Cairo , Egypt +01508281514 darr@elsayad121216.com

الفصل الثامن عشر

*سَوْط الماضي* أيا حُلوتي كفى عقاباً!أيا حُلوتي ألم يتساوى ميزانِك بعد؟! أيا حبيبتي عودي إليّ!أيا حبيبتي فلتترفقي بي لابُد!ألم تنتهي؟! ألم تكتفي؟!ألم تشتاقي؟! ألم تتعبي؟!ألا تخضعين إلى صوت قلبك فيركض كلانا إلى الآخر؟!ألا تميلين إلى رغبة روحك فيسكن كلانا مع الآخر؟!هيا بنا لِنقتنص بدايتنا الجديدة!وهيا بنا لِنختطف نهايتنا السعيدة! "لِمَ لا تجيب عَمَّار؟"أطلقت مَوَدَّة هذا السؤال بضيق شديد وهي تعيد اتصالها بزوجها للمرة الرابعة على التوالي بدون أي رد منه، فهتفت بها تغريد التي تُحاول إلهاء إياد باللعب لعدم استطاعته النوم وهو يستشعر الجو المتوتر منذ ليلة الأمس:_ربما لا يسمعه مَوَدَّة.هزت مَوَدَّة رأسها رفضاً وهي تشعر بوقوع مصيبة، الصمت القاتل يُخبِرها بأن هناك ما حدث ولا يخبرها به عَمَّارلقد حاولت منذ الأمس استدرار حنان أمها كي تُخبرها بأية معلومات من خالتها قد تكون مُتعمدة إخفاءها بخصوص زوجها، لكن أمها كما شقيقتها تماماً مُتمسكة بأفكار بالية ومبادىء عقيمة فترى أن شديد بك يصلح خطأه.. أو ربما يقوم بوأده!لكن أبيها هو من كان على قدر ثِقتها وأخبرها أنه سيحاول الوصول إلى مكان شديد عن طريق صلاته الكثيرة دون الانتظار لمرور الأربع وعشرين ساعة._سأُجَن تغريد، لقد كان يراسلني كل ساعة حتى لا أُشغِل الهاتف ولقد توقف منذ ساعتين عن ذلك، ولا يرد حتى على اتصالاتي. _ربما....وبترت تغريد عبارتها عندما ارتفع رنين هاتف مَوَدَّة فأجابت بلهفة:_عَمَّار! هل وجدتموها؟وبعد صمت للحظات شحب وجهها به تماماً رد هو بكل الألم والخسارة: _لا مَوَدَّة، لم نجدها.. ربما.. ربما فقدناها إلى الأبد! سقطت مَوَدَّة على أقرب مِقعَد بعد أن خذلتها قدماها تسأله بصوت مبحوح:_ماذا تقصد؟واستطاعت سماع نشيج زوجها وهو يهتف بصوت مُتقطِع:_لقد أحرق المكان مَوَدَّة، لقد أحرق المخزن الذي احتجزها به...وبصوت متحشرج رددت كلماتها الذاهلة:_م..ماذا تقول عَمَّار؟ إنه والدها.. ربما لم تكن هناك بالأصل، هو لن يــ.. لكنه قضى على آمالها هامساً باختناق:_لقد وجدنا حذائها!ولم تستطع حتى طلب أية تفاصيل عندما زاغت عيناها فجأة وفقدت وعيها!"ساري! هيا قُم، رجال الإطفاء يقومون بعملهم الآن، إن شاء الله لن..."تقطعت عبارة عاصم وهو يهرب من عيني ساري الدامعتين المصدومتين ووجهه المُغبَّر ثم استأنفها مُشيحاً بوجهه بعيداً:_إن شاء الله لن يجدوها بالداخل.ويبدو أن صديقه لم يسمعه بالأساس فتركه على مضض وهو ينظر له بألم شديد... ساعتان مرتا منذ تعاون هو وعَمَّار وحمزة على جذبه من داخل النيران التي اندفع إليها هائجاً صارخاً باسمها، لكنه كان كالثور يدفعهم بعيداً بغضب حتى اضطروا إلى ضربه وإفقاده وعيه وإلا كان لحِق بها..وها هو بعدما أفاق مُغبَّر الوجه بثياب مُحترقة وبعض الحروق بكتفه الأيمن وصدره لم ينبس ببنت شفة وهو يراقب رجال الإطفاء يحاولون إخماد الحريق الهائل الذي ساعدت الأخشاب في انتشاره بسرعة..رافضاً أي مُحاولات لفحصه من قِبَل رجال الإسعاف بإشارة صارمة من يده، جالساً أرضاً لا تتحرك عيناه عن بوابة المخزن..هي ستخرج له الآن أليس كذلك؟ بفستانها الأبيض وحجابها الأبيض..بابتسامتها الرائعة ونظراتها الحنونة وأهدابها التي يعشق..ستُخبره أنها سامحته؛ستُخبره أنها تعلم الآن أنها انتقمت منه بما يكفي؛ ستُخبره أن الشعور الذي لا يوصف الغارق هو به الآن قد شفى غليل انتقامها ولم تعُد ترغب بالمزيد؛ودمعة..ثم دمعة...ثم دمعات....ثم صراخ:_رهـــف! وهبَّ واقفاً:_رهـــف لِمَ لا تُجيبين؟ودار حول نفسه بجنون صائحاً:_ألم تكتفي بعد؟ ألم تُسامحيني بعد؟وبكاؤه لا يحاول مُداراته مُتابعاً:_أخبريني ماذا تُريدين وسأفعله! وصراخ مُتحشرِج:_سأقيم لكِ زفافاً ثالثاً، سأبتاع لكِ فستاناً أجمل، سأُحضر لكِ عشرات من ألواح الشوكولاتة التي تُحبينها فتشكرينني كل مرة بغمزة..