Cairo , Egypt +01508281514 darr@elsayad121216.com

الفصل السادس عشر

*نهاية سعيدة أخيراً .. أَم؟!لا تَلُم يا سَكَن الروح..عن الإنصاف أبحث أنا؛لا تُعاتِب يا رفيق القلب.. إلى الراحة ألجأ أنا؛لا أهرب، لا أظلم، لا أفِر، لا أقسو؛فالكفة مالت ومالت حتى ضاقت أنفاسي تحتها..ولحظة المساواة حانت ولن أتوانى عن اللحاق بها!أُحِبَّك أَعتَرِف.. تُحِبني لا شك؛ والنهاية عادلة.. للسعادة الغابرة؛فالحُكم اليوم واجب.. وسَيُعاقَب قلبي أولاً...! كانت تدور بغرفتها كالمجنونة وهي تحاول الاتصال به لعشرات المرات حتى ردَّ أخيراً ببرود:_لا أصدق أنكِ اشتقتِ إليِّ بهذه السرعة!صرخت به بهمس كي لا يسمعها أخوها وزوجته:_هل أصبحت مُختِطف أيضاً؟ متى ستبدأ في تجارة الأسلحة؟ضحك باستمتاع وهو يجيبها:_ليست من مخططاتي حالياً رهف، لكن أشكرك، سأضع اقتراحك في الحُسبان!جاؤه صوتها المُتوسل:_أرجوك ساري، اتركه، أنت لا ترغب بإضافة مشكلة جديدة مع أخي.ليصلها صوته المصمم:_أنا سأفعل أي شيء رهف، بيدك أنتِ الآن أن أترك ذلك المائع إن وافقتِ على زواجك مني.صرخت بغيظ:_حتى إن وافقت أنا، أتعتقد أن عَمَّار سيرضى بسهولة؟وبصوت قوي رد:_وافقي أنتِ واتركي أمر أخيكِ لي، أنا كفيل به!ضغطت أسنانها بغيظ شديد للحظات ثم ردت:_هل أنت مستعد ساري؟ سوف أحصل على قصاصي منك بنفسي.ولهفة صوته لم تكن لتخفى عليها وهو يُسرع بالإجابة:_افعلي ما شئتِ رهف، يحق لكِ ما تريدين أياً كان طالما ستعودين إليِّ.صمت قاتل وتوقفت أنفاسه؛وتوقفت الأصوات من حوله؛وأخيراً:_موافقة!أغمض عينيه واضعاً كفه فوق مَوضِع قلبه ثم أمرها:_أعيديها!بهدوء:_موافقة! ومرة أخرى بصوت متحشرج:_أعيديها!وبغيظ:_موافقة! رَبَّت على قلبه وبصوت مبحوح سألها:_موافقة على الزواج مني رهف؟بابتسامة هادئة مُريبة لم يرها أجابته:_موافقة على الزواج منك ساري!وبنفس النبرة قال:_قولي سأصير زوجتك يا ساري.أغمضت عينيها وتعالت دقات قلبها، إلا أنها هذه المرة قالتها ببرود برغم حلاوة مذاق الكلمات على شفتيها:_سأصير زوجتك "للمرة الثانية" يا ساري!فهم تلميحها لكنه لم يهتم؛العبارة اخترقت عقله ونبضاته التي يُهدد وضعها بالخطورة حالياً؛وأنهت المكالمة ليظل هو لِثوان مكانه مُغمض العينين، مُبتسم، يتراقص قلبه طرباً فيُربت عليه أكثر..ثم استقام من فوق مُقدمة سيارته واستقلها لينظر إلى خالد الجالس بجواره بملل والذي عاجله:_ألن تُخبرني عن تلك الاستشارة؟ليرد ساري بكل فرحة الدنيا:_أشكرك أستاذ خالد، احمد ربك أنني لم أعد بحاجة إليها!لكن ملامحه انقلبت فجأة وهو يقول مُشدداً على حروفه:_اسمعني جيداً، أعلم أنك عشت طوال عمرك بالخارج لكن ذلك الهراء لا يُشكل أي فارق لدي. نظر له خالد باستفهام فتابع ساري بلهجة مُحذرة: _لِذا إياك أن تنظر إلى زوجتي مرة أخرى، حتى اسمها لا أريدك أن تنطقه مُطلقاً.انعقد حاجبا خالد بدهشة بينما أضاف ساري:_ومن الأفضل والأكثر سلامةً لك أن تتلافى تواجدك معها بأي مكان إن كانت هناك مناسبة ما سنضطر للاجتماع بها مستقبلاً، باستطاعتك حينها التحجج بأي عُذر..بتر عبارته متظاهراً بالتفكير ثم قال بِجِدية:_مرض خطير مثلاً، أو حادث مأسوي، أو ربما استدعاء بقسم الشرطة..اتسعت عينا خالد بِعَدم فهم، فابتسم ساري ببرود شابه الغيظ متابعاً:_أنا أمنحك بعض الخيارات فقط لأنك تعيش دور الأجنبي بإتقان هائل أوشك على إصابتي بالفالج.ابتسم خالد متسائلاً باهتمام: _لكن..لماذا تريد هذا؟ أعني أن رهف تعتبر...هدر به ساري صائحاً:_ألم تفهم أياً مما قلته لك؟!ارتد خالد إلى الخلف بتلقائية فزفر ساري بحنق قبل أن يقول:_يا رجل! أنا سأحصل على حياة تمنيتها أخيراً وأنت تُصر بشدة على أن أُزَج بالسجن رغماً عني!ثم مسح على فَكُّه بغيظ واستطرد بهدوء لا يشعر به حقاً:_إن.. إن تزوجت يوماً ورأيت رجلاً يتحدث مع زوجتك بأريحية واهتمام ستفهم شعوري، ستدرك مدى الغضب والغيرة التي تنتاب المرء حينما يرى أحدهم يتباسط معامرأة تخصه.لكن خالد مَطَّ شفتيه بلامبالاة وهو يردد بهدوء:_أعتقد أنني لن أفعل، لست رجعياً لأفكر بهذه الطريقة، مادامت لم تنزعج هي لماذا سأتدخل وأفتعل المشكلات و...وصيحة ساري الغاضبة أجفلته فوراً:_انزل من سيارتي!حدَّق بملامح الامتعاض المرتسمة على وجهه بدهشة مُعَلقاً:_عفواً؟!كرر ساري بغيظ واضح:_سمعتني جيداً، انزل من سيارتي!ولم يجد خالد بُدَّاً من تنفيذ أمره مع ملامح الخطورة التي ارتسمت واضحة على وجهه..أغلق باب السيارة فمال ساري رامقاً إياه بتهكم قائلاً بتحذير شديد اللهجة:_أتمنى أثناء طريق عودتك أن تفكر جيداً بكل كلمة قلتها لك، ينتهي برودك وانفتاحك وميوعتك عند حدود زوجتي، لأنك إن لم تفعل لن تجد عندئذٍ وقتاً للندم!وعندما انطلق بالسيارة وقف خالد يُحدق في إثرها ليكتشف أنه بمنتصف الليل في مكان مُقفر تماماً، مظلم تماماً.. خالِ تماماً!بعدما أنهى تامر مكالمته الهاتفية فوجىء بها تحيط كتفيه بذراعيها فسألها ببرود:_ماذا هناك دينا؟ هل أنفقتِ كل النقود التي أعطيتك إياها منذ يومين؟أرخت ذراعيها وهي تدور حوله لتقف أمامه هاتفة باعتراض:_أتعني تامر أنني لا أحتاج منك سوى الأموال؟ابتسم بسخرية وهو يواصل العبث بأزرار هاتفه، وبدا لها أنه اكتفى بذلك..وفي الواقع كان هو يشرد ببداية معرفته بها، بمجرد أن قام بتطليق زوجته الثانية وجدها تتعقبه على إحدى وسائل التواصل الاجتماعي، كانت تتواصل معه طوال الوقت وتُخبره بكل تفاصيل حياتها وبدون حتى أن يسألها..أخبرته كم أنها عانت مع طليقها البخيل وأهله المتطلبين؛أخبرته بشكَّها بوجود علاقة بينه وبين ابنة عمتها حتى أن أبويها قاما بطردها من المنزل؛ثم وصل الأمر إلى التعدِّي عليها بالضرب فتم الطلاق!