**من أجل حُبِّك أنتظر! اعطِني يدك يا صغيرة.. واسمحي لي برفقتك!اعطِني يدك يا صغيرة..ربما بقلبي وجهتك!لا تجفلي! لا تجزعي! لا تهربي أو تمنعي!نهاية كابوسك هنا؛صوتك الدافىء سيصدح بِحُبي أنا؛سارَّة اسماً وفعلاً ستكونين معي؛وحقول عينيك ستزدهر من أجلي أنا! حُرٌ كان قلبي حتى حَلَّ القدر..ولم أكن يوماً لأفكر مرتين أمام القدر!"أرجوك تامر، انتظر سأخبرك بكل شيء!" أخفت دينا وجهها بإحدى كفيها هاتفة به تتوسله بينما عربدت شياطين الغضب بوجهه بِحُرِّية تامَّة وهو يصفعها مرة ثانية يصرخ بها:_بِمَ ستخبرينني؟ أي سبب يجعلك تذهبين إلى بيت رجل آخر دون عِلمي يا حقيرة؟! ثم أردف متسائلاً بنفس الغضب:_هل تخونيني معه؟ وبالرغم من حالة الدوار التي انتابتها إلا أنها هَزَّت رأسها نفياً بقوة ومن بين دمعاتها صاحت:_لا تقل هذا يا تامر! أنا لست خائنة، لقد كنت أطلب منه أن يبتعد عنا فقط. توقفت كفه قبل أن تصل إلى وجنتها مرة ثالثة عاقداً حاجبيه بدهشة فأسرعت موضحة:_ابنة عمتي تهدده وهو بدوره يقوم بتهديد أبي.أرخى يديه تماماً وهو يقول بحنق: _لا أفهم! هلا وضحتِ لي تلك الألغاز؟!اعتدلت في الفراش مرددة بكلمات متسارعة خشية استئنافه ضربها:_ابنة عمتي التي أخبرتك أن علاقتها السرية مع طليقي هي ما سَببت انفصالي عنه، وُلِدَت بالأصل نتيجة زواج عُرفي، وتحاول منذ سنوات الانتساب إليه، حتى أنه قد تشاجر مع أبي منذ شهور ببيتنا طالباً منا الابتعاد عنه، والآن قد عاد ثانية مُعتقداً أننا نبتزه، وأنا قد ذهبت إليه كي أطلب منه أن يتوقف عن التعرض لنا، ولم أشأ إخبارك كي لا أتسبب في قلقك.ثم وقفت أمامه متابعة برقة:_لأنني أخاف عليك تامر، ولا أريد أن تتعرض للمشاكل.لكنه دفعها مرة أخرى لتسقط على الفراش هاتفاً بنزق:_مالي أنا ومصائبك أنتِ وأهلك؟!ثم أردف والدهشة تسود ملامحه:_ما هذا الهراء؟! ما هذا العبث؟! أي عائلة صاهرت أنا؟! زواج عرفي ونسب مجهول ثم تهديدات وابتزازات!تدافعت دمعاتها بسرعة وهي تتوسله:_ليس لنا أي ذنب حبيبي، أنا وأمي طالبنا أبي مراراً بأن نتخلص منها منذ سنوات، ولم يوافق إلا حينما جاء ذاك الرجل وضربه، لكننا لم نرض مطلقاً بوجودها. رَفَع سبابته أمام وجهها مُحَذِّرَاً ثم هتف:_اسمعيني جيداً، أنا لا أريد التعرض إلى الفضائح بسبب عائلتك الكريمة والمصائب الملاحقة بها، اسم عائلتي لن يُدَنَّس بسببك أنتِ! تدافعت دمعاتها الغزيرة في صمت، بينما تابع هو بصراخ أقوى:_وإياكِ أن تتجاوزي عتبة الفيلا دون إذني دينا، وإن خالفتِ أمري لن تدخلينها مرة أخرى!ونظرة اشمئزاز واضحة كانت ختاماً لتهديده إياها قبل أن يستدير عائداً من حيث أتى..وما إن خرج من الغرفة حتى وضعت كفيها على رأسها لاعنة شديد وعَمَّار..ورهف! بعد بضعة أيام:جلست سما إلى المائدة في صمت كئيب شعرت به السيدة صفاء بسهولة، وبائت كل محاولتها الحثيثة لاجتذابها إلى الحديث بالفشل.._ما به صوتك سما؟ لِمَ الانزعاج الدائم هذه الأيام؟ ألستِ سعيدة بعملك الجديد؟قالتها باستسلام طالما لم تفضِ إليها سما تلقائياً، فأجابتها الأخيرة على الفور:_لا أم عاصم، بالعكس، أنا سعيدة جداً.لم تجد السيدة مفر من أن تقول بضيق: _إذن هو ابني النابغة بالطبع! بِمَ ضايقك؟سمعت صوت الملعقة ترتكن ببطء إلى الصحن فأدركت أنها أصابت التخمين الصحيح، ولما لم ترد سما تابعت بغيظ: _أخبريني حبيبتي ماذا فعل، وسوف أعلمه الأدب. هَبَّت سما واقفة مُحررة كل حنقها الذي تكبته بصعوبة: _لم يفعل شيء، المشكلة أنه لم يفعل شيء على الإطلاق.أخذت تدور حول المائدة والغيظ لا تحتاج أمها لأن تراه فهو يعبر عن نفسه بصوتها:_أنتظر أن يجتاحه الفهم عنوة فلا يحدث، أنتظر أن ينتبه لما يشعر به أصلاً رغماً عنه فلا يفعل، هل يجب عليّ أن أقحمها في عقله إقحاماً؟! احتل الأسى ملامح السيدة مع إدراكها للتوتر الشديد الذي ساد علاقة ابنها بسما؛ربما كانت هي الأسعد بين ثلاثتهم حينما اضطرا للخطبة؛ربما في لحظة ما أرادت دفع ابنها دفعاً كي يتخذ تلك الخطوة حينما استشعرت اهتمامهما المتبادل الذي تَخَفَّى في هيئة شجارات طفولية دائمة؛ لكن ها هو ابنها سيفسد الأمر الآن!زفرت بضيق ثم قالت لها بلهجة حنونة:_اعذريه سما، ربما قد أثَّرت تجربتي مع والده سلباً به، ربما هو خائف.لتهتف سما بعصبية شديدة:_مم يخاف؟! هل سأعذبه؟! هل سأقضم عنقه؟! وقبل أن تتحدث السيدة صفاء تابعت بعصبية أشد: _هل يحتاج لإجراء بحث شامل لاكتشاف أسباب اهتمامه بي وغيرته عليّ؟ أليس الأمر بديهياً؟!ثم ضاقت عيناها وهي تضيف بلهجة متوعدة:_لكنني لن أنتظر أكثر من ذلك، وتلك الخطبة المعنوية يجب أن أفهم مصيرها!كانت على وشك إغلاق باب غرفة رهف حينما أسرع هو صائحاً: _مَوَدَّة!التفتت له متصنعة البرود دون كلمات فاقترب منها متسائلاً بضيق:_هل ستنامين لدى رهف اليوم أيضاً؟ لقد مَرَّت أيام ومنحتك الوقت كي تهدئي، ألازلتِ على عِنادِك؟! أخفت حنقها بقوة وكَتَّفَت ذراعيها مُجيبة إياه:_نعم سأنام بغرفة رهف، هل هناك مشكلة؟حَكَّ ذقنه بِحيرة ثم قال عابساً:_هناك حفل زفاف يخص أحد معارفي بالغد، هل ستأتين معي أم أذهب مع حمزة؟ابتسمت بتهكُّم ثم قالت بهدوء:_لا تقلق عَمَّار، لقد دَرَّبْت نفسي كثيراً على فصل غضبي منك عن واجباتي الاجتماعية، لِذا سأحضر بالتأكيد!زفر بغيظ ثم رد بنبرة عاتبة:_لم أعتد منكِ ذلك الكلام المُبَطَّن مَوَدَّة.وبالرغم من الندم الذي شعرت به بسبب تسببها في إيلامه، فإنها تغاضت عنه بإصرار قائلة ببرود:_اعتاده إذن!فقد هدوئه على الفور هاتفاً بسخط: _أكل هذا من أجل عودة ذلك السَمِج؟واستعرت عيناه بغضب شديد متابعاً:_بعد أن ظننت أنني تخلصت منه وأنها ستعود إليّ ها هو يُخرِّب حياتي ويهدد بقائها معي! وعندما جَزَّ على أسنانه بغيظ انتبهت هي إلى حقيقة الأمر، فهتفت بلا وعي:_عَمَّار!نظر لها قائلاً بنزق: _نعم؟!ترددت لوهلة إلا أنها سألته بِحَذَر:_هل.. هل تغار من ساري؟ضاقت عيناه بسرعة وانعقد حاجباه، ثم صاح غاضباً:_وكيف سأغار منه يا أستاذة؟ إنها أختي التي يحب، بالطبع لا أغار!ولم يستطع الكذب يوماً؛وتهرُّب عيناه منها قدم لها تأكيداً لا تحتاجه أكثر؛لذا فقد رددت فخفوت شابته الدهشة:_يا إلهي! أنت حقاً تغار منه! أنت تغار عليها منه!هَزَّ رأسه رفضاً بسرعة وقال مشيحاً بوجهه عنها: _لا أغار! لكن.. هل نسيتِ فعلته بها؟أمعنت النظر بعينيه وهي ترد ببساطة:_لم أنس، وهي لم تنس، وهو أيضاً لم ينس.. لذا هل سنظل ندور في تلك الدائرة إلى الأبد؟ثم تابعت بأسى:_هل تعتقد أنها طالما نجحت في عملها وتجاوزت صدمة ما حدث منذ أشهر صارت لا تحتاجه؟! وأطلقت تنهيدة حارَّة ثم أضافت برفق:_أنت مخطىء عَمَّار، رهف_أختك التي تحب_ تعشق هذا الرجل ولم تتخطى ذلك العشق يوماً.