وشهقة بكاء مُتحسرة يتبعها صياحه:_اخرجي رهف! اخرجي وارحميني! ليُتبِعها بنبرة مقهورة:_قولي أنكِ لم تعاقبيني بتلك القسوة! مال حمزة على عاصم بعد أن فقد الأمل تماماً بعَمَّار جامد الملامح قائلاً:_عاصم، هذا مؤشر خطر، إنه يتعرض لبوادر صدمة، يجب علينا إبعاده عن ذلك المكان. رد عاصم بنزق:_إن استطعت تحريكه فأتوسل إليك أن تفعلها، أنا فشلت أمامك أكثر من مرة.هنا تقدَّم أحد رجال الإطفاء من حمزة الذي يبدو وكأنه الأكثر ثباتاً بين الجميع قائلاً:_لم نجد سوى آثار للأخشاب المُحترقة فقط بالداخل. قفز عاصم وعَمَّار إليه فوراً مُتسائلين بلهفة:_آثار أخشاب فقط؟_أتعني أن أختي لم تكن بالداخل؟ورجل الإطفاء_المسكين_ قبل أن يجد رداً وجد نفسه يُجذَب إلى الخلف ليواجه ساري المُحدِّق به بذهول يسأله ويُحذره بعينيه إن لم تعجبه الإجابة:_هل تقصد أن زوجتي لم تكن بالداخل عندما شَبَ الحريق؟هز الرجل رأسه نفياً بحذر وهو يعي علامات الجنون على وجه السائل ثم أضاف: _أؤكد لك أنه لم يحترق بداخل ذلك المخزن سوى بعض ألواح الأخشاب.ومثلما كانت ملامح الشر المجنون للتو على ملامحه ارتسمت ضحكة أشد جنوناً لم يستطع الرجل استيعابها وساري يجذبه أقرب إليه لــ..يُقبِّله! على وجنتي الرجل نثر ساري بضعة قُبلات مُختلطة بالدموع وهو يشكره، ثم انطلق فجأة إلى سيارة عَمَّار هامساً لنفسه: _لم تعاقبني !وبنظرة اعتذار ممتزجة بالحرج رمق حمزة الرجل المُندهش، ثم لحِق بِهِم وفي السيارة وكأنه عاد لينقسم إلى اثنين مرة أخرى، فقد دب النشاط فجأة بجسده وهو يلتقط هاتفه الذي لم يتأثر بشدة من النيران وأعاد الاتصال بآخر رقم ثم هتف:_هل من أخبار جديدة؟ فجاؤه صوت مُحدثته بلهفة:_لديَّ أخبار رائعة لكنني أنتظر اتصالك منذ ساعات.وبلهفة أشد سألها:_هل عرفتِ المكان الذي يحتجزها به الآن؟فردت بأسف:_لا لم أعرف، لكنني توصلت إلى شيء هام للغاية، ربما يفيدك في عثورك على زوجتك.ثم استدركت قبل أن يسأل:_لقد وجدت بعض الوثائق التي تُثبِت أن شديد بك يقوم بغش الأثاث الذي تُنتِجه معارضه، وأن الخشب المصنوع منه ذلك الأثاث ليس على تلك الدرجة من الجودة الفائقة التي يدعيها. عقد حاجبيه بحنق يهتف:_لا أفهم قصدِك.فردَّت هامسة كي لا يسمعها أحد:_إنه يقوم بحشو الألواح بالأسمنت كي يُصبح وزنها أثقل، ثم يبيع معروضاته بأعلى الأسعار لكنها في الحقيقة لا تساوي شيئاً.ارتسمت نظرة حاقدة بعينيه مُقترنة بابتسامة ساخرة على شفتيه وهو يزفر براحة هاتفاً: _سيُفيدني ذلك بالتأكيد، أخبريني هل تستطيعين إخباري برقم هاتف أنور مُساعده؟أجابته مُسرِعة:_لديَّ رقمه بالفعل، انتظر لحظة!وأشار بكفه لعَمَّار أن يعطيه هاتفه ففعل فوراً والأمل يدُب في روحه، كتب ساري الرقم الذي أملته المرأة عليه ثم ردد:_لقد كتبته، الآن حاولي الانصراف من الفيلا بدون أن يشعر بكِ أحد واحتفظي بالملفات ولا تُسلميهم إلا لعاصم، واذهبي إلى الشقة التي أرسلت عنوانها لكِ صباح الأمس.فأجابته المرأة بحنان:_سأفعل يا ولدي، اعتني بنفسك جيداً، حفظك الله ورد لك زوجتك. اجتذب ساري ابتسامة بصعوبة وهو يرد:_شكراً سيدة سناء!وعندما أنهى المُكالمة التفت عَمَّار إليه بحدة هاتفاً: _السيدة سناء؟! مُديرة شئون الفيلا؟!وبنبرة شاردة أجابه ساري:_هي بِذاتها!تطلعت دينا إلى وجنتيها المُتورِمَتين من خلال المرآة عندما استطاعت التوقف أخيراً عن البكاء بعد أن قام بجذبها من شعرها صاعداً بها إلى جناحهما بالأعلى وسط نظرات أهله المُشجِعة..تشوه جمال وجهها بفعل صفعاته، اكتسبت ذراعاها لوناً قانياً بسبب شدة قبضتيه عليهما، تورمت رأسها عندما دفعها لتسقط أرضاً بجانب الفراش..وفي ذلك المكان بالتحديد؛وعلى ذلك الوضع بالتحديد؛لا تعلم من أي خلية بعقلها قفزت إليها تلك الذكرى!