وبدأت تلميحاتها عن رغبة أهلها بالتخلص منها بتزويجها من رجل يكبُرها بالكثير ولديه أطفال... ثم هراء.. فهراء.. فهراءعلِم أنه هراء؛تاجر مُحنَّك هو وقد تعامل مع جميع فئات المُجتمع، وأدرك أنها تدفعه نحو اتجاه واحد واثقة بذكائها؛فقِبَل هو بسرور، ربما لن يُضيره الزواج منها، فهي مثل أية امرأة أخرى!وهو كان يبحث بالفعل عن أخرى؛فلِمَ لا؟!وهكذا أصبحت زوجته بالرغم من اعتراض أهله، ليكتشف طبعها السيء وحقدها الشديد وطَمَعَها هي وأمها ومحاولتها استنزافه مادياً مُعتقدة عدم مُلاحظته...والآن:_أرغب بطلب شيء ما منك تامر!"ها هو!"اتسعت ابتسامته الساخرة وهو يسألها: _كم تريدين؟ابتسمت بعتاب مُجيبة:_لا أريد مالاً تامر، أنا لستُ جشِعة.رفع حاجبيه بدهشة ثم مط شفتيه باستهجان وهو يقول:_بالطبع!ازداد توترها وهي تُخاطبه: _أنت تعلم أن أبي قام بتطليق أمي، وهي ستترك البيت، ليس لديها أي مكان تذهب إليه و... قاطعها ببرود:_أتقترحين أن أشتري لها شقة أم ماذا؟ افتعلت ابتسامة مرتبكة وهي ترد:_لا بالطبع تامر، أنا قصدت أن.. الفيلا هنا كبيرة و..ونظرته ألجمتها وجعلتها تبتر عبارتها رغماً عنها بينما اقترب هو منها ببطء قائلاً: _أنتِ لا تعنين أن تُحضري أمك لتعيش هنا أليس كذلك؟ شحب وجهها وهي ترد بخفوت:_أنا.. أنا ابنتها الوحيدة و... قاطعها صائحاً:_هذا ليس من شأني، الفيلا ليست ملجأ لكل من ليس له مكان، يجب عليها أن تتصرف، وإياكِ دينا أن تتحدثي بذلك الموضوع ثانية، وإلا ستلحقين بها إلى الشارع!فغرت فاهها دهشة وهو يوليها ظهره وينصرف قبل حتى أن تستطيع الرد، ظلت مكانها مُحدِّقة بالباب الذي صفعه بكل قوته.و الآن ماذا ستفعل في تلك الورطة التي لا تجد لها حلاً؟!إلى أين ستذهب أمها التي تعتمد عليها وتنتظر منها رَدَّاً بالموافقة؟! في اليوم التالي:فتح عَمَّار الباب الذي ارتفع رنين جرسه منذ لحظات ثم اتسعت عيناه بدهشة هاتفاً:_ماذا تفعل هنا؟ ابتسم ساري ببرود وهو يجيبه ساخراً:_أهكذا تستقبلون الضيوف ببيتكم يا دكتور؟ضغط عَمَّار أسنانه بغضب وهو يصيح به:_أنت لست ضيفي، هيا اذهب من هنا! دفع ساري نفسه إلى الداخل فصاح به عَمَّار ذاهلاً: _أنا لم أسمح لك بالدخول!افتعل ساري الدهشة وهو يرد باستنكار:_وهل سأطلب يد كريمتكم وأنا أقف بالخارج؟! ثم التفت خلفه وهتف:_تفضلي أمي، تعالي سارة! كظم عَمَّار غضبه بصعوبة وهو يحاول التزام الأدب أمام المرأتين، بينما هتفت سوسن بحبور:_مرحباً بك يا ولدي! رد عَمَّار بشبه ابتسامة لم تخفِ العنف الذي يكبته بصعوبة:_أهلا بكِ سيدة، تفضلوا!دخلت سوسن تتبعها سارة بينما وضع ساري باقة الزهور الضخمة التي يحملها على أقرب منضدة ولحق بهما.تخصَّر عَمَّار بغضب شديد وهو يشعر بأن صبره على وشك النفاد، ثم تبِعَهم إلى غرفة الاستقبال وجلس أمامهم، و تحدث فجأة:_اعذرني مهندس ساري، ألم يكن من المُفتَرَض أن تُعلِمني بزيارتك حتى أكون مُستعداً؟حافظ ساري على ابتسامته المُستفزة وهو يُجيبه ببرود:_نحن أهل دكتور عَمَّار، لا مجال بيننا لتلك الرسميات.. وفي الداخل حدَّقت رهف بغضب في مَوَدَّة التي سقطت على الفراش ضاحكة:_بالله عليكِ كيف تضحكين بهكذا موقف؟ لقد جُن تماماً! وأخشى من تهور عَمَّار! توقفت مَوَدَّة عن الضحك بالتدريج ثم وقفت قائلة: _لا تقلقي! سأخرج أنا كي أحاول تهدئة الأمور وأنتِ تجهزي والحقي بي!وعندما خرجت هتفت رهف بوعيد:"حسناً ساري! سترى نهاية جنونك قريباً!""ماذا تقصد أنور؟ هل خسرنا ذلك المعرض أيضاً؟ أتمزح معي؟"هتف بها شديد وهو يواجه مُساعده الذي يتناول القهوة من مدبرة المنزل ويُجيب بقلق:_أنا أحاول منذ فترة يا شديد بك، لكن للأسف الديون تكاثرت علينا ولا يوجد هناك حل سوى ذلك، إن كان لديكَ حلاً آخر أخبرني به وسأُنفِذه على الفور. ركل شديد المقعد خلف مكتبه وهو يستدير ليقف أمام مُساعده الذي حدَّق به بقلق مُنتظراً صياحه حيث لم يتأخر كثيراً:_هل تعلم ماذا سيحدث إن انتشر خبر بيع معارضي الواحد تلو الآخر بين التُجَّار والشركات؟ هل تعلم مقدار الخُسارة التي ستحل على مصنعي؟وقف أنور يُدافع بضعف:_وماذا بيدي شديد بك؟ أنا أدور هنا وهناك كي أحصل على بعض الصفقات، لكن كلما كنت على وشك حلّ الأمور من جهة تعقدت فجأة من جهة أخرى، وكأن.... بتر أنور عبارته فاستحثه شديد هاتفاً:_وكأن ماذا أنور، انطق!ألقى أنور عبارته كلها مرة واحدة:_وكأن هناك من يتعمد دفعنا إلى الخسارة!اتسعت عينا شديد بك بصدمة فتابع أنور بصوت خبيث:_فكِّر معي شديد بك، لقد كان مصنعنا الأفضل بين الجميع، وكانت معارضنا الأكثر رواجاً وشُهرة بين الجميع، كنا لا نستطيع مُلاحقة الطلبيات، وشركات تصنيع الأثاث كانت تتوسلنا لعقد الصفقات معهم، ثم فجأة يتم دعوتك إلى حفل زفاف ينتهي بفضيحة علنية وتهمة أرادوا إلصاقها بك، ومنذ اليوم التالي بدأت تجارتنا في التدهور، وإلى الآن رغم مرور أكثر من خمسة أشهر فلايزال وضعنا يسوء أكثر، هل يبدو لك أي مما حدث صدفة شديد بك؟شيطان..!شيطان بصورة إنسان ينظر إليه أنور تلك اللحظة؛حتى أنه شعر لوهلة أن هناك قُروناً حمراء ستنبُت أعلى رأسه و نيراناً ستندلع من بين عينيه وستمتد إليه لتحرقه بها؛وقد شعر برعب هائل وهو يُطالع وجهه الذي أظلم فجأة وهو يهتف:_أنت مُحق أنور، ليست صُدفة مُطلقاً!لم يرغب أنور بإعطاء أي تعليق فتابع شديد:_وأنا الآن أدرك المتسببين بكل ما حدث.ثم أردف بنصف ابتسامة:_وشديد الناجي أيضاً يُجيد فن الانتقام! جلسة مُربكة؛عبارات مُجاملة؛نظرات قاتلة من عَمَّار؛ابتسامات باردة منه هو!تهرُّب بالعينين منها هي؛ ابتسامات مُتسلِّية من سارة!وحوار جانبي وِدِّي بين سوسن ومَوَدَّة..هكذا كان اللقاء فعلياً بينهم!