عندئذٍ ظهر الاعتراض الصارخ على وجهه فأردفت بِحزم:_كما أنك متأكد أيضاً من صدق مشاعره بنفسك، أنت من أخبرتني بذلك.واقتربت خطوة منه مُضيفة برجاء:_لماذا لا تدرك أن راحتهما التامة لن يحصل أحدهما عليها إلا بوجودهما سوياً؟!فما كان منه إلا أن صاح بها حانقاً:_أية راحة تلك التي ستحصل عليها هي في حال عودتها إليه بعد فعلته؟! أما هو فعسى ألا يجد راحته أبداً!ولم تزد في نقاشها معه عند هذه النقطة؛ بل منحته نظرة خيبة أمل قبل أن تتمتم بحسرة: _لا فائدة، ولن تشعر بامرأة عاشقة! وقبل أن يدافع عن نفسه تراجعت إلى الغرفة قائلة: _تصبح على خير عَمَّار!وحينما صفعت الباب أمام وجهه جَزَّ على أسنانه بغيظ هاتفاً بأعلى صوته:_منك لله أيها السمِج!رَفَعَت سما رأسها عن ذلك الملف الذي تسجل فيه حضور الطلاب عندما تناهى إلى مسامعها صوت الخطوات الواثقة، وعلى الفور تأففت بغيظ مرددة بصوت واضح: _يا إلهي! الطالب المجتهد ثانية!والطالب المجتهد ابتسم لها ببرود قائلاً من بين أسنانه:_كيف حالك آنسة سما؟ وببرود مماثل أجابته دون تردد:_تم تعنيفي بشدة وتلقيت جام غضبها باليوم التالي بسبب سماحي لسيادتك بدخول المحاضرة، لِذا أنا بخير!وتلاشت ابتسامته على الفور تاركاً الحرية لغيظه منها ليحتل ملامحه كاملة، ثم غمغم ممتعضاً:_لَبِئس مصيرك حقَّاً يا عاصم!ضيَّقَت عينيها وهي تقف متخصرة ثم سألته بريبة:_بِمَ تتمتم؟نفض رأسه قائلاً بلا مبالاة:_لا شيء، هل بدأت المحاضرة؟استندت بِكفيها على المكتب ثم سألته ببرود:_ألست مهندساً حسب اعتقادي؟! أي أن لغتك الإنجليزية فوق الممتازة ولا تحتاج للتدريب، وأنا متأكدة أنك تتحدثها بطلاقة أفضل من الجميع هنا، كما أن مجالك بعيد تماماً عن الترجمة، فيم تحتاج تلك الدورات يا تُرى؟عادت ابتسامته الباردة باتساع أكبر ثم أجابها مؤكداً بهدوء:_أحب أن أضيف مجالات أخرى إلى اهتماماتي، مثقف أنا وأشجع النهل من جميع أنهار المعرفة، وأؤمن بأن الإنسان يجب أن يطلب العلم بِكل أنواعه مهما كان عُمره وعمله، لِمَ يزعج حُبي للتعلم سيادتك؟!وقبل أن ترد عاجلها بتصميم:_اسمعي! أنا سأحضر اليوم رغماً عن أنف الجميع هنا، سأدخل تلك المحاضرة الآن، ولن تستطيع أية قوة منعي!لكنها_على عكس اعتقاده_ ابتسمت قائلة بلا اكتراث:_لم أقل أنني سأمنعك!عقد حاجبيه يناظرها بارتياب للحظات ثم سألها مُتَوَجِّسَاً:_هل أدخل إذن؟أشارت بإحدى كفيها إلى الممر المؤدي إلى القاعات قائلة بحماس فائق:_بالطبع تفضل، إنها في القاعة رقم ثلاثة اليوم، هيا أسرع كي لا يفوتك شيء!منحها نظرة متشككة فطالعته ببراءة أقلقته أكثر، لكنه تجاهلها والاشتياق يدفعه دفعاً إلى حيث حبيبته.. وضع يده على مقبض الباب إلا أنه ما لبث أن تسَمَّر مكانه مُحدقاً ببلاهة في..الزملاء!أطفال هنا وهناك أكبرهم لا يَتَعَدَّى السادسة، لا يجلس واحد منهم بهدوء، بينما توليهم هي ظهرها وتنهمك تماماً في رسم أحد الحيوانات على السبورة!حتى المقاعد ليست كمثيلتها في القاعة الأولى، إنما تم تبديلها بأخرى اسفنجية رخوية!ألوان متنوعة، ألعاب بكل مكان، صناديق طعام ملونة، وفوضى عارمة!تتقافز القرود حولها حتى أن أحدهم الآن يمسح ما ترسمه فتعيد رَسْمُه بصبر تُحسَد عليه!ولوهلة تخيلها تفعل المثل مع..طفله!خفق قلبه بقوة وذلك الخاطر الغريب يتردد في عقله للمرة الأولى بحياته!لقد عماه الانتقام عن أي خطط مستقبلية طبيعية تتملك من أي رجل أصغر منه سناً. البيت، والزوجة، والأطفال، والاستقرار ثم تكوين أسرة صغيرة لم يكونوا من ضمن مخططاته مطلقاً. لماذا الآن يشعر بذلك الاشتياق؟ولماذا الآن يراها بداخل ذهنه ببطن منتفخة، وشهية مفتوحة طوال الوقت، وشجار معه بلا داعِ تُفَرِّغ عن طريقه تعبها ومشقتها؟ سيتحمل، بل يتمنى ذلك!لتكن زوجته وأم أطفاله ولتفعل به ما تشاء!زفر بحرارة في نفس الوقت الذي التفتت هي فلمحته..وَلَّت الابتسامة الحنونة؛وحَلَّت النظرة الحاقدة! واتجهت إلى الباب تفتحه بعنف وتطل برأسها فقط خارجاً هامسة بغضب:_ماذا تفعل هنا؟ هل عُدت إلى سن الروضة أيضاً؟!ابتسم مدققاً في كل جزء بوجهها هامساً بالمثل:_ربما وددت أن أرى كيف ستقوم أم أطفالي بتعليمهم، هل ستتسم بالصبر مثلما يحدث الآن، أم ستكون غاضبة منهم طوال الوقت كما تفعل معي؟ اختلجت انفعالاتها الداخلية وهي تشاركه تصوراته، إلا أنها كبتتها وابتسمت بحنق واضح ثم قالت:_لا أدري، ربما لو لم تفاجئها بما يكسر قلبها لن تغضب منك كثيراً. وبِكل حُبه الصارخ تمتم ببطء:_ما عاش من يكسر قلبك يا رهف.والألم احتل وجهها وهي ترد:_عاش يا ساري، عاش وعاد مرة أخرى ربما ليكسره مرة أخرى.لكنه هَزَّ رأسه نفياً قائلاً بسرعة:_يموت إن فَكَّر بذلك، ويتمنى فرصة ثانية وسيثبت لكِ مدى عشقه، ألا تمنحينه إياها؟ثم أردف برجاء:_ألا ترحمينه وتنهي عذابه؟هَزَّت رأسها رافضة ثم قالت بحقد:_لا، لن أرحمه، وأتمنى أن يظل طوال عمره يتعذب يا ساري.اقترب أكثر فعاد شعورها بالخطر خاطفاً دقات قلبها التي تسارعت في غفلة منها، وبهمس رَد: _لا تليق بكِ القسوة يا سَكَن رُوح ساري وحبيبة قلبه، لكنني أستحقها، وسأتقبل كل ما ستفعلينه، حتى أحظى بتلك الفرصة.والعذاب حقاً كان يجتاح عينيه الآن؛ ليعود إليها السؤال الذي يؤرقها منذ أيام..بِمَ شعر وهو يُعَذَّب حرفياً على يد هؤلاء المجرمين؟!نفضت أفكارها التي تدفعها للحنو عليه وتمسكت بحقدها بصعوبة قائلة بتحذير:_لا تحضر إلى هنا مرة أخرى! هذا مكان عملي ولا أسمح بِعَبَثَك هذا به.ابتسم بمكر متسائلاً:_أين بإمكاني العَبَث إذن؟ومنحته هي ابتسامة صفراء مُعَلِّقَة: _في أحلامك!وعلى الفور تراجعت لتغلق الباب بكل قوتها أمامه..لِثوانِ ظل مكانه مستعيداً كلماتها وحتى نظراتها المغتاظة؛هل يستطيع عشقها أكثر؟!اتجه إلى الخارج عازماً على أنه سيكتفي اليوم بذلك القدر، وربما لن يتبادل الحديث مع أي فرد آخر كي يظل صدى صوتها الرقيق يتردد في ثنايا عقله.لكن سُفُن أحلامه تحطمت على رياح لسان ضئيلة القامة!"لماذا تركت المحاضرة سريعاً يا مهندس؟ المعلمة ستغضب كثيراً!"ولو لم تكن خطيبة صديقه لَرَد عليها بما يتمنى، لكنه مضطر لاحترام نفسه للأسف! منحها نظرة شريرة ثم قال:_إنها دورة للأطفال!أومأت برأسها إيجاباً قائلة باستفزاز:_أعلم، هيا عُد إلى الداخل كي لا تفوتك فقرة مسرح العرائس!اقترب من مكتبها بنظرة متوعدة ظهرت أيضاً في نبرته:_أتعلمين؟! كنت أدرك يوماً ما أنني سأقتله، لكنني لم أكن أعتقد أن السبب سيكون خطيبته المُبَجَّلَة!وقبل أن تتحول الشراسة في ملامحها إلى رد مماثل خرجت مَوَدَّة من مكتبها هاتفة بِجِدية: _أهلا مهندس ساري، تفضل إلى مكتبي!اتجه بِعَزْم خلف مَوَدَّة فصاحت سما بلهجة مغيظة:_إن خرجت رهف وعلِمَت أنك لازلت هنا ستغضب كثيراً.