قبل عدة سنوات:دفعت شروق رهف بعنف أرضاً حتى اصطدمت جبهتها بالجانب الخشبي للفراش فصرخت بألم وهي تزيح الدمعات التي شوشت الرؤية عن عينيها هاتفة بتوسُّل:_أرجوكِ زوجة خالي اتركيني!لكن شروق لم تتر كها، بل امتدت كفها لتصفعها وهي تصيح بها:_أعطني المال حالاً، أنا أعرف أنه أعطاكِ إياه!ومن بين شهقاتها الباكية ردَّت:_خالي أعطاني المال لأنني أريد الالتحاق بفصل تقوية قبل الامتحانات، أرجوكِ زوجة خالي اتركيه لي، أنا بحاجة شديدة له، لم يتبق سوى أسبوعان على الاختبارات.جذبتها شروق من شعرها هاتفة:_لا أهتم بتلك الفصول ولا الاختبارات، لا أهتم إن اجتزتِ اختباراتك اللعينة أم لا، ابنتي تحتاج تلك النقود وأبوها هو صاحبها، هي أولى منكِ بها.صرخت رهف بألم مُختلط بالقهر:_دينا تريد المال لشراء حقيبة جديدة، لكنني أحتاجه أكثر. ثم استدركت مُتوسِّلة:_اسمعيني زوجة خالي، اتركي لي الخمسين جنيهاً الآن، وعندما أُنهي الاختبارات وأعود للعمل في محل الملابس سأعطيها مثلهم.ضحكت دينا بسخرية وهي ترد:_وهل تعتقدين أنكِ ستتحكمي في راتبك أصلاً؟ يبدو أنكِ نسيتِ أن أبي يتحمل مصروفاتك بدون حق، أنتِ لديكِ أب هو من يجب عليه الإنفاق عليكِ، هيا أعطني المال لقد تأخرت!وبنظرة مقهورة مُتحسِّرة أخرجت رهف ورقة من فئة الخمسين جُنيهاً من جيب قميصها فاختطفتها دينا منها بلهفة وهي تنطلق إلى الخارج، وعندما ألقتها شروق بنظرة الحقد المُعتادة.عادت إلى واقعها هي الأليم على انعكاس صورته بنظرته المُرعبة بالمرآة فالتفتت تنظر له ليعاجلها بحنق:_ألازلتِ هنا؟اقتربت منه وبلهجة مُتحسِّرة سألته:_لماذا لم تصارحني؟ لماذا لم تعطني الخيار؟اتسعت ابتسامته الساخرة التي باتت تكرهها وتخاف منها قائلاً:_عن أي مُصارحة وأي خيار تتحدثين دينا؟ أنا لوَحت لكِ بورقة الرفاهية وأنتِ لهثتِ خلفي بإصرار.وتابع متهكماً:_لاتليق بكِ مشاعر الأمومة التي تحاولين التشبث بها بلا جدوى، ربما كنتِ بارعة في تصنع الرقة والدلال، لكن في تصنع دور الأم، أنتِ فاشلة تماماً حبيبتي.ثم اقترب منها بتؤدة قائلاً بخفوت:_فأنا_على العكس منكِ_ اهتممت بمعرفة سبب طلاقك من الدكتور، ولقد فاجئتِني حقاً، ونصيحة لكِ.. لا تخبري صديقاتك بأدق أسرارك، لأن أي شيء يمكن شراؤه! اتسعت عيناها بصدمة وشحبَ وجهها أكثر مدركة أن صديقتها قد خانتها حقاً وأفشت السر الوحيد الذي لا يعلمه عنها أحد، حتى أمها نفسها!لكنها بالرغم من ذلك ردَّت بنبرة مُتخاذِلة:_كان من حقي أن اعرف، كان من حقي القبول أو الرفض.تراجع تامر إلى أقرب مِقعد وجلس عليه ببطء واضعاً ساقاً فوق الأخرى مُوَجَهة لها، ناظراً إليها بتدقيق:_قبول أو رفض! جميل!وعقد حاجبيه باهتمام متابعاً:_ أتعنين أنني لو كنت أخبرتك منذ البداية بأنني لن أستطيع الإنجاب مُطلقاً كنتِ سترفضين الزواج مني؟ازدردت لعابها وهي تفكر في إجابة سريعة لا تُزيد من سوء موقِفها لكنه لم يُمهِلها حينما أردف بهدوء جاد: _ها أنا أعطيكِ الخيار الآن دينا، أنتِ الآن تعرفين أنكِ إذا أكملتِ حياتك معي لن تُصبحي أماً أبداً، أتريدين الاستمرار معي؟ أنا وأنتِ فقط؟عندئذٍ اتسعت عيناها دهشة وبدأت الفرحة تتسلل إليهما بالتدريج..لن يتخلَّى عنها إذن! لن يتركها!لن يُطلِّقها!لن تُحرم من مُستواها الجديدلن تــ... توقفت آمالها فجأة مع انطلاق صوت ضحكته الساخرة التي تحولت إلى سُعال شديد بآخرها وهو يتحدث:_آسف! لم أستطع مقاومة رؤية انبثاق الأمل في عينيكِ مرة أخرى، حريّ بكِ أن تنظري إلى وجهك بالمرآة، لقد أوشكتِ على الرقص فرحاً!أكان يسخر منها؟! أكان يتبع سياسة التشويق والحرمان معها؟!هب واقفاً ماحياً ابتسامته سامِحاً لغضبه بالظهور على وجهه بأشد درجاته وهو يُمسِكها من ذراعيها كي يُزيد في آلامِها صائحاً: _هل تتخيلين أنني قد أقبل بالاستمرار مع امرأة مثلك حتى إن قبلت باستحالة إنجابي؟! امرأة حقيرة ليس لديها غالِ أو عزيز؟ لقد ضحيتِ بأمك ما إن أبديت رفضي لحضورها واكتفيتِ بسرقة بعض الأموال مني وإعطائها لها ولم تطالبيني بالموافقة على انتقالها إلى هنا ثانية ، هل سألتِ عنها بعدها؟ هل اهتممتِ بمعرفة أين تعيش ومع من تعيش؟واتسعت عيناه بدهشة حقيقية وهو يضيف صائحاً:_إنها أمك يا امرأة! تركتها بلا مأوى ونسيتها تماماً باحثة عن طفل لتؤسسي حياة جديدة معي أنا؟! وبضحكة عالية أردف:_حتى أبوكِ لم يتحملك، أنتِ دبرتِ الخطط والمكائد للآخرين أثناء وجودك تحت سقف بيتي، أنتِ ذهبتِ إلى بيت رجل آخر بدون علمي والتقيتِ بآخر بدون علمي، لاهثة خلف تخريب حياة ابنة عمتك التي أكاد أجزم الآن أنها لا علاقة لها بطلاقك أبداً، أنتِ مسخ مُتوحش دينا وأنا لا أتحمل رؤيتك أمامي يوماً إضافياً. ومع آخر كلمة دفعها بعنف لتسقط بنفس المكان مرة أخرى..كما كانت رهف منذ سنوات!وهو يُشرِف عليها بمنتهى الشماتة من علو..كما كانت رهف منذ سنوات! وينظر إليها بمنتهى الاحتقار والازدراء..كما كانت رهف منذ سنوات!وهي تشعر بالخزي والإذلال..كما كانت رهف منذ سنوات!ثم:_أمامك ساعة واحدة لتجمعي ملابسك وتخرجي من بوابة الفيلا وإن صادفت وجهك بأي مكان سأُشوِهه!"الآن ساري أريد أن أعرف ما هي علاقتك بالسيدة سناء؟ ولماذا هي تخدع أصحاب البيت الذي تعيش وتعمل به؟!"صاح عَمَّار بسؤاليه في غرفة الاستقبال بشقته وهو ينظر إلى ساري الذي يجلس بإعياء شديد على أحد المقاعد واضعاً رأسه بين يديه بعد أن ارتدى أحد قُمصانه بدلاً من ذلك المُحتِرِق.ولمَّا بدا عليه أنه لم يستمع إليه من الأساس تبرَّع عاصم بالإجابة:_السيدة سناء فقدت زوجها بسبب أبيك عَمَّار!حدَّق عَمَّار به بدهشة مُتسائلاً: _كيف؟زفر عاصم بضيق وهو يقُص الحكاية التي علِمَ كل خباياها من صديقه الغائب في عالم آخر وهو بينهم:_السيدة سناء كانت مُتزوجة من أمين مخازن عَمِلَ بمصنعكم لسنوات، كان يُساعد أبيك في تزوير الحسابات فيتربَّح كلاهما، حتى أن....بتر عاصم عبارته مُختلساً نظرة قلِقة إلى ساري ثم تابع:_حتى أن ساري ووالده قد سمعاهما ذات مرة أثناء اتفاقهما.شحب وجه عَمَّار والفكرة تطرق على رأسه بقوة قائلاً:_أهو نفس الرجل الـ..بتر عبارته عندما رفع ساري عينين داميتين إليه مُجيباً عن سؤال لم يكتمل: _إنه هو.. شوقي الذي رأيته أنا وأبي يتفق مع أبيك على تقسيم الأرباح بعد تزوير الحسابات الخاصة بإحدى الصفقات.عم أنحاء الغرفة وعَمَّار يشعُر بالخزي أكثر، بينما قطع حمزة ذلك الصمت مُتسائلاً: _لا أفهم، إن كان زوجها كان شريك لشديد، كيف لها الآن أن تُساعدك أنت؟جاء صوت ساري مُحمَلاً بذكريات أليمة: _كان لديهما طفل وحيد أُصيب بالداء الخبيث، حينما اكتشفت السيدة سناء أن زوجها مُختلِساً ومُزوِّراً، ثارت عليه وألحت في طلب الطلاق فطلقها، وبعد حادث أبي وإخوتي و.....حَبَس بقية عبارته التي تفتح باب قبو مظلم صار يملكه حقاً اسماً، لكنه مملوكاً له فعلاً!ثم ازدرد لُعابه لتابع بصوت متحشرج:_كان حاضراً بباحة المصنع عندما هددت أنا شديد بالقتل!رغِبَ عَمَّار بإيقافه عند ذلك الحد؛رغِب في سد أُذُنيه؛لكن ساري لم يكن ليمنع تدفُق سبباً آخر يمُدُه بالوقود في معركته ضد ذلك القذر...: _يبدو أن ضميره تيقظ، خاصة مع تدهور حالة ابنه وتحميل زوجته له المسئولية بالأموال الحرام التي أنفقها عليهما، ويبدو أن الله أراد له التوبة والهداية فوعدها أن يترك العمل بالمصنع ويبدأ بمكان آخر معها ومع ابنه بصفاء وبدون اتباع طريقاً سيئاً، وبالفعل سامَحته وعادت إليه وأدرك هو مدى الظُلم الذي كان غارقاً به لسنوات. ابتسامة ضعيفة ساخرة قطع بها ساري حديثه ثم تابع: _لكن شديد الناجي لم يكن يسمح بانفلات أحد خيوطه، شوقي بالفعل علم الكثير عنه، علم أكثر مما ينبغي له في الواقع، وهكذا دبَّر قتله في إحدى الليالي وطلب حضوره إلى المصنع ثم أسقط بعض ألواح الخشب الثقيلة عليه كي يظهر الأمر أنه حادث عارِض!