ساري يطلب الزواج منها فيبدو على وجه عَمَّار الرفض ويهُم بالتعبير عنه لفظياً، لكن زوجته تنظر له بتوسُّل فيزفر بحنق ويُراوغ، لتهُب رهف فجأة صائحة بجرأة جديدة تماماً منها:_عذراً عَمَّار أرغب بالتحدث مع ساري قليلاً!حدَّق بها عَمَّار بدهشة غاضبة بينما اتسعت ابتسامة ساري لتُصبح حقيقية تماماً.. وفي الشُرفة وقف مُترقِبَاً أسئلة اختباره حتى واجهته بهدوء مُتسائلة:_لِمَ تريد الزواج بي؟اتسعت عيناه في دهشة وهو يرُد بحنان صادق تسلل إليها بسهولة:_ألم تدركي بعد كم أحبك؟كتفت ذراعيها وهي تمط شفتيها ثم علَّقت: _ربما تعتقد أنت ذلك، ربما أنا لم أكن بالنسبة لك إلا وسيلة للانتقام ثم اجتاحك شعور بالذنب بعدما حدث، ربما أنت لم تحبني مُطلقاً بالأصل وهنا قاطعها بغضب: _توقفي عن الهذيان رهف! أنتِ تعلمين تماماً أنني أذوب بكِ عشقا، وأنني بصرف النظر عن ماضيَّ مع ذلك الحقير لا أهتم سوى بكِ ولا أتمنى سوى أن تصيري زوجتي. وأردف بألم:_لو.. لو كنت اقترفت هذا الذنب بحق أخرى لكنت حاولت بكل طاقتي أن أعتذر لها وأعيد لها حقها مهما كلفني الأمر، لكنت طلبت سماحها حتى آخر يوم بعمري، لكنني لم أكن لأورط قلبي في الأمر.وتابع بصوت أجش:_إنما أنتِ يا رهف الوحيدة التي تمنيتها بكل كياني، أنتِ ولا سواكِ مُطلقاً!العين بالعين؛ونظرات العشق حائرة!الألم بالندم؛ودقات القلب ثائرة!يتمزَّق هو..ما بين رغبته بوشم اسمها باسمه ومُعادَلَة ميزان انتقامها! وتتمزَّق هي..ما بين رغبتها في الهرب من كل شيء إليه والصراخ في وجهه منه شاكية!لحظات ولحظات تُقلِّب هي الأمر بذهنها وينتظر هو الحُكم بخوف حتى..مالت شفتيها في شبه ابتسامة، وبِهُدوء مُريب قالت:_لي شرط واحد ساري، إن وافقت على تنفيذه تستطيع تحديد موعد عقد القران مع أخي، وأنا لن أعترض.وكانت الانتفاضة منه، تتراقص عيناه بلهفة هاتفاً:_أياً كان ما تريدينه رهف أنا أوافق عليه!تململت دينا في جلستها بعد أن أخبرت أمها برفض زوجها لانتقالها إلى الفيلا، فصرخت بها بثورة: _أتعنين أنني الآن ليس لديَّ مكان لأقطن به؟ ألقاني أبوكِ بالشارع وزوجك يرفض استقبالي؟تمسَّكت دينا بذراع أمها قائلة بلهفة:_اعذريني أمي، أقسم أنني حاولت معه، لكنه رافض تماماً.نزعت شروق ذراعها من يد ابنتها بعنف وهي تشير إلى المكان حولها هاتفة بهياج:_انظري حولِك دينا، هذا هو بيتي الذي عِشت به سنوات عمري كلها تشاركني فيه عمتك ثم ابنتها بدون وجه حق، والآن حينما تخلَّصت من تلك الفتاة أُطرد منه على يد أبيكِ المخبول، ثم يرفض زوجك استقبالي!وأردفت صارخة: _هل أقضي حياتي بدار مُسنين أم ماذا؟أسرعت دينا بالرد: _لا أمي! أنا سأقنع تامر طبعاً، وستعيشين معي، امنحيني فقط بعض الوقت.حدَّقت فيها أمها بغيظ مُتسائلة: _وهل سأظل أنا بالشارع حتى تقنعيه؟توترت دينا وهي تتهرَّب بعينيها من أمها:_لا بالطبع!ثم فتحت حقيبتها وأخرجت ظرفاً ضخماً بعض الشيء ومدت يدها به تجاه أمها قائلة:_تفضلي أمي! هذا المبلغ هو كل ما استطعت ادِّخاره بدون معرفة تامر، تستطيعين قضاء بعض الأيام في أي فندق حتى يوافق على استقبالك بالفيلا.نقلت شروق أنظارها بين الظرف ووجه ابنتها ثم هتفت بازدراء: _وعندما تنتهي إقامتي في الفندق، عندما تنتهي تلك الأموال، إلى أين أذهب؟لم تجد دينا ردَّاً وهي تتململ بوقفتها فعاجلتها أمها بلهجة مُتوسِّلة:_أعطني الورقة دينا، أعطني العقد، سأبيعه لشديد مقابل بعض الأموال التي تمكنني من شراء شقة أعيش بها.رفعت دينا رأسها بِحدَّة وهي تعترض بهتاف قوي:_هل تمزحين أمي؟! أنسيتِ أن ابنه يهددني؟ أنسيتِ أنه يستطيع الوصول إلى داخل بيتي ويُخرِّب عليَّ حياتي؟لتُسرع أمها بلهفة شديدة: _إذا تخلَّصنا من ذلك العقد سنخرج من تلك القصة تماماً وستكون مشاكله بينه وبين أبيه فقط، سنتخلَّص أيضاً من ذلك الهَمّْ.هزَّت دينا رأسها برفض قاطع وهي ترُد: _لا أستطيع المجازفة أمي، لا أستطيع المُجازفة بحياتي الجديدة.دمعت عينا شروق وهتفت:-لكنني أمك دينا، ليس لديَّ مكان آخر.نظرت لها دينا بضيق شديد وهي تُفكِّر بِغيظ.أكان ينقصها ما فعله أبيها الآن؟في ذلك الوقت بالتحديد؟وهي تمر بأزمة فاصلة بحياتها الزوجية؛وهي تُكافح من أجل اكتساب تقبُّل أهل زوجها الذين يكرهونها بشدة؛وهي تحاول التخلص من الحقير الذي يُهددها بإنهاء حياتها الرغدة التي حصلت عليها للتو؟!لقد حاولت مُصالحة أبيها على أمها كي تتخلص من إزعاجها وإلحاحها الذي لا ينتهي؛لكن أبيها لا يقبل بالتحدث معها هي شخصياً!زفرت بغيظ وحنق وهي تنظر لأمها بجمود قائلة: _أعتذر أمي، لا أستطيع المُقامرة بحياتي، خذي الأموال لتستطيعي قضاء بعض الأيام حتى أصل إلى حل مناسب. نظرت لها أمها بصدمة استمرت للحظات ثم تحولَت لألم..للحظات؛ثم تحولَ لاشمئزاز؛ ثم مدَّت يدها وتناولت الظرف بكل خزي!"أهذه هي نتيجة دفاعي الدائم عنكِ دينا؟!"وقف عَمَّار على سفح الهضبة الشهيرة مُحدِّقاً بالأفُق شارداً بذكريات سنوات بعيدة.. ذكريات قاتمة..ذكريات تجعله يكره ضعفه السابق؛ وخزيه السابق؛وسلبيته السابقة..أخذ يُفكر في احتمالية عدم وقوع تلك المصائب لو كان تدخَّل مُبكراً، أو حتى لو كان استفاق مُبكراً، ثم زفر يائساً وهو يُدرك إلى أي مدى أصبح أحمق التفكير!وبعد لحظات تطلع بغضب شديد إلى السيارة السوداء التي تقترب منه..هبط ساري من سيارته مُتجهاً إليه ومُبتسماً ببرود هاتفاً:_مرحباً صِهري! ألا ترى أن ذلك المكان شاعرياً بعض الشيء كي تطلب مقابلتي به؟! ثم وقف أمامه تماماً؛الاثنان مُحدقان ببعضهما مُتخصِّران؛الاثنان يسافران عدة أعوام إلى الخلف؛ في باحة المصنع..إلى بدايات صداقة لم تكتمل!إلى عرض وِدِّي لمُشاركة لَعِب لم يتم!ثم يعودان للحاضر وملامح "الخسارة" تحتل وجهيهما؛ثم..