أمام باب غرفة مكتب مَوَّدة قال ببرود:_سأهتم بمصالحتها عندئذٍ، لا تُشغِلي بالك أنتِ!.جلس بأدب أمام مكتب مَوَدَّة فبادرته بسرعة:_لِمَ أنت هنا؟وعلى الفور أجابها بصدق:_أردت رؤية رهف.نظرت له بتدقيق قائلة:_لكنك تعلم أنها لا تريد ذلك، لقد أوضحت صراحةً أن كل ما بينكما قد انتهــ..قاطعها مُشدداً والتصميم صارخاً بعينيه وكلماته:_لم ينته، ولن ينتهي إلا بموتي.التزمت الصمت مانحة إياه الفرصة للتعبير عَمَّا يدور بداخله، فتابع بلهجة آسفة:_أعلم أن ما اقترفته بحقها كان بشعاً، لكن.. ألا أستحق فرصة ثانية أثبت بها ندمي وأسفي وحبي لها؟ارتسم بذهنها حديث أمه مع رهف عن ذلك اليوم الذي فقد فيه هذا الرجل المتمسك بصلادة غريبة ثلاثة أفراد من أسرته..ثم ارتسم بذهنها حديث زوجها عن اليوم الآخر حيث تمت إهانته على يد زوج خالتها ورجاله ثم اختطافه وتعذيبه..وها هي تشفق حقاً عليه بالرغم من فعلته القاسية بِحق رهف؛لكن الحب بعينيه لا يحتاج لتصريح؛والندم أيضاً لا يحتاج لتوضيح؛زَفَرت باستسلام قائلة برفق:_تعلم أن طريقك صعب جداً، معها، ومع عَمَّار.لكنه أومأ برأسه وقد بدا عليه التصميم أكثر مُعَلِّقَاً:_أعلم، وسأصبر.ثم أردف بصدق: _إن كنت قد صبرت تلك السنوات كلها كي أنتقم من المُجرم، فرهف تستحق الانتظار أكثر.وأردف برجاء غير منطوق:_هل..هل بإمكانك مساعدتي؟سألته باهتمام: _وكيف تريدني أن أساعدك؟واللهفة الصارخة تَغَلَّبَت على كلماته:_بإقناع رهف ألا تصدني، أو تخبريني بِمَا تريدني هي أن أفعله ويرضيها..ثم جمدت ملامحه فجأة وهو يضيف بهدوء:_أما زوجك الدكتور فبيني وبينه لقاء قد تأخر لسنوات، لكنني أخشى إن رفض ألا أتمالك أعصابي، فلا حيلة لي عندما يتعلَّق الأمر برهف.ورغماً عنها ابتسمت بحنان وهي تستشعر كم العاطفة التي ترافق اسم رهف حينما ينطقه هو، فزفر أنفاساً مرتاحاً موقناً أنه قد اكتسب زوجة أخيها في صفه..شكرها ووقف ليخرج مسروراً ببوادر انتصاره في حربه لاستعادة حبيبته، لكنه قبل أن يخرج التفت إليها قائلاً بِتحذير:_هناك شيء آخر. أعطته نظرة استفهام دون كلام فتابع بِحنق مشتعل: _ابن عمك المائع هذا إن ألقى عليها تحية الصباح فقط سوف أسدد له ركلة تُعيده إلى حيث المكان الذي تركه كي أُبْتَلَى أنا به هنا!ثم تركها بملامح مندهشة وانصرف، وبدلاً من أن يخرج من الشقة بأكملها اقتادته قدماه لا إرادياً مرة أخرى إلى حيث القاعة التي تدرس بها رهف، وقف يراقبها من خلال الزجاج الذي يتوسط الباب المغلق، وتلقائياً ارتسمت ابتسامة عاشقة على وجهه.تلاعب الأطفال وتتحدث معهم بينما ينظرون إليها بسعادة مختلطة بالانبهار؛مثله تماماً!نظرات بعضهم إليها تشي باهتمامهم وإعجابهم ببشاشتها وحنانها؛مثله تماماً!هذا الولد يقترب منها قائلاً شيئاً فتميل هي إليه لتهدي وجنته قُبلة حانية؛ رباااااه! للأسف ليس مثله تماماً!"سأستعيدك رهف، ستصيرين زوجتي ثانية، ثم أم أطفالي، وستسامحينني حتى إن طال بي الزمن في الطلب!"همس بها عازماً ثم أجبر نفسه على الانصراف بعدما اكتشف أنه لا يجد غضاضة في الوقوف هنا إلى الابد!"إلى أين أنت ذاهب مهندس ساري؟ بعد دقائق سوف تُكافيء المُعَلِّمَة الطلاب المُميزين بالحلوى، انتظر حتى تختار نكهتك المفضلة!"ولم يلتفت إلى تلك المستفزة وهو يخرج مغمغماً بغيظ:_سأقتلع عينيك يا عاصم، سأقتلع أصابعك قبل أن ترتدي حلقتها، وسأقتلع مخك الغبي أيضاً!وتابع وهو يكاد يفتك بأسنانه: _لَبِئس مصيرك حقاً يا عاصم!وعاصم كان نزقاً أكثر من المعتاد؛حانقاً أكثر من المعتاد؛يود تهشيم رأس أحدهم أكثر من المعتاد!وعلى عكس المعتاد اندفع فجأة إلى غرفة مكتب سارة التي هَبَّت واقفة بذعر بينما يصيح هو بها:_أنتِ المخطئة بالأصل!زفرت براحة وهي تجلس ثانية ببطء، ثم نظرت له بغيظ هاتفة:_وفيم أخطأت أنا؟! لأنني وُلِدت؟ ثم أصبحت مريم ابنة خالتي، ثم أصبحت أنت أخوها، لأتلَقَّى أنا بآخر الأمر كل هذا الغضب بلا داعِ!استند بكفيه على سطح مكتبها هاتفاً باستياء:_لماذا لم تقنعيها بالعمل هنا؟ لماذا تركتها تعمل بمكتب الترجمة حيث ذلك الناعم، اللامع زيادةً عن اللازم، المبتسم زيادةً عن اللازم، والمهذب زيادة عن اللازم؟!تراجعت بمقعدها وشملت ابتسامتها المستفزة وجهها بأكمله، ثم تظاهرت بالنظر في أحد الأوراق قائلة بلا اكتراث:_هل كنت سأخطفها؟ لقد عرضت عليها الأمر كثيراً وقبل حتى أن تترك عملها السابق، لكنها رفضت تماماً. ثم نظرت له بوداعة متابعة:_كما لو أنها لا تتحمل التواجد هنا بسبب شخص ما!ثم أردفت بهدوء:_بالإضافة إلى أنني أرى أن عملها مع رهف ومَوَدَّة أفضل لها كثيراً، ليس بازدحام المكان هنا، وظروف العمل مرنة للغاية. استقام هاتفاً باعتراض:_مرنة جداً بالفعل! لقد لاحظت ذلك، وهذا الذي يُدعى خالد يقدم خدماته التسويقية لها بِكرم يُحسَد عليه!وَدَّت لو أطلقت العنان لضحكاتها التي تكبتها بصعوبة؛فـــ عاصم الذي تواجهه الآن ليس أبداً كما عهدته؛الغيرة تندلع بعينيه وهو يمنع نفسه من التفوه بها؛ الحب يصرخ بنظراته وهو يمنع نفسه من الاعتراف به؛ والمسكينة منذ أشهر تنتظر!تسلَّحَت بالبرود وهي ترد: _ لا أفهم ما مشكلتك أنت وصديقك مع خالد هذا، هل يعيبه أنه بشوش، خفيف الظل، مهذب، يتقن طريقة التعامل مع النساء؟!ثم اتسعت عيناها بنظرة مغيظة وهي تضيف متعمدة إغضابه:_أو هل يجب عليه أن يكون متأخر الفهم، عابس الوجه، قليل الذوق مثلاً؟! انتفخت أوداجه حتى أنها شعرت ببعض القلق، إلا أنه سرعان ما هدَّأ نفسه بتصميم، ثم رَفَع سبابته بوجهها آمراً:_اسمعي سارة، أنتِ ستحاولين إقناع سما بترك العمل لدى رهف بأي شكل، ثم ستقنعينها بأن تعمل بشركتنا على الفور.ورغبتها بإثارة استفزازه هرولت عائدة على الفور، فابتسمت متسائلة:_وإلا؟!ضاقت عيناه وهو يجيبها بإصرار:_وإلا لن أهتم بأي شخص وسوف أجبرها على العمل هنا بأي طريقة.نظرت له شزراً ثم عوجت شفتيها بامتعاض متمتمة:_رجال كهف، أنت وصديقك رجال كهف لا تدركان كيفية التعامل مع الرقيقات مثيلاتنا! ثم وقفت ببطء ترتدي حقيبة يدها قائلة ببرود: _على كل حال لا أعتقد أن مكان عمل سما يخصك بأي شكل، على حسب آخر معلوماتي أن خطبتكما بالأصل مزيفة، وأنها رفضت عرض التضامن الاجتماعي الذي قدمته أنت لها في هيئة طلب زواج يصدر حقاً عن شخص عديم الإتيكيت مثلك.وتجاوزته إلى الباب مرددة بصوت قوي:_لِذا دعها وشأنها، ربما تقابل شخصاً مهذباً يدرك الطريقة المُثلى التي تُعامَل بها الفتاة.وعند الباب التفتت إليه بنظرة شامتة بوضوح قائلة:_استأذنك عاصم، سأذهب لأقابل صديقتي، وسأوصل لها تحيتك. ما إن هَمَّت تغريد بفتح الباب الداخلي كي تخرج حتى تعالى نداء والدها من خلفها، انتابها توتر هائل لكنها استدارت إليه قائلة بهدوء ظاهري:_نعم أبي؟ اتجه إليها بخطوات وئيدة تزامنت مع تسارع ضربات قلبها، وعندما توقف أمامها سألها بهدوء:_إلى أين أنتِ ذاهبة؟ لم تستطع النظر إليه فدارت بعينيها في أرجاء البهو مُجيبة إياه بخفوت:_أشعر بالضجر، لِذا سأتجول بالسوق التجاري القريب، ربما سأبتاع بعض الـ.. قاطعها غاضباً:_أتخدعينني يا تغريد؟! أعلم أنكِ ستذهبين إلى أخيكِ الأبله والحشرة التي فَضَّلها علينا.اجتاحها حنق هَدَّد بفقدانها تماسكها المعتاد، لكنه تابع صائحاً: _هذا الأحمق انسيه تماماً، لم يعُد لكِ أخ، أنا شخصياً اعتبرت أنه مات يوم ساهم في فضحي على الملأ. رَفَعَت تغريد رأسها إليه ثم قالت بتهذيب:_لا أبي، أخي عَمَّار لم يمُت، وليحفظه الله لي ولزوجته وابنه..صمتت للحظات ثم تابعت مؤكدة:_ولأختنا!اتسعت عيناه بدهشة فأردفت بقوة:_رهف أختي أنا أيضاً يا أبي، هي أختي الكبرى، وأنا لن أنكر وجودها أو صلتي بها لأنك تفعل.وقبل أن يتخلص من دهشته أضافت بثقة:_تستطيع منعي من الذهاب إلى إخوتي، لكنك لن تقطع صلتي بهما مُطلقاً. وانتفضت حينما صرخ بها بشراسة:_لقد علمك أخوكِ الوقاحة، أليس كذلك؟! هيا اصعدي إلى غرفتك! لا خروج بعد اليوم إلا في صحبة الحارس الشخصي وإلى الوجهة التي أوافق أنا عليها!ارتجفت شفتاها بتأثر لكنها التزمت الصمت وهي تتخطاه صاعدة بحسرة إلى الأعلى!بينما هو يقف مكانه يشعر بالنيران تكاد تلتهمه..الأمور كلها تنفلت من سيطرته؛تتوالى المصائب ولا يستطيع إيجاد حلول لها قبل ظهور المزيد؛وبينما كان منذ شهور يرفض صفقات مربحة لكنها لم تكن ترقى لمستوى تطلعاته؛الآن التجار هم من يتخلوا عنه ببساطة حتى أنه اضطر لبيع بعض الممتلكات كي يُدبر أمر اتفاق جديد!"شديد!"التفت إلى زوجته التي تتجه إليه بغضب ما لبث أن أدرك سببه مع سؤالها التالي:_هل قمت ببيع الفيلا الجديدة حقَّا؟! وبجمود أجابها على الفور:_لقد فعلت.صرخت به بثورة: _كيف؟! كيف تقوم بهذا دون استشارتي؟! كيف تفرط بها بعد أن انتقيت كل جزء بها بنفسي؟! لكنه قابل ثورتها بمنتهى البرود المشوب بالسخرية مُعلِّقَاً: _وبم ستفيدنا الفيلا الغالية حينما نُعلِن إفلاسنا تماماً؟! شحب وجهها بلحظة قبل أن تسأله بِحَذَر: _عن أي إفلاس تتحدث شديد؟ثم تابعت بتوجس: _الوضع ليس على تلك الدرجة من السوء، أليس كذلك؟! لكنه اقترب منها هاتفاً:_بل أسوأ يا نهال! أسوأ مما كنت أتصور أن يحدث لي يوماً.وبمنتصف البهو وقف يصيح بكل قهر:_أنا.. شديد الناجي، يقوم أكثر من تاجر بِفَض اتفاقاته معي خلال بضعة شهور دونما تردد بعد أن كانوا يتوسولنني كي أوافق على التعامل معهم!ثم أضاف هادراً: _وأعتقد انني قد أخبرتك من قبل، لكنكِ لا تهتمين بالأصل سوى باحتياجاتك فقط!واتسعت ابتسامة مقيتة على وجهه وهو يضيف بخفوت:_لكن في الواقع نحن نتعرض لكارثة محققة يا نهال، وإن لم أنجح في إنقاذ الاتفاقات الحالية، سوف ينتهي أمر تجارتي إلى الأبد! رحل آخر طالب بعد انتهاء موعد الدورة لليوم فأغلقت رهف الباب بعد انصرافه وعادت إلى سما وسارة اللتين تضعان يديهما تحت وجنتيهما في إعلان واضح عن البؤس والكآبة..بينما تَوَلَّت سارة بداية الحديث قائلة: _لو تتبعين نصيحتي وتخبرينه أنكِ تريدين إنهاء الخطبة سيعترف!التفتت سما إليها بِحِدَّة هاتفة باستنكار: _وهل سأجذب اعترافه تحت التهديد يا سارة؟هَمَّت رهف بالتحدث إلا أن رنين هاتفها ارتفع في نفس اللحظة فاتجهت إليه قائلة:_هل بإمكانكما أن تخفضا من صوتيكما حتى أجيب الهاتف؟وما إن طالعت الاسم حتى اختلست النظر إلى سارة ثم رَدَّت بصوت عالِ:_كيف حالك حمزة؟ توترت ملامح سارة على الفور وهي تشيح بوجهها بعيداً عن مرمى نظرات رهف التي تابعت حديثها الهاتفي: _بخير، هل هناك ما حدث؟أجابها حمزة بينما أصوات ضجيج السيارات تعلو حوله:_لا، في الواقع لقد هاتفت عَمَّار ولم يجبني، وقد ترك لي رسالة نصية يخبرني برغبته بلقائي لأمر هام، هل أنتم جميعاً بخير؟عقدت حاجبيها مع انتباهها للأشخاص الذين دخلوا لتوهم إلى المكتب، بينما هَبَّت كلا من سارة وسما واقفتين بقلق..رَدَّت على الفور بتوتر:_نحن بخير حمزة، لكنني الآن أنا بالمكتب ولم يهاتفني عَمَّار منذ الصباح، اليوم يقوم بإجراء بعض عمليات تصحيح البصر و...لكنها بترت عبارتها مع ملاحظتها بدأ سما بالتحدث بِحدة مع أحدهم..._ماذا هناك؟سألها حمزة فأجابته بِوَجَل:_لا أعلم حمزة، هناك ثلاثة أفراد دخلوا المكتب للتو ويبدو أن هناك مشكلة ما، إلى اللقاء! جاؤها رده على الفور:_لا تخافي، أنا بالقرب من المكتب، في طريقي إليكِ وإن حدث شيء يثير القلق اجمعي الجيران حتى أصل.بخطوات حاولت إظهار بعض الثقة بها اتجهت إلى هؤلاء الأشخاص متسائلة بهدوء:_عفواً، كيف بإمكاني خدمتكما؟رَدَّ أحدهم بعصبية شديدة:_لماذا هذا الإزعاج طوال الوقت؟ لا نستطيع التمتع بالهدوء أو النوم بسبب ضجيج أصواتكم!اندفعت سما صائحة به:_عن أي إزعاج تتحدث يا هذا؟!جذبتها رهف برفق من ذراعها هامسة: _اهدئي سما!ثم اتجهت بنظراتها إليهم مرة أخرى متسائلة: _بِمَ أزعجنا حضراتكم؟ليهتف رجل آخر بها بخشونة: _من تكونين أنتِ؟ وأين هو صاحب هذه الشقة؟كَتَّفَت ذراعيها قائلة بِفخر تشعر به حقاً:_أنا أخت الدكتور عَمَّار صاحب الشقة، ومديرة هذا المكتب.والتعليق جاء من الرجل الأول متهكماً:_إذن اتصلي بأخيكِ هذا على الفور، لن نتحمل هذه الضوضاء إلى الأبد، ولن ننصرف من هنا حتى نتحدث إليه شخصياً.هَمَّت بالرد حينما سمعت صوت سما القلِق:_ماذا بكِ يا سارة؟ لماذا شحب وجهك هكذا؟التفتت تنظر إلى سارة لينعقد لسانها بحلقها؛ فالفتاة تقف خلفها تماماً متشبثة بذراع سما الأقصر منها قامة؛زائغة العينين؛شاحبة الوجه؛أطرافها ترتجف بصورة ملحوظة!وأدركت رهف أن سارة عادت الآن إلى ذلك اليوم الذي فقدت فيه نصف أفراد أسرتها؛وبالرغم من خطورة الموقف الواقع عليهن جميعاً فإن شفقتها تجاهها أخذت تزداد بسرعة حتى شعرت بالرغبة باحتوائها بأحضانها..بضعة مرات هاتفت عَمَّار لكنه لا يجيب، وثلاثة أشخاص يجلسون أمامها والتهديد بعيونهم واضح بطريقة مبالغ بها!"حمزة!"هتفت بها وهي تقف فجأة مع دلوفه المندفع إلى المكتب، لكنه اتجه بنظراته إلى الرجال الذين استقاموا والتحفز بادِ عليهم بشدة وهتف بهم بجمود: _ماذا هناك؟ ومن تكونون أنتم؟والإجابة جاءت من أحدهم بحنق:_نحن نقطن هذه البناية، كنا نعيش في سلام، والآن لا نستطيع النوم ولا الخلود للراحة بسبب هذا الهراء. وقبل أن يرد حمزة استأنف آخر بغضب:_لا نريد هذا الضجيج في البناية، لسنا بصدد تحمل وجود مدرسة هنا. صاحت سما بهجوم وهي تنظر إليه نظرة قاتلة:_أي مدرسة يا... لكن حمزة قاطعها بتهذيب:_انتظري يا آنسة من فضلك! واتجه بحديثه إلى الرجل الأول متسائلاً بهدوء مستفز بعض الشيء:_هل أنتم من الشرطة أو ما شابه؟ لم يرد أحدهم فعاجلهم بصرامة:_إن كانت الإجابة بــــ"لا" فالأفضل أن تنصرفوا جميعاً قبل أن أطلبها لكم بنفسي، نحن نملك جميع التصاريح لإنشاء ذلك المكان، وكل شيء هنا قانوني تماماً.وصياح الرجل الثاني اندفع بوجهه: _سوف نقدم شكوى.ليبتسم حمزة بلامبالاة قائلاً: _أسرعوا إذن! فمواعيد العمل الرسمية على وشك الانتهاء!ثم أردف بتحذير:_وإياكم أن تطأ قدما أحدكم هذه الشقة مرة أخرى!وعندما تأكدت من انصرافهم جميعاً سمحت لأنفاسها أخيراً بالخروج من صدرها، ثم قالت بعد برهة:_يا إلهي! لا أعلم كيف أشكرك يا حمزة، لقد كدت أموت رُعباً.لكنه قال ببساطة:_اعتادي على إزعاج الجيران رهف، واتخذي احتياطاتك جيداً، شددي على التزام الطلاب بالهدوء حتى لا يُكرروها.أومأت برأسها بالموافقة في نفس اللحظة حيث ظهرت سما من أحد الأركان هاتفة: _سأبتاع لها بعض العصير.وقبل أن تخرج من الشقة هتفت:_شكراً دكتور حمزة.وتمتمت بغيظ:_بالرغم من أنني كنت أستطيع تلقينهم درساً لن ينسونه مطلقاً!ولم يستمع هو إلى تمتمتها وهو يلاحظ وجود سارة بأبعد ركن بصالة الاستقبال؛أو..ربما قلبه هو من شعر بوجودها!ازدرد لُعابه هاتفاً بحبور:_كيف حالك يا سارة؟ رَفَعت عينيها المتوترتين إليه قائلة بخفوت: _بخير دكتور.وعلى الفور لاحظ حالتها الغريبة فنظر لرهف متسائلاً بقلق:_ماذا بها؟هَزَّت كتفيها مرددة بأسى: _لا أعلم، ما إن دخل هؤلاء الرجال حتى انتابها الذعر وأصبحت ترتجف بهذا الشكل!ولم يكن يحتاج إيضاحاً أكثر، ليتجاوز رهف ويتجه إلى حيث تجلس الأخرى محاولة تماسك نفسها بلا جدوى..هتفت رهف بِحَرَج: _أنا سوف أقوم بتحضير أحد دروسي بالداخل، وإن أردتما...ثم بترت عبارتها حينما جلس حمزة أمام سارة التي تتهرَّب بنظراتها منه إلى الأرض؛وتسمرت عيناها عليه هو.. لقد عاصَرَت علاقة حمزة بابنة خالها منذ البداية وحتى النهاية؛دوماً ما كان مُهذَّب، صبور، متريث، هادىء؛ كان يتحمل الكثير في صمت بينما تتفاخر هي أمام أمها بقدرتها على إجباره على تنفيذ كل رغباتها؛وحتى عندما شَبَّت الخلافات بينهما فجأة لم يُهِنها مرة واحدة؛وحتى عندما طَلَّقها بالنهاية لم يتحدث عنها بسوء بكلمة واحدة؛ لقد رأت كل المشاعر التي انتابته خلال السنوات الثلاث؛ والعشق لم يكن من ضمنهم يوماً!هذا العشق المقترن بالحنان الذي ينضح بعينيه الآن وهو يطالع تلك الطفلة ذات الستة أعوام التي لا تجد القدرة على النطق بحرف واحد تنقذ به أحبائها!زفرت بألم وهي تتراجع إلى إحدى القاعات بهدوء آملة أن يستطيع حمزة التغلُّب على كل مخاوفها!_هل انخفض ضغطك ثانية؟سألها بهدوء لترفع عينيها المرتجفتين إليه بدهشة قائلة:_ضغطي لم ينخفض من قبل.اتسعت ابتسامة رائعة على وجهه وهو يقول بمكر:_بل فعل، على درجات شركتكم، حينما دعست بحذائي الغريب على حافظة نظاراتك الفخمة! لوهلة لم تفهم مقصده، ثم ما لبثت أن ارتخت ملامحها المتشنجة فجأة، حتى شاركته ابتسامته ورغماً عنها هبطت بنظراتها إلى قدميه فتظاهر بالحنق وهو يحاول إبعادهما عن مرمى نظراتها!ضحكت برقة شديدة هددت بإنهاء حالة وقاره التي تتذبذب أمامها وحدها، ثم سألها:_لماذا أنهيتِ مكالمتنا السابقة فجأة؟الشحوب أخذ يرتحل بالتدريج، ليحل محله تورُد راق له كثيراً، لكنها حافظت على تهرب نظراتها منه قائلة بارتباك لم يكن للخوف علاقة به: _لم.. لم يكن هناك حديثاً آخر لِذا...لكنه_وعلى العكس من طبيعته_ شعر بنفاد صبره فجأة:_سارة! نظرت له بتساؤل فتابع بتصميم:_أعلم أننا لم نتعارف إلا منذ فترة قصيرة، لكنني أريد التقرب منكِ أكثر، و...ثم بتر عبارته مبتسماً بِحيرة واضحة:_أتعلمين؟! أنا لا أفهم ما الذي يحدث معي، لم أجرب كل هذا من قبل.ازداد التورد فقرر عدم التوقف:_لا أفهم لِمَ هذا الارتباك والتشوُّق والتخبط في حضرتك يا سارة.ويا لنظرته!ويا للقيمة العالية التي يضعها بها فقط بنظرته!وكل هذا هي أضعف من تحمُّلُه..لذا وقفت بارتباك قائلة: _دكتور حمزة، أنا يجب عليّ الانصراف.لكنه وقف أمامها مانعاً عبورها مخاطباً إياها بتصميم:_لن تتهربي كما عادتك، سؤال واحد هو ما أريد إجابتك عليه. نظرت له بلهفة فتابع بخفوت:_هل عدم ارتباطك إلى الآن يعني أن هناك مواصفات معينة فيمن تخططين لاستكمال حياتك معه؟لكن عيناها ضاقتا فجأة وهي تتخصر هاتفة باعتراض:_إلى الآن؟!ابتسم رغماً عنه مستغرباً قدرتها الفذة على الانقلاب من الحال إلى النقيض في لحظة واحدة، بينما رَفَعَت هي إحدى حاجبيها مانحة إياه نظرة أوضح لعينيها وهي تسأل بترقب:_هل ترى أنني تأخرت كثيراً دكتور؟هَزَّ رأسه نافياً بهدوء:_لا أعني ذلك.ثم أضاف بصوت هادىء أثار قلقها:_أقصد_ولا تفسري الأمر بأنه وقاحة مني_ أنكِ مهذبة، سليلة أسرة كريمة، خفيفة الظل، جميلة.. بعينين رائعتين حتى في حالة تعرضهما للالتهاب!وعادت كالقطة المذعورة مرة أخرى؛ وأرخت ذراعيها إلى جانبيها مرة أخرى؛وتمكن منها الخجل مرة أخرى؛بينما أردف هو:_لماذا إذن لم يسعد حظ أحدهم باقترانه بك؟!حمحمت بحرج ثم ردت:_لأنني لم أقابله بعد.وضغط هو بكل قوته مستغلاً ارتباكها:_هل يُعانون جميعاً ضعف النظر أم ماذا؟فأفلتت منها ضحكة قبل أن تتخفى بمزاحها قائلة:_لا تستطيع نسيان تخصصك مطلقاً أليس كذلك؟!ثم تابعت بهدوء:_لقد.. لقد كانت هناك بعض جلسات التعارف، والدتي تود زويجي بشدة، بينما ساري وعاصم يدافعون عن رغبتي بالتريُث حتى أتأكد من اقتناعي التام بأحدهم.وفجأة عقد حاجبيه مُعقِّبَاً:_عاصم هذا صديق أخيكِ أليس كذلك؟! فأجابته على الفور:_هو ابن خالتي أيضاً، و_نوعاً ما_خاطب سما.ثم استدركت بِغِية الإيضاح:_أعني.. ليس ابن خالتي حرفياً، هو أخ ابنة خالتي من الأب، لكنه بمثابة أخ لي، مثل ساري تماماً.وللمرة الثانية يشعر بالغيرة بسببها.. بل عليها!لكنه تجاهل ذلك الشعور متسائلاً بتصميم:_وما هو الشيء الذي سيقنعك بأحدهم؟ أشاحت بوجهها بعيداً مغمغمة برقة:_لا أعلم، أنا أنتظر. وعيناه اجتذبتا نظراتها تماماً وهو يقول:_ربما حان وقت التوقف عن الانتظار يا سارة.وعند ذلك القدر لم تقو هي على البقاء أكثر، لذا فقد تجاوزته مرددة بارتباك: _أنا.. قد تأخرت كثيراً، ووالدتي ستشعر بالقلق، استأذنك.. وهتافه باسمها أوقفها رغماً عنها، أتبعه بكلماته الحازمة: _إنها المرة الأخيرة التي سأسمح لكِ بالهرب بها، ربما سأقيدك من الآن وصاعداً حتى أستطيع إنهاء حديثي معك. ثم أضاف بنبرة مغازلة تسمعها منه للمرة الأولى: _إلى اللقاء جميلة العينين!هبطت رهف من البناية بعد أن أنهت عملها بذلك اليوم المرهق للأعصاب، لتجد سيارته تصطف أمام البوابة الحديدية تحجب المَدْخَل وتكاد تسد طريق الخروج، جزَّت على أسنانها بغضب وأسرعت بخطواتها تنوي تجاهله، لكنها لاحظت أن السيارة خالية..