كان عَمَّار يلهث وهو يستمع إلى عمل شيطاني آخر من صنع يدي.. والده!بينما استأنف ساري بشرود:_مات ابن شوقي بعد شهور بسبب قِلة مصاريف العلاج المُكَلِّف، ولم يكن شديد يعلم أنه عاد إلى زوجته قبل وفاته، فقامت هي باستغلال ذلك وذهبت إلى الفيلا تطلب من محمود الناجي العمل لديهم، وعندما اعتقد شديد أنها كانت على خلاف مع شوقي قبل موته لم ير بها أي مصدر تهديد له، وهكذا أصبحت هي مدبرة منزلكم عَمَّار!ومِثلما كان وضع ساري منذ قليل وضع عَمَّار رأسه بين يديه وهو ينصِت بمرارة إلى المصائب التي اعتنقها أبوه منذ البداية مُستعيداً ملامح المرأة الطيبة التي تعمل بمنزلهم منذ سنوات، والتي كانت أكثر حناناً عليه وأخته من أمه نفسها بالرغم من أن أبيه اختطف منها زوجها ففقدت بعده ابنها أيضاً!كم شخص تسبب أبوه في تنغيص حياته؟ كم أسرة هدمها دون ذرة ندم واحدة؟سرقة، نصب، احتيال، تزوير، خيانة، تدليس، قتل، و....وماذا بعد؟! عادت نبرة ساري القاسية تترد في أذُنيه:_لسنوات كانت تتحين الفرصة للانتقام لزوجها وابنها الوحيد، حتى اصطدمت بي في أحد الأيام وتقابلنا بهدف وحيد.. كشف حقيقة شديد الناجي!وبمنتهى الهدوء الظاهري تابع ساري: _السيدة سناء كانت خير عون لي في معرفة تحركات شديد داخل الفيلا، هي من أخبرتني بزيارة دينا وأمها له منذ شهور وتهديدهما إياه بالعقد إن لم يقوم بإرهاب رهف حتى ترحل عنهم، وهي من أخبرتني باتفاقه مع مساعده أنور وبعض من رجاله كي يعتدوا على منزل خال رهف، وهي من أخبرتني بذهاب دينا إليه مُهددة إياه ثانية عندما اعتقدت أنه هو من يُهاتفها مطالباً بالعقد.واتسعت ابتسامته الساخرة وهو يتذكر التخبط الذي عاناه شديد بسببه مُستأنِفاً: _لقد اعتقد وقتها أنك أنت من تُهددهما وبالتأكيد واجَهَك بذلك.ثم ارتسمت نظرة حاقدة بعينيه وهو يهتف:_هي من أخبرتني أن تلك الحقيرة هاتفته بالأمس لتُعلِمه أنني أنا من كنت أراقبهما منذ زمن فتسببت في اختطافه لرهف. تسَمَّر عَمَّار بلا أي رد فعل ظاهري؛لكن بداخله...تدور رأسه؛يدور عقله؛يدور كل شيء حوله؛لماذا يكتشف عنه كارثة جديدة كل يوم؟!لماذا لا يستطيع العيش مع أحبائه في سلام بعيداً عن مظالمه التي تَفَحَّشَت وتوحَّشَت حتى بات اقتلاعها يتطلب معجزة؟!وأجفل عندما ناداه ساري فجأة: _عَمَّار!رفع رأسه ينظر إليه بضياع فتابع:_السيدة سناء أخبرتني أن شديد الناجي يقوم بالغش في مواصفات الخشب الذي يُنتجه مصنعه، والأثاث الذي تُنتجه معارضه.ثم ابتسم ساخراً:_أعني المُتبقية منها على الأقل! ثم انمحت ابتسامته وهو يُردِف:_والآن لدينا وثائق تُدينه لسنوات بالسجن، لن يستطيع الفكاك منها مُطلقاً، فما رأيك؟!لحظات صمت يخفي ثورة أعيُن؛ساري يجلس مُقابل عَمَّار وكلاهما مُحدِّقان ببعضهما؛بينما حمزة وعاصم ينقلان أبصارهما بينهما ثم يستقران بترقُّب على عَمَّار؛والذي لم يتأخر كثيراً وهو يرد بقسوة أثبتت أنه بالفعل..عَمَّار شديد الناجي:_إن لم تُقدِمها أنت سأقدمها أنا!نفس الرؤية المُشوشة؛نفس الوعي الضعيف للغاية؛ نفس الرأس الثقيل؛ونفس الخِدر العام؛وبدلاً من الأرض والعمود الأسمنتي وجدت نفسها تستلقي على فراشٍ ما! لحظة..والثانية...وهبَّت واقفة تتحسس جسدها بذعر؛ أين النيران؟!ألم تحترق؟!ألم يحترق ذلك المخزن بكل ما فيه بدءاً بها؟!مَهلا!إنه ليس المخزن نفسه!ما هذا الظلام الدامِس؟ وأين توجد هي؟ وكيف لاتزال على حالها بدون احتراق طفيف؟!"يبدو أن شُعلة الحب مُتقدة عن آخرها يا بِك!""إذن لنزيد من جُذوتها يا أنور!"ثم وخزة أخرى! قام بتخديرها ثانية إذن؟!ولِمَ كل ذلك العناء؟!لِم لا يقتلها ويتخلَّص منها؟!