاصم أليس كذلك؟ لقد ظننت أنه لا يوجد حل لتلك المُعضِلة على الإطلاق، حتى اعتقدت أننا سنظل إلى الأبد مخطوبين فقط.عقد حاجبيه بضيق هاتفاً: _أبعد سيرة الزفاف التي لا ينفك ساري يحدثني بسواها منذ أشهر لا أحصل على واحد؟! بالطبع سنتزوج وسنقيم حفل أفضل من حفلهما، بل وسينتهي بالنهاية الطبيعية: دون كوارث..و العروس للعريس!تعالت ضحكاتها التي أصبح لا يُطيق يومه دون الاستماع إليها، ثم اقتربت هي منه مُبتسِمة بمكر هاتفة برقة:_عاصم، أود أن اعترف لك بشيء.اتسعت ابتسامته فوراً وهو يُحمحِم قائلاً بِزهو: _أعلم طبعاً سما! اعترفي وكُلِّي آذانٌ صاغية.شبكت أصابعها ببعض بتوتر وتوردت وجنتاها ثم هتفت بخفوت: _أنت لم تعُد عديم الإتيكيت!انمحت ابتسامته فوراً وقبل أن يُعلِّق كانت هي تتجاوزه بضحكة عالية:_هيا عاصم سنتأخر على أمي!بينما وقف هو مكانه للحظات يتراقص الغيظ على وجهه ثم اتجه إلى الخارج متمتماً:_لن تهدأ ضئيلة القامة حتى تُصيبني بمرضٍ ما!"ماذا تعني سامح؟ أليس هناك أية وسيلة؟"صاح بها شديد بغضب هائل بالمُحامي الذي شعر بالغيظ وهو يرد:_أية وسيلة شديد بك؟ الوثائق كُلها مُثبتة وليست بها ثغرة واحدة أستطيع الانتفاع بها، لا أفهم حتى الآن كيف تحتفظ بمثلها بغرفة مكتبك؟صاح شديد بحنق مُوَبِخاً المحامي:_هل أتيت إلى هنا كي تتساءل عن سبب احتفاظي بها بمكتبي أم لنرى حلاً لتلك الكارثة؟نظر له المحامي ببرود ثم رد بهدوء مُشدِدَاً على كل كلمة:_لا يوجد حل سوى أن تتمنى أن أستطيع الفوز بحكم مُخفف.اتسعت عينا شديد بذهول تحول إلى غضب بالتدريج هاتفاً:_أتعني أنني سأقضي فترة من حياتي بين هؤلاء اللصوص والمجرمين؟هز المُحامي كتفيه بلا اهتمام وبدأ بلملمة أوراقه مُجيباً:_يبدو كذلك شديد بك، فعلى العكس من كل مرة لن أستطيع أنا أو غيري إخراجك من هذه المُصيبة.ثم هبَّ واقفاً وانصرف دون كلمة إضافية.. أما شديد فقد ظل مكانه مُحملِقاً في اللاشيء للحظات يحاول استيعاب وضعه الحالي...هو شديد محمود الناجي الوريث الوحيد لأحد أهم مصانع الأخشاب ومعارِضها ينتهي به الحال في السجن؟!هو شديد محمود الناجي تُنسب إليه الفتاة التي لطالما هرِب منها ومن أمها؟! هو شديد محمود الناجي يُهزم على يد من وضعه تحت قدمه طفلاً وأهانه طِفلاً وجَلَدَه طفلاً وعذبه قدر ما استطاع؟!أبعد مشواره الطويل ينتهي هنا؟!أعلى الرغم من علاقاته وصلاته ينتهي هنا؟!أبعد كل الشهرة وكل النفوذ وكل المال وكل القوة ينتهي هنا؟!مع السارقين والقاتلين وتاجري المُخدرات؟!أي عار هذا؟!"أنا لا أفهمك سما، لِمَ لا تصطحبين سارة معِك إلى ذلك الزفاف؟"