سفر آخر إلى نفس الزمن؛ سفر آخر إلى نفس باحة المصنع؛هجوم ضاري..ودفاع متأخر!قهر وحسرة..ضعف وخُذلان!ثم يعودان للحاضر وملامح "الغضب" تحتل وجهيهما؛ثم...لكمة!من عَمَّار إلى ساري صارخاً:_ما ذنبها ساري؟ثم..لكمة!من ساري إلى عَمَّار صارخاً:_لِمَ لم تدافع عني عَمَّار؟دماء تتناثر من شفتي كلا منهما؛أنفاسهما تتسارع ويرتفع صدراهما؛عتاب، ولوم، وندم، وأسف، وألم؛من كلا منهما تجاه الآخر؛ ثم بدمعتين مُستأنِفاً:_لقد اعتبرتك صديقي الوحيد عَمَّار! وبخفوت أردف:_لقد انتظرتك أنت فقط في ذلك القبو كي تُحضِر جهازيك لنتنافس بهما معاً علِّني أجد الهاءات عن آلام تعذيبي على يد عبيد أبيك.وبابتسامة ساخرة تابع: _ثمانية أيام عَمَّار، ثمانية أيام كنت متأكداً أنك ستأتي وتُخلِّصني من أبيك.دمعت عينا عَمَّار بالمثل وهو يرد: _كنت صبي ساري، كنت مجرد صبي!ليرد ساري مُبتسماً من بين دمعاته:_أنا أيضا كنت صبي عَمَّار.عتاب، ولوم، وندم، وأسف، وألم..من كلا منهما تجاه الآخر؛ليصرخ عَمَّار بأعلى صوته وهو يلكُمه مرة أخرى:_أختي ما ذنبها؟ ما ذنبها هي ساري في ثأرك مع أبي؟فيصرخ ساري وهو يلكُمُه بالمثل: _أتعتقد أنني خططت منذ البداية كي أُطلقها بزفافنا؟ أتعتقد أنني منذ البداية خططت للزواج منها في الأصل؟ وبتقطع أضاف:_في تلك القاعة، ما إن أخذتها أنت وانصرفت، تخيلت لو.. لو أن سارة هي من تعرضت لنفس الموقف.صمت لتزوغ عيناه بشرود وتابع:_لو أن فتاة أخرى تعرضت لظلمي دون أن يتعلق قلبي بها، لو أنني جَنَيت بنفسي على أخرى.ثم مَسَح على وجهه بكفيه وقال بخفوت: _صدقاً عَمَّار لم أكره نفسي قبلاً بهذه الدرجة كما فعلت عندئذٍ.والغضب يجتاح أعينهما حتى كادا أن يفتكا ببعضهما بدون تلامس، ليردف ساري مُوضحاً:_ كنت أنتظر أن تطلب من أبيك اثبات نسبها لأدعمها ، كنت أتمنى أن أذيقه من العذاب ألواناً، لكن.. لكن ما إن وقعت عيناي على رهف حتى انقسمت لاثنين.أولاه جانبه ثم استند إلى مُقدمة السيارة الزرقاء وهو يشرد في الأفق مُبتسماً بعشق و مُتابعاً:_الأول يراها رهف المُعلِّمة، الفتاة الجميلة الهادئة، الأول تخلص من كل همومه وأعبائه، له روح خفيفة، له أجنحة، له قلب ينبض، أحبها بكل كيانه، وبدأ ينساق إليها رغماً عنه، أرادها بكل ما فيه، واتخذ عهداً على نفسه بتعويضها عن كل ما عاشت.ثم أظلمت ملامحه فجأة مُستكملاً بقهر:_والثاني يراها رهف شديد الناجي، ابنة الرجل الذي دمَّر أسرته وسحق رجولته الوليدة وكرامته، والوسيلة الوحيدة التي يستطيع بها مواجهة نفسه أمام قبور ثلاثة دون الشعور بالخزي أو الضعف.ابتسم بسخرية مُردِفاً بصوت مُتكسِّر:_أتعتقد عَمَّار أنني انطلقت في طريق انتقامي بلا أية عقبات؟ لقد توقفت كثيراً عندما تغلَّب ساري الأول على ساري الثاني، لكنني كالعادة نصرت الثاني وقتلت الأول بمنتهى العناد والقسوة، وها أنا أعاني، وها هي تعاني، ولا أجد أي مخرج.نظر له بألم مُتابعاً بشرود: _تاريخ الزفاف هو نفسه تاريخ وفاة أبي وأخي وأختي، لقد تعمدت ذلك إيماناً مني بأنني سأرتاح بتلك الطريقة وأحصل على العدل كاملاً.ثم عاد لينظر أمامه هامساً: _لم أكن أعلم أنه تاريخ وفاتي أنا أيضا!عاد الصمت يلفهما فاتجه عَمَّار لاإرادياً ليستند بجواره إلى مُقدمة سيارته، مُحدِّقاً _مثله_ في الأفق بشرود، وبعد قليل قطع عَمَّار ذلك الصمت بهدوء قائلاً:_أنا أحضرت الجهازين بالفعل. رمقه ساري بجمود فتابع بدون النظر إليه:_باليوم التالي خبأتهما بملابسي كي لا يراهما شديد بك ويعلم انني سأ... بتر عبارته بحرج فأكملها ساري متهكماً:_أنك ستشارك أحد أبناء العاملين اللعب!خاطبه عَمَّار بهدوء:_كنت أراقبك أنا أيضاً!نظر له ساري فتابع:_كنت أُعجب بقوتك الجسدية وأنت تحمل الأخشاب الثقيلة، حاولت التقرب منك بحجة العمل، لكنني.. لكنني في الواقع كنت بحاجة لصديق ولم يكن لديَّ واحداً.رد ساري بهدوء:_كنت أعلم!صمت قليلاً ثم استدرك:_رأيتك تراقبني ذات مرة واعتقدت أنك ستشي بي وتجعل أبيك يطردني، لكنني بعد ذلك علمت أنك لست مثله.صمت طويل تلك المرة؛كلاهما عابس،كلاهما غاضب،كلاهما حائر..وكلاهما نادم! قطعه عَمَّار بعد فترة بسخرية:_والآن ماذا؟ أتقترح أننا سننسى كل شيء ونبدأ مُجدداً؟مط ساري شفتيه بشرود ثم رد بغموض:_الآن أختك هي من ستقوم بالخطوة الأخيرة، وأنا أثق بها، أثق أنها من ستقتلع ذلك الانتقام من جذوره.نظر له عَمَّار بتساؤل:_ماذا تقصد؟ثم اتسعت عيناه بتحذير وهو يهتف:_اسمع! إن كان في رأسك هذا أي خطط تتعلَّق بأختي سأقتلك هذه المرة ساري!ثم تابع مغتاظاً:_لو كان الأمر بيدي لم أكن لأسمح لك بالتجاسر على طلبها مني ثانية، لكنني للأسف لا أريد إجبارها على شيء لا تريده، أو إثنائها عن أحمق مثلك تريده!فاجأه ساري بضحكة طويلة عالية حتى أنه مسح بعض الدمعات من جانبي عينيه متظاهراً بأن سببها الضحك وليس الألم، وبعد قليل رَد:_أنت لا تفهم حقيقة الوضع عَمَّار، يجب أن تخاف عليَّ أنا مما تنتويه أختك، وليس العكس!نظر له عَمَّار بدهشة ولم يُعلِّق فتابع ساري:_هل تثق بي عَمَّار؟ صمت طويل ثانية انتظر ساري انتهائه بفارغ الصبر، حتى ردَّ عَمَّار بغيظ:_بالرغم من دنائتك مع رهف، إلا أنني للأسف أثق أنك أحببتها دوماً، أدركت ذلك في الزفاف عندما نظرت إلى الحسرة بعينيك بدلاً من الشعور بالانتصار.أظلم وجه ساري ككل مرة يتم فيها ذِكر ذلك اليوم، وبعد قليل تحدث:_سأطلب منك طلب!"الآن وضعِك أنتِ لا يعجبني!قالتها سما بامتعاض فنظرت لها سارة باعتراض مُفتعَل وهي تهتف:_وبِمَ ضايقتُ أنا الأستاذة؟ردَّت سما بحنق:_ما دُمتِ أنتِ تهتمين به، وهو من جِهَته قد أوضح اهتمامه، ما الذي يجعلك تتهربين منه؟ حقاً لا أفهمك!