تلفتت حولها باحثة بعينيها عنه فلم تجده، ولا تعلم متى ارتسمت الخطة الخبيثة بعقلها، ولا تعلم أيضاً كيف واتتها الجرأة لتنفيذها..لكنها_دون تردد_ التقطت سلسلة مفاتيحها من حقيبة يدها واتجهت بخطوات عازمة إلى سيارته!وبعد قليل:خرج ساري من المحل الكبير حيث كان يبتاع بضعة ألواح من الشوكولاتة بِغِيَّة إرسالها إليها مع حارس البناية التي تعمل بها، إلا أنه توقف مبهوتاً أمام سيارته كما توقفت دقات قلبه للحظةاقترب يُحدق بسيارته الحبيبة التي تَزَيَّن سطح بابها بآلة حادة ربما، بِعبارة مُنمقة؛وبخط واضح؛"الطالب المجتهد.. أمير الانتقام!"كظم غيظه بمعجزة ما، ولم يكن ليحتاج كثيراً من الذكاء كي يدرك صاحبة تلك الفِعلة!والغيظ تحول إلى ابتسامة؛والابتسامة تحولت إلى ضحكات لينظر بعض المارة إلى ذلك الرجل المجنون الذي يضحك بمفرده بمنتصف الشارع!نظر عَمَّار إلى زوجته التي لم ينجح عبوسها المصمم وعقدة حاجبيها في التأثير على جمالها، إلا أنه مال على أذنها هامساً:_على الأقل بإمكانك إظهار الفرحة قليلاً، لا يجب أن يعتقد زملائي أنني أجبرتك على الحضور!اختلست النظر إليه ثم اتخذت قرارها فجأة، تظاهرت باللامبالاة وهي ترد عليه بهدوء:_أنا لم أُجْبَر على شيء عَمَّار، كل ما هناك أنني أفكر فيما حدث اليوم فَحَسْب.سألها باهتمام واضح:_وماذا حدث اليوم؟ أشاحت بنظرها بعيداً متصنعة تأمل العروسين ثم قالت: _شيء لن تحب سماعه، ولا يهمك بالأصل، لن يتغير قرارك بشأنه على أي حال.لكنه ابتسم قائلاً برفق: _ولماذا لا تخبريني؟ عَلَّني أُخَيِّب توقعاتك!وكأنها كانت تنتظر عبارته، فألقت كلماتها مرة واحدة وهي تبتعد عن نظراته بتصميم.. وتوجُّس:_لقد جاء ساري إلى مكتب الترجمة اليوم._ماذا؟!وعندما هَبَّ واقفاً والذهول يسيطر على ملامحه جذبت كفه لتجلسه هامسة:_اجلس عَمَّار، الناس يتطلعون إلينا!ارتمى على المقعد متسائلاً بلهفة:_لماذا جاء؟ هل قابلها؟ هل سامحته؟ هل ستتركني وتعود إليه؟ مطت شفتيها بضيق ثم قالت بتهكم:_لا لم تسامحه، ولقد طردته بنفسها، هل انتابتك الراحة؟ابتسم بزهو فعاجلته بامتعاض:_لا تفرح كثيراً عَمَّار، إما أنها ستعود إليه بآخر الأمر، أو ستظل إلى الأبد تتعذب باشتياقها إليه.عَبَس هو قائلاً بخشونة:_ربما أنتِ من تعتقدين ذلك، وربما هي ستنساه تماماً بمرور الوقت.منحته نظرة ذات مغزى ثم قالت بتشديد:_إن كانت قد أحبته حقاً لن تستطيع نسيانه مهما فَعَل ومهما طال بها الوقت عَمَّار، واسألني أنا! بدا الغيظ على وجهه مقترناً بالرفض فأضافت برجاء: _هو نادم، ويريد فرصة أخرى.هز رأسه نفياً وقال باقتضاب:_لست موافقاً، فليبحث بمكان آخر! احتدت نبرة صوتها وهي تقول:_هل يريد تأجير شقة؟! إنه يريد استعادة أختك لأنه يحبها هي.فنظر لها بابتسامة صفراء مُعَقِّباً:_أعلم، وبالرغم من ذلك لست موافقاً! ثم توقفت نظراته فجأة وتخشب كالصنم وهو يطالع تلك المرأة التي تقترب مع أحد زملائه القدامى.. من طاولتهم! _ماذا هناك؟ لماذا شحب وجهك هكذا؟!وسؤال زوجته القَلِق أخرجه من جموده فوقف على الفور قائلاً باضطراب:_لا شيء.. هيا بنا ننصرف!وقفت إلى جواره هاتفة بدهشة:_لتونا وصلنا!لكنه نظر إليها برجاء قائلاً: _هيا بنا موَدَّة أشعر بالنعاس و..."كيف حالك دكتور عَمَّار؟"التفتت مَوَدَّة إلى صاحب الصوت الرجولي لتلاحظ التوتر على وجه مرافقته، بينما رد عَمَّار بارتباك:_مرحباً! ثم أضاف بارتباك أكثر وضوحاً:_أهلاً دكتور محمد، أهلاً دكتورة رضوى، كيف حالكما ؟والاسم الذي لم تنسه لسنوات أيقظ في عقلها ذكريات مريرة، مع تفسير سهل لحالة زوجها المضطربة وفي البيت:"ألن تتحدثي معي؟" هتف بها ما إن دلفا إلى الشقة فأجابته باقتضاب: _لا.لحقها قبل أن تطرق باب غرفة رهف قائلاً برجاء: _لم أكن أعلم أنها ستحضر الزفاف، صدقيني مَوَدَّة لو كنت أعلم لم أكن لأذهب مُطلقاً.جَزَّت على أسنانها بغيظ ثم قالت بحدة:_لا أهتم!نظر لها باستنكار فتابعت بتصميم: _بلى عَمَّار، لا أهتم على الإطلاق بلقائنا بحبيبتك السابقة، ولا رغبة لديّ بإجراء هذا الحديث.اتسعت عيناه بغضب ثم هتف:_جيد!وعندما كادت أن تستدير عاد مدافعاً: _أنا لم أرها منذ أعوام.وكزته بإصبعها في صدره صائحة بشراسة:_تعني لم ترها منذ حضرت زفافها عَمَّار وبكيتها على صدري أنا عَمَّار.ولم يكد يستكمل دفاعه عن نفسه حتى أغلقت هي الباب بوجهه.. مرة أخرى!"كنتِ تعلمين أنها كانت زميلته، ومن الوارد أن يتقاطع طريقاهما يوماً ما، لِمَ البكاء الآن حبيبتي؟"قالتها رهف بمواساة وهي تربت عليها برفق، بينما مَوَدَّة تنشج إلى جوارها ببكاء غزير، إلا أنها قالت بكلمات متقطعة:_لا أدري رهف... أشعر بالألم، أشعر بالاحتراق، كلما تذكرت أنني رأيتها الليلة، وكلما تذكرت كم كان يتعذب لعدم زواجه بها، بينما أجبرته خالتي وزوجها على الزواج بي أنا.هتفت بها رهف بقوة: _لا سبب لكل ذلك مَوَدَّة، وإياكِ أن تستسلمي لتلك الأفكار الخبيثة! أنتِ قلتِ بنفسك أنه لم ينظر لها مرتين ولم يوجه إليها كلمة واحدة، وها هو يدور كالضائع بالخارج في انتظار فرصة للتحدث معك.هَزَّت رأسها رفضاً وهي تمسح وجنتيها بعنف:_لا أود رؤيته الآن رهف.ثم استدركت بغيظ: _لم يطل النظر إليها وبدت عليه المفاجأة أيضاً، لكنني لا أعلم كيف يفكر، لا أعلم ماذا يدور داخل عقله. مطت رهف شفتيها بسأم وسألتها حانقة:_ما هذا الجنون؟! أين عقلك الذي تتميزين به؟تعالت همهماتها الباكية وهي تردد بألم:_ينام تماماً عندما يتعلق الأمر بِعَمَّار يا رهف.ثم رَفَعَت رأسها قائلة فجأة:_إنها جميلة جداً، أتدرين ذلك؟!هَزَّت رهف رأسها نفياً بسرعة مجيبة إياها: _وكيف سأدري وأنتِ لم تخبريني عنها سوى اليوم؟ وما ضرك إن كانت جميلة أو..لكن مَوَدَّة قاطعتها صائحة: _لا! أنا أجمل منها كثيراً بالمناسبة!ارتفع حاجبا رهف وهي تطالعها بتوجس ثم ابتسمت قائلة برقة:_بالطبع حبيبتي أنتِ أجمل.عَبَسَت مَوَدَّة ثم قالت بنزق:_لماذا تقومين بمهادنتي؟! أنتِ لم ترينها مطلقاً كي تحكمي!أطبقت رهف شفتيها تاركة عينيها تعبران عَمَّ تشعر به..."كانت زينة الفتيات، ولقد أصابها الرجل بالجنون!"_أعتذر! لكن مَوَدَّة أولتها ظهرها وهي تستلقي على الفراش هامسة بتعب:_أرجوكِ أطفئي الضوء، أريد النوم. أغلقت السيدة سناء مدبرة شئون فيلا شديد الناجي غرفة مكتبه بعد أن دلف إليها مُساعده، وارتفع على الفور صوت رئيسه الذي يغرق في مكالمات هاتفية منذ ساعات: _ماذا هناك يا أنور؟اقترب أنور من المكتب قائلاً بابتسامة هادئة:_لقد فعلت ما أمرتني به يا بك، بعض الجيران ذهبوا إليها وتشاجروا معها، لكن.. الدكتور عَمَّار لم يكن هناك. رَفَع شديد عينيه القاسيتين إليه متسائلاً باقتضاب: _ثم..؟وبسرعة رد أنور:_ثم هددوها وتلك الفتاة التي تعمل معها، وقد أكدوا لي أنها كانت مرتعبة تماماً!