هتفت رهف بهذا السؤال بحنق بينما تجذبها الأخرى إلى غرفتها مُغلِقة الباب وهي تُجيبها:_وهل أصبَحَت سارة مُتفرغة لي؟ لقد أطاح الدكتور بصوابها تماماً، منذ أن حدد موعد مع أخيها كي يأتي ليطلبها منه وهي لا تعيرني أدنى اهتمام.شهِقت رهف بانبهار وهي تتطلع إلى تلك التُحفة الفنية بغرفة سما! فأمامها وعَلَى بُعد بضعة أمتار يتدلى الفستان الأكثر روعة الذي رأته بحياتها من على الخزانة، ظلت مُحدِّقة به بذهول ثم سألت:_سما! ما هذا؟تظاهرت سما باللامُبالاة وهي تُجيبها:_إنه فستان عادي، هدية، لكنه ليس بقياساتي، أترين الطول؟!ثم تظاهرت بالاستدراك هاتفة: _أتعلمين رهف؟! ربما يجب عليكِ أن ترتديه في زفاف صديقتي الليلة!هزت رهف رأسها باعتراض وهي لاتزال مُحدِّقة به بإعجاب واضح قائلة:_لا أستطيع، يبدو باهظ الثمن للغاية، كما أنني لا أعرف أي شخص في ذلك الفرح كي أذهب بهذا التأنق.اعترضت سما بشدة مُحاولة إقناعها: _يا فتاة! لقد حضرت زفافك الأول وأنا لا أعرف به إلا عاصم وسارة وذهبت بكامل أناقتي.ثم دفعتها برفق تجاه الخزانة هاتفة:_هيا هيا! أنا سأرتدي فستاني بغرفة أمي وأنتِ ستُبدِّلي ملابسك هنا، أسرعي لأن عاصم ليس صبوراً كثيراً.ثم تركتها وخرجت وهي لازالت مكانها تنظر إلى الفستان ذات لون السماء.. بانبهار!"عُذراً يا عاصم! لماذا تذهب من هذا الطريق؟ إنه يؤدي إلى بيت أخي!"اتسعت عينا عاصم بإدراك متأخر بعض الشيء ثم حمحم مُحاولاً البحث عن إجابة فبادرت سما بابتسامة أخفت غيظها من.. ذكائه المعتاد:_أنا أريد أن أسأل مَوَدَّة عن شيء عاجل يخص العمل، سننصرف سريعاً.نظرت لها رهف بدهشة فتظاهرت بالتحدث مع عاصم بشأن البدء بتجهيز شقتهما..انشغلت رهف بتحسُس قماش الفُستان الذي لا تُصدق حتى الآن أنها أطاعت سما وارتدته بمنتهى البساطة، مع الحجاب المُلائم والحذاء اللامع ذو المقاس المضبوط أيضاً!لِمَ بدأت تشعر الآن أن هناك أمراً غير طبيعياً؟!.صعدت مع سما يتبعهما عاصم ووجيب قلبها يعلو بلا تفسير واضح، لقد رأت بعض الأضواء الرقيقة مُقترِنة ببعض الزهور مُعَلَّقين على الشُرفة من الخارج، والآن يقف ثلاثتهم على الباب فيفتح عَمَّار بأبهى حُلَّة. نظرت له باستغراب مُتسائلة:_عَمَّار! هل ستأتي معنا إلى الزفاف أم...بترت عبارتها عندما جذبها عَمَّار إليه مُقبلاً جبهتها بحنانه المعهود فأغمضت عينيها باستمتاع ككل مرة يفعلها بها._مُبارك حبيبتي! رزقكما الله السعادة!فتحت عينيها بدهشة وقبل أن تنطق وقعت عيناها عليه.. خلف ظهر أخيها يقف..بحُلَة سوداء وباقة ورود رقيقة وابتسامة عاشقة..بدأ الإدراك يغزو عقلها وهي تتطلع إلى الزينة المُعلَّقة بجميع الأنحاء، وإلى أفراد عائلتيهما الذين يتطلعون إليهما بسعادة واضحة..