همَّت سارة بالاستسلام لشرودها مرة أخرى حينما صاحت بها سما:_يا فتاة بدلاً من أن تفرحي لأنه يبادلك المشاعر تسُدين الأبواب بوجهه؟ هل هي جينات متوارثة لديكِ أنتِ وأخيكِ وابن خالتك أم ماذا؟ زفرت سارة بحنق ثم أجابتها:_الأمر ليس كذلك بالطبع يا ذكية، لكن.. أنا مُترددة، أنا غير مُتأكدة من مشاعره، أخاف أن يكون الأمر مجرد إعجاب عابر بسبب انفصاله الذي تم منذ فترة قريبة ثم يندم بعد ذلك، وإن أنا استسلمت لحبه سأنقاد بكل حمق كالبلهاء.مطت سما شفتيها ببرود قائلة: _ربما أنتِ بلهاء بالفعل كي تبحثي عن شُكوك تُكدرين حياتك بها.هبَّت سارة واقفة وهي تهتف:_أنتِ لم ترِ زوجته السابقة.هزت سما كتفيها بلامبالاة قائلة:_لم أنُل ذلك الشرف فعلاً لكنني سمعت أنها ساحرة شريرة!ظهر الغيظ على وجه سارة وهي تتحدث بضيق:_أنا رأيتها سما، إحدى ملكات الجمال!ضيقت سما عينيها باستغراب ثم تساءلت ببطء:_مهلاً سارة! هل تُحاولين القول أن سبب ترددك هو غيرتك من زوجته السابقة لأنها جميلة؟!_بالطبع لا! لكن.. سألتها سما باهتمام:_لكن ماذا؟ردَّت سارة بحنق شديد وهي تسترجع ذكريات ذلك اليوم البعيد:_عندما ذهبنا لخطبة رهف ذُكِرَت قصة زوجها السابق، وقتها لم أكن أعلم بالطبع أنه الدكتور حمزة.حدَّقت سما بها باستغراب وهي تُعَلِّق:_وماذا في ذلك لا أفهم؟ هل أنتِ لا تتقبلين أنه كان مُتزوجاً من قبل؟هزت سارة رأسها نفياً بسرعة هاتفة بصدق:_لا يا سما! مُطلقاً، لا أهتم بذلك الشيء في الأساس.فاستحثتها سما على المُتابعة باهتمام متسائلة: _وماذا إذن؟زفرت سارة بضيق شديد وهي تستسلم قائلة: _ذلك اليوم قالت زوجة خال رهف لأمي أن زوج ابنتها السابق كان يضربها باستمرار بالإضافة إلى بُخله الشديد، كما أن أهله كانوا يُهينونها كثيراً.اتسعت عينا سما واعتلت وجهها نظرة ازدراء واضحة وهي تقول:_لقد اتفقنا أنها ساحرة شريرة سارة، من الوارد جداً أنها كاذبة، رهف ومَوَدَّة مدحتا أخلاقه كثيراً، وشخصية مثل طليقته لن تُعلِن إن كانت السبب في انفصالها بالتأكيد.مسحت سارة وجهها بكفيها وهي ترد بضيق:_أعلم ذلك سما، أعلمه جيداً، ولذلك أنا حائرة وخائفة، لا أريد التعرض لصدمة مؤلمة.عم صمت للحظات قليلة فمالت سما على مسند مقعد سارة قائلة بخفوت:_هناك اقتراح يُدعى خطبة، هل سمعتِ عنه؟ إنها تلك الفترة التي تسبق عقد القران فيستطيع كلا من الرجل والمرأة اكتشاف بعض الأوجه بشخصيتيهما.حدَّقت سارة أمامها بشرود هامسة:_لا أعلم نظرت لها سما بتدقيق ثم سألتها فجأة:_هل أحببته سارة؟ أومأت سارة برأسها وهي ترُد ببساطة:_أحببته. ثم استدركت بنفس البساطة:_لا أدري متى وكيف وأنا لم أتحدث معه سوى مرات قليلة، لكني أحببته.ابتسمت سما وهي تنصحها بحنان:_لا تُصدِري حُكمك عليه إذن بدون أن تتقربي منه جيداً، لعله تعرض لافتراء منها.وشرود سارة في كلمات صديقتها كان الرد الأبلغ..لقد اكتشفت اهتمامه بها منذ ذلك اليوم الذي أهداها النظارات به، لتدرك في نفس الوقت أنها لا تنزعج من ذلك الاهتمام..ثم تدرك أنها تبادله إياه بكل ترحيب؛وبعدها تأكدت أن الأمر تعدى مرحلة الاهتمام بالفعل..وعندما أخبرها بأنه كان متزوجاً كانت من الشجاعة بحيث اعترفت لنفسها ببساطة بأنها تغار عليه! واستعادت ذلك الوقت القصير الذي تقابلت فيه مع زوجته السابقة ببيت خال رهف منذ شهور، واستعادت معه عبارات مُعينة وكأنها تسللت إلى عقلها دون وعي منها كي تقض مضجعها فيما بعد..تستطيع أن تشك في اتهامه بالبخل؛ وتستطيع أن تشك في سوء معاملة أهله؛لكن الضرب! لا تعتقد أن هناك من تجرؤ على الافتراء بهكذاشيء دون وقوعه حقاً!"تُرى ماذا تخفي خلف مظهرك الهادىء دكتور حمزةاتسعت عينا رهف بذهول وهي ترمق مَوَدَّة في صمت لِثوانِ ثم هبت من فراشها تصرخ:_ما هذا الهراء؟ عن أي عقد قران تتحدثين مَوَدَّة؟!وما إن همَّت مَوَدَّة بالرد حتى ارتفعت دقات الباب ليدخل عَمَّار فتهتف به رهف:_ماذا يحدث عَمَّار؟تظاهر عَمَّار بالدهشة وهو يُجيبها:_ماذا بكِ رهف؟ إنه عقد قرانك، والمأذون ينتظر بالخارج، كما أن عريسك وأهله قد حضروا ولقد دعوت بعض زملائي، خالك أيضاً وحمزة بالخارج، هيا! فغرت رهف شفتيها وهي تُحدِّق بأخيها ببلاهة فسألها: _ماذا بكِ رهف؟صاحت بعَمَّار:_هل أنا فقدت ذاكرتي أو شيئاً من هذا القبيل؟ هل أخبرني أحدكما أن عقد قراني سيكون الليلة؟افتعل عَمَّار ضحكة عالية هاتفاً: _لا بالطبع، لا تقلقي بشأن ذاكرتك، لقد أعددنا عقد القران كمفاجأة مُشتركة بيني وبين ساري. هتفت رهف بغضب:_كيف تتحدث عنه بمثل تلك البساطة عَمَّار؟ هل نسيت ما فعله بي؟أحاط وجنتيها ونظر إليها مُخاطباً إياها بهدوء وصدق:_لم أنس رهف، لم أنس ظلمه لكِ ولا أذاه، لم أنس أيضاً الظلم الذي تعرَّض هو إليه، وأدرك تماماً أنه بالرغم من جنونه وحماقاته فهو يعشقك كما لن يستطيع سواه أن يفعل.دمعت عيناها مُتسائلة:_أتقترح أن أسامحه؟ارتفع حاجبيه بدهشة هاتفاً:_متى اقترحت أن تسامحيه؟ أنا أريدك أن تُذيقيه الويل فهو سيأخذك مني وأنا لا أطيقه بالأصل، ولولاالحصار المفروض عليّ من محاميتك هذه لكنت طردته في التو.صمت لثوانِ ثم تابع بحنان:_لكنه سيساعدك على الحصول على حقك و مُستعد لتلقي كل أنواع العقوبات بكل ترحيب!بقوة تُحسد عليها أطرقت برأسها أرضاً؛إن كانت هناك معجزة ما جعلته يُقدِم على عقد القران قبل الزفاف.. فإن خطتها ستُنَفَّذ مهما حدث! تعمَّدت عدم النظر إليه وهي تُحاول كبح جِماح غضبها فلا تستطيع..لقد أصبحت زوجته!بمنتهى البساطة أصبحت زوجته ثانية!مالت عليها مَوَدَّة هامسة:_ابتسمي قليلاً رهف. لتُجيبها ببرود مُتعمدة رفع صوتها كي يصل إليه:_لقد ابتسمت كثيراً بالمرة الأولى!وقد وصل صوتها ومعه رسالتها كاملة!