لم يُعَلِّق شديد فتابع أنور بقلق:_ثم جاء رجل ما وطردهم وحذرهم، للأسف لم تكن وحدها.انعقد حاجبا شديد متسائلاً باهتمام:_أي رجل؟وأجابه مساعده بلهجة من أدى واجبه قبل أن يأمره به رئيسه:_لقد استقصيت الأمر، وعلمت أنه صديق الدكتور عَمَّار.جَزَّ شديد على أسنانه بِغِلّ؛ هذا العاق يقف له كالشوكة في الخاصرة؛ يحرسها كالكلب وحتى أصدقاؤه أيضاً؛والمصيبة الأكبر تهديده لدينا والتي لا يثق هو بتماسكها أمامه؛ربما تخضع له بآخر الأمر اتقاءاً لِشرُّه!_أريد الانتظار يومين ثم تكرارها مع زيادة حدة التهديد، لا أرغب لها بأن ترتاح، وليرى عَمَّار نتيجة نبشُه فيما لا يخصُّه.هتف بها بصرامة اختلطت بالتوعد لهما معاً!راقبت شاشة هاتفة التي تضىء باسمه منذ دقيقة كاملة بعد أن أخرست صوته لئلا يستيقظ أخيها بعد أن دلف إلى غرفته يائساً من التحدث مع زوجته الليلة..ولما بدى لها أن المتصل، لحوحاً ومثابراً ومن أجلها متفرغاً زفرت بضجر واستدعت أقصى طاقة من البرود ثم أجابته:_ماذا تريد؟والنبرة الرخيمة الهادئة دغدغت أذنها وهو يسألها:_هل وصل لوح الشوكولاتة إليكِ مُعلمتي؟ عقدت حاجبيها دهشة وهي تستعيد لحظة أن أعطتها زوجة حارس البناية لوحاً ضخماً من الشوكولاتة دون إخبارها بالمرسل.._إذن أنت من أرسلته!والزمجرة الخشنة اقتحمت سمعها قبل أن يسألها بنبرة تحذيرية:_وهل هناك سواي من يجرؤ على إرسال أي شيء إليكِ؟أغمضت عينيها والتزمت الصمت لبعض الوقت شاركها هو به..وكأنه.. وكأنه يستمتع حتى بصمتها طالما يستحوذ عليه هو! _ماذا تريد يا ساري؟وسؤالها المتألم تلقَّى إجابته المتلهفة: _أريد العفو رهف.وبمنتهى البرود رَدَّت:_لن أمنحك إياه. ثوانِ مَرَّت حتى وصلتها كلماته، والتي بالرغم من الثقة التي شابتها فإن هناك قدراً هائلاً من الألم كان محسوساً بكل حرف بها: _ستفعلين، وإن استمر غضبك مني وحقدك عليّ، في نهاية المطاف ستفعلين.والألم تجاهلته بِتعمُّد، والثقة أثارت غيظها بشدة، لتهتف به بنزق:_إن كنت تتصل كي تهذي بآمالك التي لا طائل منها سأنهي المكالمة._آمالي ستتحقق رهف، كما أنني اتصلت كي أقل لكِ:"سُلِّمَت يداكِ!" والغيظ الذي نطق به عبارته الأخيرة جعلها تشعر بالدهشة، فما لبثت أن سألته:_علام؟!وكادت أن ترى ابتسامته بينما يقول بخفوت:_على النقش الرائع الذي زينتِ به سيارتي، ولو بإمكاني لتركته كتذكار منكِ للأبد! زفرت بتعب ثم قالت بهدوء لا تشعر به حقَّاً:_ابتعد عني يا ساري! دعني أرمم قلبي دون تواجدك حولي.وزفرته هو جاءت حارقة؛مُشتاقة؛مُعَذَّبَة؛ثم أتبعها بتعليق جعلها تشعر بالمثل:_لقد كنت بعيداً لأكثر من أربعة أشهر رهف، لِمَ لم ترممينه؟ولم يكن يسألها حقَّاً، حيث تابع بخفوت: _ما إن تَفَوّْهت بهاتين الكلمتين اللعينتين بقاعة الزفاف حتى انزاحت الغشاوة عن عيني، انقض الندم على روحي وتمنيت لو استطعت إعادة الزمن إلى الخلف دقائق قليلة فَحَسْب.ثم أردف بسؤال شابه الألم:_لِمَ تعتقدين أنني انتظرت كل ذلك الوقت إذن يا رهف بالرغم من أنكِ لم تغيبي عن عيني يوماً واحداً؟وقبل أن تفهم أجاب سؤاله بنفسه على الفور:_كنت أمنحك الفرصة كي تنسيني، كنت أتمنى أن تتجاوزي جريمتي، بل إنني_رغم عذابي_ كنت أشعر بالسعادة من أجل رهف الجديدة، القوية، الواثقة. ثم زَفَر قائلاً بخليط من الراحة والعذاب: _لكنكِ لم تنسِ، كنت أرى تفكيرك بي في عينيكِ، بالضبط كما كانت عيناي تحترقان شوقاً لنظرة واحدة منكِ! أغمضت عينيها تنهر دمعاتها التي ستفضح ضعفها أمامه، لكنه تدخل على الفور محرراً إياها هامساً بحرارة: _أنتِ وأنا.. لا خيار لنا في عشقنا، لا نهاية له، لا مرسى إلا باجتماعنا سوياً، ولا اكتمال لأحدنا دون تواجد الآخر. والتصميم تخلل همسه التالي:_وأنا لن ينتابني اليأس في استعادتك رهف، إذا كان مستقبلي لن يتضمنك، على الأقل لن أحرم نفسي من الأمل بالحصول على عفوك يوماً. ثم كانت الحسرة ما تَوَلَّت نبرته المستسلمة: _سأنتظر، سأتشرب مرارة صبري حتى تصير علقماً، لكن افتراقنا لن يكن أبدياً.وتلقف الأمل صوته الذي تحشرج على حين غرة:_وذلك اليوم.. ذلك اليوم يا رهف بعد أن تصبحي زوجتي ، حينما سأتلمَّس بأناملي أهدابك، حينما تصيرين بِكُلِيَتك ملكي أنا وحدي، حينما أفوز بكأس غفرانك عن استحقاق، آتِ لا محالة، ومن أجله دوماً سأنتظر!وبيد أغلقت الهاتف، وبالأخرى كتمت شهقات بكائها؛وها هي الآن ترى نفسها تتألم، وترفض، وتقبل، وتنتظر؛وها هي ترى وجهه الحقيقي؛ترى ساري الحقيقي، ذلك الصبي الذي لاقى من الألم ما لا يتحمله أقوى الرجال؛ ترى ساري الغارق في عشقها، ترى قلبيهما يصرخان بها معاً؛أن اغفري! سامحي! اختطفي سعادتك ولا تلقي بالاً لــ.. كرامتك؟!لا.. لا تستطيع فعلها بعد!"أنتِ أيضاً تعانين الأرق؟"التفتت إلى أخيها مجفلة ثم دارت دمعاتها على الفور، واصطنعت نبرة ماكرة:_أنت لا تعاني الأرق عَمَّار، أنت لا تستطيع النوم بعيداً عن حبيبتك.ابتسم وجلس إلى جوارها على الأريكة البسيطة أمام شاشة التلفاز التي لا يراها أحدهما، ثم سألته بفضول:_متى أحببتها عَمَّار؟ انمحت ابتسامته وعادت الحيرة إليه مغمغماً:_لا أعلم، بالفعل لا أعلم...ثم تابع بصدق:_لكن عندما كدت أن أفقدها اكتشفت أنني لا أقوى على التفريط بها، وليس لإياد شأن بهذا.استندت رهف على كتفه فأحاطها بذراعه، بينما سألته بفضول أشد:_وتلك الأخرى التي تُدعى رضوى؟ نظر لها مندهشاً فابتسمت قائلة:_لقد أخبرتني مَوَدَّة بكل شيء عَمَّار، ولقد فوجئت بك حقَّاً، أنا أرى حبك لها واضحاً بعينيك، كيف استطعت إيلامها طوال تلك السنوات؟ وكيف استطاعت هي التحمُّل؟زفر بضيق وارتسم الامتعاض على وجهه مردداً بخفوت:_أصدقك القول رهف، أنا أشعر بالاشمئزاز والنفور من شخصيتي السابقة، وأشد ما أندم عليه إهمالي لِمَوَدَّة وخذلاني لساري.لم تفته ارتجافة جسدها ما إن أطلق الاسم فازداد الامتعاض على وجهه وهو يعتدل بمواجهتها قائلاً بحنق: _وبالحديث عن ذلك السمِج، بِمَ حدثك عندما جاء إلى المكتب؟تسلَّمَت حيرته على الفور وقالت:_يريد فرصة ثانية. عقد حاجبيه عابساً يسألها بنفس الحنق:_وهل ستمنحينه إياها؟نظرت له بتساؤل مرددة:_أريد أن أفعل، وأيضاً لا أريد.ثم أضافت بأسى:_أتعلم؟! لطالما رأيت بعينيه خوفاً لم أفهم له سبباً، ولطالما كان حبه لي يُنازِعه تحذير صارخ، كان يحاول إبعادي عنه بينما يشدني إليه، وأنا لم أدرك.. لم أدرك أنه كان يحاول إنقاذي. وشخصت ببصرها بعيداً عنه متابعة:_لم أدرك أن ذلك الرجل الذي استشعرت قوته وهدوءه يخفي ضعفاً وغضباً بعمر أعوام من العذاب اللانهائي.تعلَّقَت عيناه بها مُدققاً؛ منذ أن عادت إليه بنفسها وقد بذل أقصى جهده كي يمحو عذابها الذي طال لسنوات؛بهدوء وبِرَوِيَّة نَجَح مع زوجته في تعويضها عن عدة جوانب حُرِمَت منها؛لم يعد يرى حاجتها لوجود أب؛ولا أخ؛ولا أخت أو أم؛أمان.. حنان.. سَنَد.. حماية.. وعائلة!