بدلاً من القاعة الفخمة.. كان هناك بيت أخيها الحبيب؛وبدلاً من الحضور المُتلَهِّف للثرثرة والفضائح.. كان هناك أفراد معدودين مُتأكدة هي من تمنيهم السعادة لهما؛وبدلاً من الفستان الأبيض الفخم.. كان هناك فستان رائع باللون السماوي وقعت بغرامه منذ اللحظة الأولى!لا يجب أن تفضحها دمعات فرحها الآن..أو هي حقاً لا تهتم، لا يوجد هنا من تخجل أمامه.اقترب منها بابتسامته التي تعشقها مُحدِّقاً بعينيها هامساً:_مُبارك يا زوجتي! والابتسامة اقترنت بالرد الذي لم يتوقعه:_أتعني أن ذلك الفستان يخُصني أنا؟اتسعت ابتسامته وهو يُجيبها:_الفستان وصاحب الفستان يا مُشَعَّثَة!لتُبادر هي للمرة الأولى وتحيط عُنُقه بذراعيها تُخفي دمعاتها على كتفيه، فما كان منه إلا اعتصارها بين ذراعيه وهو يُدرِك أخيراً أنها بالفعل أصبحت..له!وعندما ابتعدت هي بحياء همست:_أتعتقد أنك وحدك من تستطيع التخطيط للمفاجآت؟ استعد لمفاجأتي إذن!وغمزتها الشقية التي اختتمت بها عبارتها أرسلت الرجفة بجسده وأطلقت الخيالات الماجنة بِعقله فابتعد بعينيه عنها حتى لا يتهور أمام الجميع. بعد ثلاث ساعات:"لماذا أصررتِ على عَمَّار أن يقوم هو بإقلالنا؟"ألقى السؤال عليها ما إن استقل المقعد الخلفي بالسيارة الزرقاء إلى جوارها، فأجابته بِمَرَح مُفتعل مُخفِية توتراً هائلاً:_ألم تُحرِّض صديقك وخطيبته على اختطافي؟ سنفعل أنا وأخي المثل معك، أنا لن أترك حقي ثانية! اتسعت ابتسامته وهو يقترب منها هامساً:_أصبحتِ شغوفة بالانتقام يا رهف، لكن احذري! أنا لستُ بالخصم الهين!أشاحت بوجهها مُبتعِدة عنه قدر ما استطاعت، بينما استقل عَمَّار مقعد القيادة رامقاً إياهما بِقلق من خلال المرآة ثم هتف:_هل أنتِ مُتأكِدة رهف؟أومأت رهف برأسها إيجاباً فبدأ عَمَّار بالقيادة مُتَمتِماً بحنق:_احفظ لنا نعمة العقل يا الله!نقل ساري نظراته بين عَمَّار الذي يعقد حاجبيه ورهف التي اجتاح التوتر ملامحها بوضوح ليشعر بالقلق بدوره مُتَذكِّراً شرطها الغامض بالمشفى ومُتسائلاً بداخله:علام تنوي ؟!وعندما توقفت السيارة أخيراً هبط منها عَمَّار تاركاً إياهما وحدهما، بينما تعالى صوت تنفس ساري بغضب شديد فمدت هي يدها تتمسك بيده هاتفة بهدوء:_ساري... قاطعها بغضب:_ما الذي نفعله بهذا المكان رهف؟وإجابة على غضبه توسلته بنبرة ضعيفة: _أتثق بي ساري؟هتف بها مُتسائلاً بنزق:_ما علاقة ثقتي بك بإحضاري إلى أكثر الأماكن التي أكرهها بالعالم؟هنا كررت سؤالها بارتجاف:_أتثق بي حبيبي؟تعانقت عيناهما وهي تدرك صعوبة الصراع الذي يعانيه بينما يرفض هو ما تطلبه منه، لكنه استسلم بآخر الأمر قائلاً بضيق: _أثق بكِ رهف.