لكنه لن ينجرِف الآن لمحاولتها جذبه لشجار فإفراغ غضب..يكفيه التخبُّط الذي يكتنف جميع خلاياه الآن.. لقد رَحَل الشيخ بالفعل..رحَلَ بعد أن قام بآداء الدور الأفضل على الإطلاق..رَحَل بعد أن سجَّل أمامه أنها زوجته! لقد رآه بنفسه وهو يكتب اسمها بجوار اسمه هو. ثم رأى توقيعها المُرتجف بجانب توقيعُه هو!تجول بنظره في أرجاء صالة الاستقبال الواسعة بشقة عَمَّار ..أشخاص مُقربون؛أمه وأخته؛صديقه وخطيبته وأسرته؛والخال الذي لا يطيقه؛وذلك "الأخ"!أيُثبت كل هذا أنها قد صارت حقاً.. زوجته؟!رهف زوجته هو!عادت إليه!وعادت لتُصبِح من حقه هو وحده!رهف أصبحت زوجة ساري صبري رشوان!أخذ يُردد العبارة الأخيرة على عقله بضعة مرات لا يستطيع لها تصديقاً!ثم رَفَع عينيه إليها فلم يندهِش مُطلقاً من تجاهلها له لا يهم.. حانقة عليه .. غاضبة منه؛لا يهم!تريد الصراخ بوجهه .. تريد سبُّه وشتمه؛لا يهم!فما يهم الآن هو أنها عادت له وعادت.. زوجته!وفي شرفة منزل عَمَّار أنهت سارة المُكالمة الهاتفية مع صديقتها التي تُهنئها بعقد قران شقيقها والتفتت لتجده خلفها يرمُقها بعتاب فاضح، فافتعلت ابتسامة مرتبكة وهي تتوقف أمامه متسائلة:_كيف حالك دكتور حمزة؟ازداد العتاب بعينيه وهو يُجيبها:_لست بخير سارة، لست بخير مُطلقاً!أشعرتها لهجته بالضيق، ونظرته بالألم فوجدت نفسها تسأله بحنان تلقائي:_لماذا دكتور حمزة؟ ما الذي يُحزِنك بهذا الشكل؟غرق في عينيها ولم تستطع هي هرباً؛أخبرها كل ما يُحزنه ويُقلقه دون كلمات؛ أخبرها عن خوفه؛أخبرها عن إحساسه بالغضب والظلم إن اكتشف تبنِيها لنفس الأفكار البالية..وفجأة هتف: _ما رأيك بي سارة؟ردَّت بدهشة:_ماذا تعني؟!ثم أعطته ابتسامتها الجميلة وهي تتابع باندفاع:_نعم فهمت، أنت طبيب رائع بالفعل، القطرات التي وصفتها لي من قبل كانت كالسحر وقضت على التهاب عيني خلال....قاطعها بغيظ:_أنا لم أعنِ رأيك بي كطبيب سارة، قصدت كإنسان، ما رأيك بي كشخص؟ازدردت لُعابها وحرمته من عينيها وهي ترد بارتباك:_أنا أعتقد.. أعتقد أنك إنسان جيد، لقد كنت عادلاً معي حينما لم تُعاقبني بذنب ساري وساعدتني على التواصل مع رهف.زفر بغيظ وهو يوشك على فقد صبره ثم تحدث من بين أسنانه:_ولم أعنِ هذا أيضاً، أنا قصدت..بتر عبارته وصمت للحظات ثم قرر التخلص من ثِقَل الأمر دَفعة واحدة فَهَتَف:_هل تتزوجين ممن هو مِثلي سارة؟استطاع سماع شهقتها رغم خفوتها بينما اتسعت عيناها بذهول وتوردت وجنتاها بخجل واضح، مما أعطاه بعض الــ.. أمل!فأعاد سؤاله بإلحاح: _أجيبيني سارة! هل تتزوجين ممن له مِثل ظُروفي؟ شبَّكت أصابعها بتوتر وهي تتهرَّب بعينيها عنه فتوسلها: _سارة!وانطلق ردَّها المرتبك بدون أي معنى:_أنا.. أنا لا أعلم .. أنا..حلَّت الصدمة على وجهه وهو يفهم تحرُّجها ورفضها، ازدرد لُعابه بتوتر وهو يُشيح بوجهه بعيداً مُحاولاً إخفاء تأثير رفضها عليه بينما هي لاتزال تحاول إيجاد كلمات مناسبة فلا تنجح!ازداد توتره وهو يحُك ذقنه بأصابعه بانفعال ثم هتف:_ألا تشعرين تجاهي بأي مشاعر؟ أم أن هذا بسبب زواجي السابق؟رَفَعَت رأسها بحدة وهي تنظر له بتوتر مُتسائلة:_ما به زواجك السابق؟افتعل ابتسامة ساخرة وهو يرد:_أنتِ تعلمين قصدي، ذلك المبدأ السائد حيث لا يتزوج المُطلق أو الأرمل إلا ممن هي مثله.اتسعت عيناها دهشة ثم غضباً هاتفة: _وهل تراني أفكر بتلك الطريقة دكتور؟انبثق الأمل بعينيه مرة أخرى وهو يسألها بلهفة:_ما وجه اعتراضك إذن؟ هنا عاد تورد وجنتيها أقوى وهي ترد بخفوت:_لم أقل أنني مُعترضة دكتور حمزة لكن.. لكنني لا أعلم.. أخاف أن.. ظهرت ابتسامة رائعة على وجهه وهو يقول:_أنا لا أتعجلك بأي شيء سارة، أريد فقط أن أتأكد من قبولك المبدئي للفكرة، لفكرة ارتباطِك بي أنا.واللهفة بعينيه جعلتها تهتف باندفاع كعادتها:_لِمَ طلَّقت زوجتك السابقة؟والصدمة عادت على وجهه بأقوى صُوَرِها فكررت بإصرار: _أريد أن أعرف سبب انفصالك دكتور حمزة.والتوتر اجتاح ملامِحه ليتهرَّب هو من عينيها هاتفاً:_لم نتفاهم، هذا كل ما في الأمر، شيء وارِد ببعض الزيجات.لم تكن تعرفه قبل خمسة أشهر..لم تتقرَّب منه إلا منذ بضعة أسابيع ربما.. لكنها الآن وبِكل ثِقة تستطيع الجزم بأنه..يكذب! وَلَّى الإندفاع لتحل محلُّه القوة؛فحاصرته:_ما هو السبب الحقيقي لانفصالك عن طليقتك دكتور حمزة؟والنزق في هتافه أكد لها صدق حدسها:_لِماذا تسألين عن ذلك؟ إنها قصة انتهت منذ شُهور، لا تعنيني بشيء ولا تعنيكِ أيضاً بشيء!فكتفت ذراعيها بتحدي مُتسائِلة:_أحقاً لا تعنيني؟ ألا تعتقد أنه من البديهي أن أرغب بالمعرفة؟ ومن البديهي أن أهلي سيرغبون بذلك أيضاً؟والغضب الذي فشل في كتمه فضحُه..ربما.. كانت طليقته ساحرة؛وربما.. هو أيضاً لم يكن ملاكاً كما يبدو؛وربما.. أنها في نقطة مُعينة لم تكن مُطلقاً..كاذبة!والسؤال انطلق منها مُتوسِّلاً إجابة نافية: _هل ضربتها؟والإجابة جاءت مُصممة، غير نادمة، وللأسف.. مُثبتة:_نعم ضربتها!وها هي النهاية!وبدون كلمة أخرى تجاوزته راحلة.. ولِقِصة حب لم تبدأ بعد مُودِعة! تتقلب في فراشها بأرق، تحاول الحُصول على بعض النوم منذ قليل فلا تستطع، لقد مرت أربع ساعات منذ انتهاء عقد القران "المفاجىء" الذي لم تُخاطب خلاله زوجها بحرفٍ واحدٍ!زوجها؟!نعم زوجها..وللمرة الثانية!رنين هاتف.. ربما رسالة!"أنتظرك أسفل البناية، انزلي فوراً!" أعادت قراءة الرسالة مرتين ثم هبَّت من فراشها بذُعر وبدأت تكتب:"أتدري كم الساعة؟ إنها الثانية صباحاً!" وجاءتها حروفه باقتضاب:"أعلم، لازلت انتظرضغطت على أسنانها بغيظ شديد وهي تلتقط أقرب وِسادة تكتُم بها صرخة حانقة ثم انتفضت لترتدي أقرب ملابس طالتها يداها وتسللت بهدوء إلى خارج الشقة.