أما لِعذابها بسبب ذلك الرجل من نهاية؟! حاولت استكشاف المكان حولها بيديها فاصطدمت بأحد المقاعد ثم عادت ببطء نفس الخطوات التي تقدمتها وسقطت على الفراش بيأس..."أين أنا؟هكذا تردد السؤال بعقلها، ويبدو أن صداه وصل إلى مُختطفها الذي انطلق صوته من أحد الأركان المُظلمة ببطء:_صباح الخير رهف. انتفضت واقفة بذُعر فتعالت ضحكاته وهو يقف مُتجهاً إلى مُفتاح الضوء فأشعله..للحظات ظلت مُغمِضة العينين لا تود رؤية قسوة ملامحه، لكنها أخيراً فعلت لتتطلع حولها باستغراب إلى التعارُض الواضح بالمكان....!الفراش الذي تجلس عليه نظيف ومُرتَب للغاية؛المقعدان المُتواجدان بأحد أركان الغُرفة جديدان بحيث لم يُنزَع عنهما الورق المُغلِف لهما بعد؛طاولة جديدة هنا؛خزانة جديدة هناك؛ ثم..حوائط ذات طلاء قديم ومُتسِخ للغاية!نافذة حديدية ليس لها أي فائدة بتمرير ذلك الظلام!مِصباح يبدو مسروقاً من إحدى غرف استجواب الفترة النازية!و... سَوْط جِلْدي يبدو أنه اهترىء بسبب كثرة الاستخدام! اشتكى ذِهنها من التناقُض الصارخ الذي استقبلته خلاياه فلم يستطع لوهلة تحليلها!وانقض خاطفها على أفكارِها متسائلاً بخُبث:_ماذا بكِ؟ ألم يعجبك المكان؟وكانت إجابتها نظرة واجمة ثم إشاحة بوجهها دون كلام فاتسعت ابتسامته قائلاً:_إنه ذوق زوجك على أي حال!عادت رأسها له بحدة وهي تهتف بدهشة:_ساري؟!تعالت ضحكته وهو يُجيبها:_هو بعينه، أيُعقَل أنه لم يُخبرك عن هذا المكان من قبل؟حدَّقت بعينيه والخوف يزحف على ملامحها فتابع بابتسامة كريهة:_لقد أثار إعجابي حقاً بإصراره وذكائه، حتى أنا لم أفكر يوماً بشرائه قط، كنت أستخدمه فقط عند الحاجة، لم أكن لأترك دليلاً خلفي مطلقاً. والفكرة التي تُلِح على عقلها أخذت تطردها بإصرار مُتسائِلة بصوت مُتحشرِج:_أين أنا؟وبمنتهى الهدوء الخبيث أجابها:_أنتِ بآخر مكان قد يتوقع حبيبك وجودنا به.ثم أردف بابتسامة حاقدة:_أنتِ في بيت زوجك يا ابنتي، أنتِ في المكان نفسه حيث دعسته بحذائي مراراً وتكراراً مُستمتعاً بصرخاته المُتوسلة كي أتركه يعود إلى أحضان أمه وشقيقته.فغرت فاهها بصدمة مع اقتحام الفكرة عقلها بالفعل.."أتسألين عن روحي؟!""هي لازالت هناك، حبيسة قبو مظلم، معلّقة بسَوْط ينهال على جسدي ليبعثر كرامتي ويمزق رجولتي!"ولا تعلم لِمَ انتزعت عينيها عن السَوْط الذي يقبِض عليه شديد، ثم التفتت بحِدة إلى أحد العواميد المُتسِخة والتي لازالت تحمل.. لَطَخات قديمة لِدِماء!حملت دينا حقيبة ملابسها الضخمة بنفسها هابطة الدرجات ببطء بعد أن رفضت الخادمة حملها بناءاً على أوامر سيدتها..سيدتها التي تجلس الآن بالردهة الواسعة للفيلا تنظر إليها ولا تبغي إخفاء ابتسامة فَرِحة تتراقص على شفتيها مُقترِنة بالاشمئزاز!مظهرها مُخزي.. تعلم!وضعها مُذِل.. تعلم!حين دخلت إلى الفيلا من خلال تلك البوابة الضخمة للمرة الأولى تزاحمت خططها بعقلها؛ستُغير لون أثاث صالة الاستقبال تلك؛ستُعدِّل من مسئوليات بعض الخدم؛نوع الزهور التي قابلتها بالحديقة لا يعجبها.. ستعمل على تبديله بالنوع المُفضَّل لها؛أخوه الأوسط يبدو مُتحكماً بالجانب الأكبر من المعارض وبالتالي بالجانب الأكبر من الأرباح.. ستُنبهه!زوجة أخيه الأوسط تبدو مُنافسة غير هيِّنة لها.. ستُزيحها!زوجة أخيه الأصغر تبدو ذكية مثلها.. ستكتسِبها إلى صفها!أمه تبدو لها كارهة، ستجعلها تُحبها.. أو ستجعلها تندم!والآن.. وهي تنظر إلى نفس البوابة؛من بُدِّلت هي!من غُيِّرت هي!من أُزيحت هي! حتى الطفل الذي اعتمدت على إكسابها مكانة لدى زوجها لم يكن له وجود مُطلقاً!كما دخلت ستخرُج، إلا من بعض المصوغات والملابس باهظة الثمن، لا شيء آخر اكتسبته على الإطلاق!"اتركي تلك الحقيبة فوراً!"ونظرت بحدة إلى حماتها التي تحقد عليها بدون مُبرر؛بالضبط كما حقدت هي وأمها على رهف!واقتربت منها المرأة بعد أن مُحيت الابتسامة وبقى الاشمئزاز هاتفة:_افتحيها!