شبَّكت أصابعها بأصابعه وهي تبتسم له:_هيا بنا!هبط من السيارة وساعدها على الهبوط بدورِها ثم نظر إلى عَمَّار بحنق فهتف الأخير مُدافِعاً:_أقسم حاولت إثنائها عن ذلك الجنون لكنها يابسة الرأس كعمود الإنارة! لم يُكلف ساري نفسه عناء الرد على عَمَّار وهو ينظر إليها مُتسائلاً بغضب:_والآن، ماذا سنفعل؟ردَّت بصرامة لا تدري من أين اكتسبتها أمام غضبه:_سندخل ساري، أريد الدخول إلى ذلك المنزل معك، أنت اشتريته لهدف ما على أي حال. تعاظم الجنون بعيني ساري فبادلته جنونه بنظرتها المُتوَسلة، هنا انسحب عَمَّار إلى السيارة واضعاً يديه على عجلة القيادة قائلاً:_إن أزعجك هذا الرجل هاتفيني سآتي وسآخذك منه على الفور!نظر له ساري بغيظ بينما شبَّكت رهف يديها بذراعه وهي تسحبه إلى المنزل.. حيث القبو الملعون!تطلع إلى الحقيبة الصغيرة التي أعطاها لها عَمَّار قبل انصرافه، ووضعتها بجوار الخزانة بدهشة مُتسائلاً:_أهذه ملابس لنا؟!أجابته بلا اكتراث وهي تقوم بفك حجابها أمام المرآة:_نعم!حدَّق بها بدهشة وعقد حاجبيه بغضب وهو يسألها بهدوء مُريب:_هل أفهم أنكِ تريدين السكن بذلك المكان؟ثم أردف صائحاً:_مستحيل رهف!التفتت إليه بعد أن حررت شعرها من عقدته صائحة بدورها:_أنا لم أقل أبداً أنني أريد السكن هنا، أردت فقط أن أتخلص من كل ما يجعلك عالقاً بهذا المكان، أردت أن أمحو معك كل الذكريات السيئة هنا، لِذا سنبقى هنا حتى أتيقن من أنك شفيت من عقدتك إلى الأبد.ثم أردفت بنبرة أضعف:_أنا لم أعرف منك أنت ما دث، أخبرتني والدتك، وأخبرني عَمَّار، وأخبرني "هو"، لكنني أريدك أن تفضي لي بنفسك.وتابعت متسائلة:_لِمَ اشتريته في الأصل ساري؟ ما السبب الذي يجعلك تشتري أكثر مكان تكرهه بالعالم كما قلت؟حدَّق بها والجنون يتراقص بأعينهما على التساوي..قوي لكنه ضعيف..رجل لكنه لا يزال طفلاً..حُر لكنه_هنا بالتحديد_ لايزال سجين! وهي..جميلة..فاتنة!فاتنة بشعر أسود تقف نهايته على حافة ظهرها.. بشفتين مُرتجفتين تأثراً وكأنها تُدرك أنها تقف على أعتاب أشد عذاباته ظلمة..تتحداه الفاتنة! تتحداه وتضغط على أكثر جُروحه تقيُحاً؛تدفعه للصراخ شاكياً باكياً؛وبمنتهى الجمود رادَّاً على أسئلتها كلها بإجابة مُبَسَّطة:_لأنني لا أريد لأيٍ كان أن تطأ قدمه ذلك المكان كاشفاً جروح سحق كرامتي مُحتفِلاً بصخب إذلالي! تخشبت ملامحها مع مرأى الألم على قسماته ثم تابع هو بوجوم:_أرغب بأن أعترف لكِ بشيء.تسارعت دقات قلبها وَجَلاً، بينما تحدث هو بهدوء غريب قائلاً:_يوماً ما قلتِ لي أنني لِص.