وأمام المَصعد أخذت تستجمع كل الشتائم المُناسبة التي ستُلقيها بوجهه؛ المُتسلط..المُتهور...المُستفز....الـ...استقلت المَصعد وعندما هبط لتخرج جذبتها يد قوية إلى أقصى ركن مخفي بمدخل البناية! انتباها الذعر ثم الإدراك ثم الغضب فهتفت بِهمس: _هل فقدت عقلك تما.....وعبارتها اكتملت بين شفتيه! ذراعاه يُلصقانها بجسده القوي..وأنفاسها تهرب فوراً إلى رئتيه!تسمَّرت مكانها دون أي ردة فعل وهي لا تُدرِك حقاً ما الذي يحدُث؛لكنه هو أدرك!أدرك أنه أخيراً يتنفس!أدرك أنه أخيراً يفُك قيوده!أدرك أن ساري الأول الآن فقط ينتصر!أدرك أنه يودُّ البقاء هكذا طوال عُمره!وأدرك أنه لن يسمح لها بحرمانه من تلك الهِبة مُطلقاً!ثم إدراك مُتأخر منها لما يحدث.. فدفعة مُتخاذِلَة!أنفاس لاهثة يُطلقها هو..ولها وجنتان حمراوتان!بنظرات ذاهلة يُحدِّق بها..ولها شفتان متورمتان!مع نبضات قلبين يتراقصان على كلتا الجهتين..!حتى أغمض عينيه وهو يُتمتِم بخفوت دغدغ أعصابها:_قاتلتي أنتِ يا رهف! أخبرتُكِ يوماً ما أنكِ قاتلتي!والخجل بعينيها مُختلط بالصدمة يَتَسيَدهُما العتاب..فاقترب متوسلاً:_اليوم فقط رهف، الآن فقط هُدنة، وبدءاً من الغد تستطيعين العودة لغضبك مني كيفما شئتِ.وصوتها المُتكسر تردد:_ماذا تريد؟تجول في كل ذرة من وجهها بعينيه ثم عاد إلى عينيها مرة أخرى قائلاً: _أُريد احتضانك.ثم أردف مُوضحاً:_أحتاج احتضانك. وأضاف راجياً:_أموت الآن لاحتضانك!وأدرك أيضاً عدم اعتراضها بدون رد.. فاقترب!وإلى صدره جذبها.. فاستسلمت!اختض جسدها في رجفة ماثلت رجفته.. وانتشر الدفء في أوصالها مُتعدياً إلى أوصاله هو..هذا الحُضن أيضاً مُختلف!هكذا فكَّرت وهي تطير بين ذراعيه إلى عالمها الخيالي، والخالي من الجميع إلاهما..بدون ماضِ؛ بدون انتقام؛ بدون حقد؛بدون موت؛ بدون ظلم؛ بدون عار؛بدون شديد الناجي..عالم رهف وساري فقط! ثلاث دقائق من الدفء والاستمتاع والأمان والانتماء، ثم ابتعدت ببطء فأفلتها صاغراً، لكنه عاد لاإرادياً وأحاط رأسها بكفيه وبداخل عينيها غرق هامساً:_أعشقك رهف. وأردف بابتسامة حانية لا زالت غير مُصدِّقة:_بل أعشقك "زوجتي" رهف!وقُبلة أخرى فوق جبهتها دامت.. قليلاً! وشفتاه الحنونتان فوق رأسها يُشعرانها بضعف لذيذ..بشدة!وقُبلة أخرى فوق شفتيها طالت.. كثيراً! وشفتاه الدافئتان فوق شفتيها يُشعرانها برغبة بالمزيد! عندئذٍ أفلتها هو بتوتر فاضح ، يتهرب_للمرة الأولى_ بعينيه منها، مُجتذباً ابتسامة تناقضت تماماً مع الحنق الذي تصرُخ به عيناه وهو يهتف بخشونة:_اصعدي رهف! والدهشة حلَّت على ملامحها فتابع بصوت مُرتجف: _اصعدي وإن طلبت منكِ مُقابلتي بمفردنا مرة أخرى قبل الزفاف فلا تُطيعيني!ازدردت لُعابها وهي تُدرك ضعفه تجاهها؛ تماماً مثل ضعفها!أومأت برأسها وهي تتراجع إلى المَصعد المُنتظِر لتدلف إليه ولا تستمع من الأصوات حولها سوى صوت دقات قلبها.. أو ربما هذا هو صوت قلبه هو! _رهـــف!والبحة التي يُناديها به تدفعها_رغماً عنها_ إلى العودة إليه مُجدداً.نظرت إليه بتساؤل فتقدَّم يفصل بينهما باب المَصعد الذي يهُم بحرمانه منها فوضع إحدى كفيه عليه يمنعُه.وعدة سنتيمترات تفصل بينهما؛والعينين بالعينين تلتحمان؛والقلب مثل قرينه يختلج؛والأنفاس كما الأنفاس تتصارع!و.._شكراً رهف!اومأت برأسها مرة أخرى لا تفهم حقاً علام يشكُرها؛ورفع يده من على الباب فانغلق! بعد عدة دقائق أخيراً استطاعت استيعاب ما حدث؛ كيف يقدر على إشعارها بأنها المرأة الأهم بالعالم؟! بل كيف يقدر على إشعارها بأن لا امرأة سواها بعينيه؟! وكيف يحتاجها بتلك القوة؟لقد اعتقدت يوماً أنها من تحتاجه أكثر منه، وأنه باستطاعته استبدالها ما إن يسأم وجودها..والآن أدركت أن العكس هو الصحيح! هو من يحتاجها بشدة وبعنف أثارا دهشتها؛هو من يعشقها ملء قلبه؛هو من_كما قال يوماً_ يتنفسها!لم يكن يُبالِغ إذن!هل سيغير ذلك من قرارها الذي انتوته؟!وقبل أن تجيب نفسها ارتفع رنين هاتفها مرة أخرى، انتفضت بلهفة وفتحته ثم حَدقت في الرسالة النصية لثوان دون استيعاب..."الدرس الأول كان رائع وشَيِّق، وقد استفدت وتَعَلَّمت أنكِ شهية حقاً..يا قاتلتي!"وبالرغم من أنها حاولت العبوس، فإن ضحكاتها المتوردة انفلتت رغماً عنها، حتى استحالت إلى قهقهات..قهقهات اجتذبت أخيها الذي يمنعه حنقه من النوم!ارتفعت دقاته على بابها بنزق، فسمحت له بالدخول محاولة السيطرة على اختلاج كيانها بأكمله.. "لماذا تضحكين؟"سألها بغيظ فانعقد حاجباها دهشة، إلا أنه تابع:_لماذا تمسكين بهاتفك الآن؟هَمَّت بالرد حينما عاجلها بسخط:_هل يهاتفك الآن ذلك البارد المُتفرغ؟ ألا لديه بالعالم بأكمله ما يُشغِله سِواكِ؟ ألا يملك أي حِس بالوقت؟ وهل يعتقد أنه طالما تم عقد القران سيتحدث معك ليلاً كما يحب؟!اتسعت عيناها دهشة وظهرت مَوَدَّة من خلفه تكتم ضحكاتها بصعوبة، بينما هتف هو مُحذراً: _الأفضل أن ينام ويدعك تنامين، وإياكِ أن تسمحي له بالتجاوز في الحديث معك، أستطيع أن ألغي كل شيء الآن. وقبل أن يترك لها فرصة للرد جذبته مَوَدَّة بإصرار وهي تغلق الباب، وتمتمته الغاضبة وصلتها بالرغم من ذلك: _لم أقضِ معها عام واحد بعد وأخذها مني ثانية ذلك السَمِج!ورنين الرسالة الثانية انتزعها من حالة تأملها في حالة أخيها الغريبة، وبلهفة أشد من سابقتها التقطته لتطالع:"متى يحين موعد درسي الثاني معك مُعلمتي؟ أكاد أموت شوقاً منذ الآن!"وكلمات أخيها رَنَّت بعقلها فأطاعتها بلا اقتناع، ثم أطفأت الضوء وحدَّقت في سقف الغرفة، حيث ارتسمت العينان الخضراوتان.. واللتين للمرة الأولى رأت ذلك الشغف بهما!تلفتت دينا حولها بذُعر شديد وهي تُخفي وجهها خلف النظارات الشمسية الضخمة وتتطلع من آن إلى آخر نحو مدخل المطعم في انتظار.. مُهددها ومن أوشك على تدمير أحلامها!!