نظرت لها دينا بدهشة مُتسائلة:_ماذا أفتح؟وبمنتهى البرود أجابتها المرأة: _الحقيبة! يجب أن أتأكد أنكِ لم تسرقي شيئاً منا! امرأة مِثلك حقودة وخائنة وكاذبة لن أستبعد كونها لصة! "تماماً كما اتهمت_مع أمها_ رهف بالسرقة قديما!!" تابعت المرأة باستفزاز:_أنتِ دخلتِ بيتنا بملابسك فقط، وستخرجين مثلما دخلتِ!وجاء تعقيبها مُتردِداً:_أنا.. إنها فقط ملابسي وأغراضي!ولم تهتم السيدة هدى بالرد حينما صاحت فجأة:_مــنــال!لتأتي الخادمة مُهرولة:_نعم سيدتي!وبدون أن تحيد عينا المرأة عنها أمرت خادمتها بصرامة:_افتحي تلك الحقيبة فوراً وأريني ماذا بها!وبدأت الخادمة بفتح الحقيبة وعرض ما بها على سيدتها بينما اتسعت عينا دينا بدهشة تحولت لصدمة شديدة ما إن جاء الأمر التالي:_افصلي تلك الملابس التي ابتاعها ابني بأمواله واتركي لها فقط ما أحضرته معها، وتلك المصوغات لا تتركي منها سوى حلقة الزواج، عله يكون ثمن كافِ لها.وجدت صوتها أخيراً وهي تُدافِع بضعف: _لكن.. إنها ملابسي ومصوغاتي هدايا من تامر.فهتفت المرأة بها بازدراء:_اخرسي! إنها أمواله ونتائج تعبه يا جشعة!ظلت الاثنتان تنظران لبعضهما بدون كلمة واحدة حتى انتهت الخادمة أخيراً حاملة كل الملابس الباهظة والمُجوهرات وتاركة لها فقط ما جاءت به.."هل انتهيتِ أمي؟!"جاء صوته الحانق ليُعطيها أملاً مرة أخرى فالتفتت له بلهفة بينما نظرت له أمه بقلق وهو يُردِف:_لقد طلبت لكِ سيارة أجرة ستُقلِّك إلى بيت أبيكِ، وقد قُمت باعطائه أُجرته، وحقوقك ستصلك كاملة.أيعني هذا أنه لايزال هناك بعض الأمل؟أيعني أنه توجد فرصة بينهما؟ ستعتبرها فترة إجازة ربما اكتشف بصيص من مشاعر تجاهها خلالها...حملت حقيبتها بألم مُبالَغ به وهي تترنح قليلاً بافتعال فنظرت لها أمه بغيظ من اصطناعها الذي لا يخفى عليها..بينما انتعش صدرها والأفكار المُستقبلية تعود إليها..طالما لم يُطلقها هناك أمل؛طالما لم يُطلقها هناك مُستقبل؛طالما لم يُطلِقها هناك...."أنتِ طالق دينا!" والتفتت شاهِقة وقد انمحى الألم وزال الترنُّح فقابلتها ابتسامته التي ماثلت ابتسامة أمه وهو يومىء برأسه مؤكداً لها دون إلقائها سؤالها:_أنتِ طالِق دينا! بمنزل عَمَّار:صوت الرنين القصير جعله ينتفض قائماً بسُرعة وهو يجذِب هاتفه من شاحنه الكهربائي فعم الصمت المكان وهو يقول بتوتر:_لقد قام أنور الحقير بتشغيل هاتفه!هتفت سارة به مُحَذِّرة وهي ترى الغضب يحتل ملامحه:_اهدأ ساري، يجب ألا تُشعِره بمقدار ذعرك حتى لا يستغلك، تذكَّر أنك تمتلك ما يُدينه هو وسيده، ولا تنس تشغيل مُكبر الصوت!اومأ ساري برأسه وهو يطلب الرقم وينتظر بترقُّب إجابته، بينما كتم مرافقوه أنفاسهم بقلق:_من معي؟رد أنور أخيراً فجاءته إجابة ساري هادئة على العكس تماماً من حقيقة انفعاله:_معك ساري صبري رشوان، أنت وسيدك قد اختطفتما زوجتي.صمت للحظات تقافز القلق فيها على وجوه جميع الموجودين حتى أجاب أنور ببرود:_وهل يختطف الرجل ابنته؟! أنت بنفسك أعلنت بالأمس أنه أبيها.فقد ساري هدوءه للحظة وكاد أن يصرُخ به لولا أن تمسك عاصم بذراعه مُحذِّراً فكظم غيظه بصُعوبة وهو يرد:_اسمع أنور، أنا حالياً لا أتسم بالصبر، سيدك اختطف زوجتي وأحرق المخزن كي يخدعني، لكنني أعرف أنه نقلها إلى مكان آخر وأنت من ستُخبرني عنه.ضحكة عالية رسمت القلق على وجوه الجميع بالغرفة بينما استأنفت مَوَدَّة بكائها رغم محاولت كلا من سما وتغريد التخفيف عنها، حتى عاد الصوت الخبيث للتردد في آذانهم مرة أخرى:_ولِمَ تعتقد أنني سأفعل؟ هل ستفضح أسراري مثلما فعلت مع شديد بك، عذراً فأنا لا أملك ما أخاف من انكشافه، ولن تشتري ولائي، اعترِف أن ذكاءك خانك عندما حللت مراقبتك لشديد بك مؤخراً!والنبرة الهادئة جاءت على هيئة سؤال: _ومن قال أنني فعلت؟!