عقدت حاجبيها دهشة فابتسم بحسرة مردداً بخفوت:_أنا فعلاً لص يا رهف!اقتربت خطوة فأوقفها بإشارة من كفه متسائلاً بصوت مكتوم:_أتعلمين ماذا سرقت للمرة الوحيدة بحياتي؟!كالصنم صارت حيث تقف؛كالتمثال يناظرها بعنفوان أدركت مدى هشاشته؛ ثم تخلص من سترته وألقاها على الفراش النظيف بهدوء قائلاً:_هذا هو بيت الأشباح خاصتي رهف!أردف وهو يُشير إلى الجدار المُتاخم لأحد المقاعد هاتفاً بهدوء:_إذا دققتِ النظر ستجدين بُقعة دِماء على ذاك الجدار.. تخصني! واستدار إلى العمود المُجاور للفراش بينما يَحُلّ رابطة عُنُقه بعنف مُتابعاً:_إذا دققتِ النظر ستجدين بُقعة دماء على ذاك العمود.. تخصني!وانطلق إلى الخزانة مُندفِعاً بغضب مُستخرِجاً منها أحبال خشنة، أصفاد، سلاسل حديدية و.. ذلك السَوْط!عاد إليها يرفعهم أمام عينيها المُترقرقتين بالدموع صائحاً:_إذا دققتِ النظر ستجدين بُقَع دماء متناثرة عليهم.. تخصني!فغرت فاهها بذهول تحدق في يديه المرتجفتين بـــ.. مسروقاته!_لقد سرقتهم رهف، لقد عُدت إلى هنا وسرقت أدوات تعذيبي بنفسي بعد أيام من رجوعي لأسرتي كي لا يؤذى بهم غيري!ثم ألقاهم أرضاً بقوة وبدأ بِحل أزرار قميصه ببطء لتشهق هي صدمة وهي تتطلع إلى علامة الجَلْد المُميزة على صدره بينما تابع هو يهدُر ودمعاته تنحدر بلا توقف:_إذا دققتِ النظر ستجدين آثار ضعفي وعجزي واضحة كنور الشمس لن تنمحي يوماً. ثوان من الصمت وهو يتطلع إليها بعيني صبي في الرابعة عشرة لم يرتكب ذنباً بعمره القصير سوى أنه أبرز دفاعاً واهياً أمام الطاغية..يسألها بدون كلمات ألن تنتهي معاناتي مُطلقاً؟!فتُجيبه بعينيها أنها ستقوم بكل ما يتخيل أو لا يفعل كي تنتشله من بؤرة ضياعه، كي يتحرر من ذلك القبو ولا يعود إليه أبداً..مدَّت أنامل مرتجفة تتحسس طبقات الجلد البارزة وهي لا تراها جيداً بسبب تشوش نظراتها..ثم مالت على الندبة الطولية فوق صدره تنثر قُبُلاتها الرقيقة المُختلطة بدمعاتها، أُغمِض هو عينيه لثوان أخرى ثم جذب رأسها إليه مختطفاً شفتيها مُفرِغاً كل آلامه بهما لتقرر هي الاستسلام حتى يُعلن تحرره.. وتحرُرها! ومن بين لُهاثهما المُتبادل همس أخيراً:_روحي ثائرة رهف، روحي تنتفض ثائرة فهل لديكِ لها من سَكَن؟لِترد هي بكل العشق الذي يعتمل بصدرها تجاه ذلك الرجل، الحبيب، الزوج، الفارس المنقذ:_أعشقك ساري، وأعدك أن تنسى كل ما حدث هنا، الآن وفي نفس المكان سنبدِّل ذكرياتك البشعة سوياً بأخرى تخصنا وحدنا، ذكريات حُبنا فقط ساري!وتحولت الدموع المُظلِمة بعينيه إلى دموع هائمة وهو يجتاحها بعشقه بينما هي بين يديه..ساكنة

Get In Touch

Cairo , Egypt

darr@elsayad121216.com

+01508281514