عادت بذاكرتها لأسابيع إلى لخلف عندما نفذ الوغد تهديده لتُفاجأ بتامر يعود مُبكراً ويصفعها..لا تعلم إن كان زوجها صدق كذبتها حقاً أم لا، لكنها لن تدع ذلك الحقير عَمَّار يهدم حياتها الجديدة، ستُعطيه العقد وإن حاول شديد أذيتها ستُخبره أن ابنه هددها ثانية وليحترقوا جميعاً في الجحيم.وستبدأ في تركيز جهودها على إصلاح حياتها الزوجية وإنهاء حالة التوتر التي تسوده منذ البداية، ولهذا ربما كان الاستماع لنصيحة أمها والإنجاب من تامر هو ما سيجعله يهتم بها قليلاً.وضعت يُمناها على بطنها وهي تتنتظر تأكيد حملها بعد يومين فتحصل على الرابط الأقوى الذي سيثبت أقدامها لدى زوجها وأهله.لكنها سحبت يدها مُجفلة وهي ترفع رأسها بحدة عندما صدحت العبارة بجوارها:"مرحباً سيدة دينا! اعذريني إن كنت قد تأخرت عليكِ بعض الشيء!" وبهدوء شديد جلس فحدَّقت به للحظات بصدمة وهي تتلفظ بالكلمة الوحيدة التي استطاعت الحصول عليها: _ك..كيف؟!!"تُرى هل يحمل صديقك أي مفاجآت لنا اليوم؟"ألقت سما سؤالها المُتلاعِب فنظر لها عاصم ضاحكاً:_لا أعلم سما، فأنا_على العكس من توقع الجميع_ أندهِش من فعلاته أحياناً!تطلعت إلى سارة التي تجلس إلى جوارهما لا تستطيع إخفاء ألمها، نقلت نظراتها إلى الطاولة المُقابلة لتجد حمزة ينظر إليها بنفس مِقدار الألم فزفرت بحنق شديد وهي تميل عليها هامسة:_أعتقد أنكِ تسرعتِ قليلاً سارة، انظري كيف يلاحقك بعينيه، أقسم أنه يُحبك ولا يُجيد إخفاء مشاعِره، ربما استفزته هي فاضطر لضربها.والعبارة الأخيرة خرجت من شفتي سما بلا اقتناع فردَّت سارة:_هل تقترحين أن أبحث له عن مُبرِرات للضرب؟هزت سما رأسها نفياً بسرعة هاتفة: _لم أقصد مُطلقاً لكن...مال عاصم برأسه سائلاً: _علام تتهامسان؟ من الضحية القادمة يا تُرى؟والنزق بعيني كلتيهما أجبره على التراجُع مُحتفظاً باحترامه لذاته، بينما تمتمت سارة وهي تنظر بعيني ذلك القريب البعيد بقوة:_لم يعد هناك "لكن" سما، لم يكن هناك شيئاً بالأصل!وحمزة.. لم يستطع نزع عينيه عنها، وإلى الآن لا يصدق أن الأمر انتهى بتلك السرعة..لماذا هي متشبثة بمعرفة أكثر ما يؤلمه؟ هو حتى لم يخبر أي شخص بالسبب الحقيقي للطلاق وترك الجميع يعتقدون أنه فعل ذلك بسبب اكتشافه استدعاء طليقته لشديد وتسببها بالأذى لرهف ولأبيها أيضاً...فبالرغم من معاناته معها فإنه لا يود كشف شيء كان يخصهما وحدهما..لكن..سارة، يحق لها أن تعلم الحقيقة، يحق لها أن تطمئن.. ربما سيجب عليه القيام بشيء لم يكن يُحبذه مطلقاً!تود الصراخ، تود القتل، تود التدمير ..كيف تلاعب بها بهذا الشكل؟!كيف خانها ذكاؤها بذلك الشكل؟!كيف ظلت لفترة طويلة تعتقد أن الخيوط كلها بيديها بينما في الواقع هي وخيوطها بيديه هو؟!الآن تكاد تنفجر..تكاد تجري بالشارع تسُب الجميع وتلعنُهم..لقد خسرت أمها؛خسرت أبيها؛وخسرت ورقتها الرابحة؛والآن تشعر بأمومتها التي تجاهلتها لسنوات تجتاحها؛فترغب بطفل..طفل لها وحدها!فلم يعد لها إلا زوجها؛"ما بالك؟ لِمَ تُحدِّقين بالمرآة بذلك الشكل؟التفتت إلى تامر الذي يُناظِرها باستغراب، ليتحول غضبها كله إلى ابتسامة ناعمة لا تجيدها امرأة أكثر منها، ثم اقتربت منه بدلال وبتعجل هتفت:_ما رأيك تامر في إنجاب طفل؟ انقلبت ملامحه إلى الغضب فوراً وهو يسألها ببطء: _هل أنتِ حامل؟هزت رأسها نفياً:_لا.. أقصد ليس حتى الآن، ربما سأتأكد بعد يومين.ارتخت ملامحه ثانية ثم رد بمنتهى الهدوء:_لم أعتقد أنني اتفقت معك على إنجاب أية أطفال قبل الزواج، عذراً دينا أنا لا أحبهم!وببساطة شديدة تركها وانصرف؛بعد أن هدم بعبارة واحدة كل آمالها؛بعد أن حطَّم ببرود شديد كل أحلامها؛لكن.. سبق السيف العذل..هي حامل بالفعل وستضعه أمام الأمر الواقع وحتى يمر اليومان اللذان يفصلاها عن إعلانها نمو جنين بأحشائها يجب أن تأخذ بثأرها!لذا فقد التقطت هاتفها وطلبت أحد الأرقام، وبمنتهى البرود صدح صوتها:_مرحباً شديد بك، لقد علمت اليوم من الذي يهددني ويهددك، وهو الذي يملك الآن العقد الذي سيثبت انتماء تلك اللقيطة إليك!نفس القاعة؛نفس الحضور؛ نفس فستان الزفاف؛فهذا كان شرطها الوحيد...أن يتم الأمر بكامل حذافيره كما المرة الأولى؛والآن يدق قلبه بكل القلق!يعلم تماماً أن الأمر لم ينته عند ذلك الحد..لكنه لن يسمح بأي فِراق آخر؛سيجد الفرصة للتكفير عن أخطائه بحقها وهي معه..أغمض عينيه ثم فتحهما وابتسامته أخذت تتسع..وتتسع..وتتسع؛اتجه بعينيه إليها ليجدها تنظر إليه..من نفس المكان..كما المرة الأولى!بنفس النظرة.. كما المرة الأولى!بابتسامة على وجهها حملها هو بالمرة الأولى! واتحدت عيناهما كأن لا سواهما بالمكان ولَملَمَت فستانها لتستقيم ببطء متجهة إلى..نفس القاعدة الخشبية! مُلتقطة نفس مُكبر الصوت!لتتوقف ابتسامته فجأة.. وتنحسر..وتنحسر..وتنحسر؛وصوتها الرقيق الذي اكتسب ثقة راقت له كثيراً صدح:_من فضلكم أرغب بدقيقة واحدة من انتباهكم!توقفت الهمسات واتسعت الأعين بدهشة..ألم يحدث ذلك أيضاً في المرة الأولى؟!ألم يكن العريس هو مُطلِق نفس العبارات، بنفس المكان، بنفس النظرة كما المرة الأولى؟!حدَّقت مَوَدَّة بها بقلق.وشهِق عَمَّار بفَهم مُتأخِّر! اتسعت عينا عاصم بتوجس..واتسعت ابتسامة سما بتسلية!هَبَّت سارة هامسة:"ليس ثانية!" وزفر حمزة بضجر:"مجانين!"وساري...توسلها بعينيه، هامساً:"افعليها رهف! افعليها وحرريني!"فنفذت رغبته على الفور وهي ترمقه بتحدِ هاتفة بصوت واثق:_أنا رهف_للأسف_ شديد الناجي أُعلن أمامكم أنني أريد الطلاق من ساري صبري رشوان

Get In Touch

Cairo , Egypt

darr@elsayad121216.com

+01508281514