يُجزِم أنها لم تعُد تشتاق لأيُّهُم؛لكن... جانب وحيد لم يستطع تعويضها عنه؛حُبها لذلك الرجل الذي لم يخف عليه محاولاتها المستمرة الفاشلة للتظاهر بنسيانه؛نظرتها التي تعترف ببساطة باحتياجها إليه هو تحديداً..والآن ماذا عليه أن يفعل ؟أيشجعها على العودة إليه برغم ما فعل؟أم ينهرها عن التفكير به ويضع حداً لذلك الأمر إلى الأبد؟_يُحبك!قالها عَمَّار ببساطة بينما ملامحه تصرخ بالغيظ دونما سبب، نظرت له بترقب فتابع باستسلام:_للأسف هو يُحبك جداً، أي أعمى يستطيع اكتشاف ذلك بسهولة.ويبدو أن ما قاله لم يمنحها راحة، فاقترب منها ليسألها باهتمام:_ألازلتِ تحبينه حقاً؟ والإجابة كانت واضحة مرئية بنظرتها الصامتة، فعاد الامتعاض إليه ثانية وهو يسأل باستنكار:_أكل هذا لأن عينيه خضراوتين؟ارتفع حاجباها إلى الأعلى واتسعت حدقتاها دهشة لتسأله باستنكار مماثل:_هل تعتقد أنني سطحية عَمَّار؟وعدم الرضى احتل وجهه وهو يشيح به عنها، فمالت هي على كتفه ثانية تتنعم بالحنان الصادر منه تجاهها طوال الوقت، وبعد بضعة دقائق قالت فجأة: _إذن..كنتما أصدقاء!لا ترى وجهه، لكنها تجزم بالحسرة التي تفيض من كل خلجاته أثناء قوله:_كنا على وشك أن نصير أصدقاء، وأعلم أنه كان ليكون بمثابة أخ لي أيضاً، رأيته ذات مرة بصحبة إخوته أمام المصنع، وبالرغم من أن حالتهم المادية كانت سيئة للغاية إلا أن السعادة والرضا كانا واضحين تماماً، كان يهتم بهما كالأب!ودونما تفكير أو تخطيط سألته برهبة:_هل رأيت.. سامر؟اهتز صوت عَمَّار وأجابها بخفوت:_كان طفلاً جميلاً للغاية، عيناه ضراوتان مثل ذلك الأحمق بالإضافة إلى شُقرة بسيطة لفتت انتباهي، لكن المرض كان قد أنهك ملامحه البريئة.. ترقرقت عيناها بالدموع وعقلها يرسم لها نسخة بريئة مطابقة لِسارة، لكن.. أشد ضعفاً.._وعندما.. عندما علمت بوفاته شعرت بحسرة، وإلى الآن لا أتصوَّر كيفية شعور ساري أو أمه أو أخته وذلك الطفل يموت أمامهم. والإضافة التي قام بها زادت في إيلامها، لكن يبدو أنه لم يكتفِ بذلك حتى استكمل بصوت مبحوح:_لقد سمعت التفاصيل مصادفة من أحد رجال شديد بك الذين كانوا يحرسون بيت عَم صبري رحمه الله وقتما كان يرتكب جرائمه بحق أسرته، وحينها_وللمرة الأولى_ بحثت بِجِدية عن طريقة أستطيع من خلالها تغيير اسمي!انتفضت رهف تحدق بعيني أخيها بدهشة..ألم، وذنب، وحسرة.. وماضٍ لا يرحل أبداً!_لا ذنب لك عَمَّار، لم تكن تستطيع مساعدته، أنت تكبره بعام واحد فقط.رمقها باستفهام ثم سألها باستهجان:_أتعتقدين أنه أيضاً يفكر بهذه الطريقة؟ ولم ينتظر إجابتها وهو يهُز رأسه نفياً متابعاً بنبرة موقنة: _لا رهف، ساري يلومني أنا، لقد رأيت ذلك واضحاً بقاعة الزفاف، كان ينتظر مني شيئاً، مساعدة.. مؤازرة.. دفاع، أي شيء سوى الاكتفاء بالمشاهدة حتى اللحظات الأخيرة. استرسلت دمعاتها على وجنتيها بينما حائط صد ذهنها ينهار بالتدريج عن صور العذاب التي تعرَّض لها..لكن عَمَّار رسم شراسة مُفاجئة على وجهه ثم حَذَّرَها قائلاً:_وهذا لا يعني أن تسامحيه أنتِ كالخرقاء، لا شأن لكِ بما بيني وبينه. وما إن أنهى كلماته حتى انطلقت الأصوات التحذيرية في عقله هو..هي تحبه، وهو يحبها؛هو أخطأ، ويستوجب العقاب؛أنت لن تجبرها على أي قرار؛أنت لن تكون شديد الناجي يا عَمَّار!انتفض واقفاً فجأة ثم استدرك بلا اقتناع: _أو.. افعلي ما شئتِ! أنا لن أجبرك على أي شيء. ثم تململ للحظات وأضاف عابساً، ناقماً:_لكن..سأضطر لقولها للأسف، بصرف النظر عن رغبتي بضربه ثم فقأ عينيه اللتين يسحرك بهما ثم حرقه حياً والتمثيل بجثته، فإنني موقن من حبه لكِ.وقبل أن ترد عاجلها بِجِدية: _لكن إن رفضتِه أنتِ لن أسمح له بالتواجد بأي مكان بقربك، ما عليكِ إلا أن تخبريني فقط.تهدَّلَت كتفاها وقالت بلا تفكير:_أحبه عَمَّار!استنفرت ملامحه كلها بمجرد نطقها عبارتها؛عَضَّ على شفتيه بغيظ، وازداد عبوسه، وتقبضت كفيه بقوة..ثم استدار عائداً إلى غرفته صائحاً بسخط: _خرقاء، عسى أن تحترقا سوياً إذن!"هل تسمعني يا عاصم أم أنني أخاطب نفسي منذ دقائق؟"نظر عاصم إليه ثم استقام مردداً بضيق:_ساري، ليس لي رغبة اليوم بأي نقاش، سوف أتخذ قراري مع سارة وسنطلعك عليه. مال ساري على مكتبه وهو يسأله بقلق: _ماذا بك؟ هل لازلت على خلاف مع خطيبتك؟وقبل أن يرد اندفعت سارة فجأة إلى غرفة المكتب لتتخذ جانباً ثم تتبعها..سما!هَبَّ عاصم واقفاً بدهشة متسائلاً بقلق: _ماذا هناك سما؟ هل أمي بخير؟ هل أنتِ بخير؟ نظرت له بابتسامة صفراء ثم قالت:_نحن بخير تماماً عاصم، لا تقلق!ارتسمت ابتسامة واسعة على وجهه وهو يقول بثقة:_إذن لقد أدركتِ أن العمل معي أفضل من أي مكان آخر، أليس كذلك؟!تلاشت ابتسامتها الصفراء لتحل محلها أخرى مثيرة للريبة وهي تتقدم إلى المكتب واضعة ما تحمله عليه ببساطة، ثم تراجعت إلى الباب، واستدارت لتنقل نظراتها الممتعضة بين عاصم وساري بوضوح، وقالت:_أنا لازلت أعمل بمكتب مَوَدَّة ورهف، وهذه الشركة لا يعنيني العمل بها على الإطلاق.وبينما هو يحدق بها بدهشة ابتسمت له ثانية وهي تتابع بنبرة سعيدة بلا سبب:_تَقَبَّل هديتي عاصم!وعندما انصرفت تطلع ساري بِتوجُّس إلى الصندوق الورقي الذي لا يبعد عن مرمى بصره سوى بسنتيمترات قليلة، ثم أشار بسبابته إلى حيث خرجت وهو يسأله بِعينين متسعتين قلقاً ونبرة حَذِرة:_هي ليست مجنونة إلى الدرجة التي تجعلها تُفجر الشركة كلها بِمَن بداخلها نِكايةً بك أنت، أليس كذلك؟!ونظرة عاصم الحائرة أنبأته أنه ليس واثقاً من الإجابة للأسف، لكنه التقط الصندوق وفتحه بفضول..وبعد ثوانِ بينما لم تستطع سارة كبت ضحكاتها المستمتعة حقاً، نظر عاصم بِعَدَم فهم إلى ساري الذي زفر براحة وارتسم الامتعاض على وجهه واضحاً، لكن الأول نقل نظراته بينهما متسائلاً: _ما هذا؟ارتمت سارة على أحد المقاعد مقهقهة، ومط ساري شفتيه بملل وهو يطالع العُلبة المخملية الحمراء التي يمسك بها عاصم بِحيرة..أنيقة للغاية؛رقيقة للغاية؛ فخمة للغاية؛خالية للغاية!مخصوصة لتقديم حلقات خِطبة!ابتسم ساري ببرود قائلاً:_أعتقد أن الأمر واضح ولا يحتاج إلى الذكاء الذي يهرب منك بإصرار يُثير العَجَب! وحينما ظلت نظرة عاصم تشي بِعدم استيعابه تابع ساري ببطء:_خطيبتك المُبَجَّلَة أعادت إليك عُلبة هدية الخِطبة التي لم تبتاعها لها أنت، فارغة من الحلقة الذهبية التي لم تُلبسها إياها أنت!ثم مال أكثر يومىء برأسه مُشدداً: _إنها أنهت خطبتكما التي لم تعقدها عليها أنت! وبينما اتسعت عينا عاصم بذهول أكبر، وتعالت ضحكات سارة بسبب مظهره، هَزَّ ساري رأسه آسِفاً ثم ردد بإشفاق صريح:_لَبِئس مصيرك حقَّاً يا عاصم