ثم استدرك مُستغِلاً عدم فَهم مُحدثه لقصده:_ربما أنا توقفت عن مراقبتكما الفعلية كي أهتم بالحصول على ما يُلقيكما بالسجن لسنوات! وهنا ذهب الاسترخاء من لهجة أنور وهو يسأله بانتباه: _ماذا تقصد؟والاسترخاء انتقل إلى لهجة ساري وهو يُجيبه ببطء:_أقصد يا أستاذ أنور أن الإفلاس آخر ما يجب على سيدك القلق بشأنه حالياً، فأنا الآن أمسك بين يدي وثائق تُثبِت أن الخشب الذي تُتاجرون به لا يستحق تلك الشهرة وهو بالفعل ليس على تلك الجودة التي تدعونها.صمت لثوانِ أثبتت له أنه نال منه بالفعل، وقد أوضح هو ذلك من خلال رده المُتوتر:_أنا لا أفهم عما تتحدث.تسيدت الابتسامة رد ساري وهو يُجيبه:_بل تفهم أنور، أخبر سيدك أن سلامة زوجتي مُقابل قضاء سنواته المُقبلة بالسجن يلاحقه عار حقيقي.صمت آخر والجميع كأن على رؤوسهم الطير، حتى ساري الذي كان للتو يتحدث بمنتهى الثقة تحركت عيناه في أنحاء الغُرفة بقلق مُنتظراً ردَّاً يُعيد لصدره أنفاسه:_ماذا تريد؟وبلهفة لم يستطع التحكُّم بها سأله:_أريد أن أعرف أين هي زوجتي؟ أين يُخبئها؟ وكم عدد الرجال الذين معه؟وقبل أن يرد استدرك ساري بوعيد: _وأقسم إن أخبرته قبل أن أصل إليها سأفضحه وسأفضحك معه والليلة ستبيتان بقسم الشرطة! فجاؤه الرد الهادىء المُقتضب، الذي أدرك حجم خسارته: _معه ثلاثة، يُطيعون أوامري أنا، سآمرهم بالانصراف وسيكون بمفرده تماماً._هل هو مُسَلَّح؟والسؤال الذي ألقاه بقلق، أجاب عنه أنور متهكماً:_شديد بك لا تتسخ يداه بالدماء طالما أن هناك من يفعلون نيابةً عنه! ازدرد ساري لعابه والأمل ينبعث بخلاياه دفعة واحدة شاعراً باقتراب وصوله إليها، ثم سأله بلهفة صارخة: _وأين هي الآن؟وحان وقت الرد الخاسر المقتضب:_ببيتك! فقد ساري أعصابه وهو يُصيح به:_هل تمزح معي؟ أي بيت؟ أمي هناك و....قاطعه أنور ببرود يبدو به الانهزام واضحاً:_لم أقصد البيت الذي تعيش به مهندس ساري.ضيق ساري عينيه بدهشة مُحاولاً حل اللغز، وفجأة اتسعت عيناه وفقد وجهه لونه تماماً وهو يرد بصوت مبحوح:_أنت لا تقصد...وبنفس البرود لكن مع حقد ظاهر أكمل أنور العبارة التي لم يستطع ساري التفوه بها: _بل أقصد، زوجتك الآن بنفس البيت، بنفس القبو، وربما مُقَيدَة إلى نفس العمود!وسقط الهاتف من يده؛وأطلق عَمَّار صيحة غاضبة؛وانهارت مَوَدَّة في بكاء أشد؛وشحب وجه سارة وهي تستعيد صورة أخيها عندما عاد من نفس المكان منذ سنوات بالرغم من صِغر سنها وقتها؛وانطلق ساري مُهروِلاً بساقين مرتجفتين إلى الخارج يلحقه بالطبع رِفاقه!"لِمَ أحضرتني إلى هنا؟"ألقت رهف السؤال عليه بهدوء غريب ربما بسبب المُخدِّر الذي حقنها به منذ ساعات..حافية القدمين؛جالسة على الفراش الناعم بفستان زفافها وحجابها الأبيض الذين ساءت حالتهما كثيراً؛بينما هي تثني رُكبتيها إلى صدرها تضمهما بذراعها اليُمنى وهو يواجهها على أحد المقاعد المواجهة مُلَوِحاً بالسوط بإهمال مُفتعِلاً ابتسامة قبل أن يرد:_ألا ترغبين برؤية أحد أملاك زوجك؟ لقد اعتقدت أنكِ ستفرحين بمشاركته بعض ذكرياته القديمة التي يبدو عليه أنه مُتمسِك بها بشدة.ثم انقلبت ملامحه فجأة لطبيعتها القاسية وهو يهتف:_أراد أن يقوم بدور أمير الانتقام بكل براعة، فليتحمل إذن الجوانب الأخرى لرغبته.ثم استأنف ببرود:_وأردت أنا أن تعرفي أي مريض تزوجتِ به ورفضتِ التعاون معي ضده.وببرود مماثل ردَّت:_أنت المريض لا هو! صاح بها بغضب:_احفظي لسانك كي لا أنزعه عنكِ!عم صمت مُقلق وهي تنظر له بوجوم حينما تابع هو بنبرة أهدأ قليلاً:_اسمعي! أنا كنت أستطيع إحراقك بداخل المخزن ولم أفعل، لكن هذا لا يعني أنني لن أفعلها، من الوارد جداً أن أرغب في وأد تلك القصة إلى الأبد فأحرق ذلك القبو بالمنزل وأنتِ هنا.انتظر منها إظهار أي مشاعر..خوف؛قلق؛ تردد؛أي انفعال سوى ذلك البرود المُستفز الذي يحكُم ملامحها منذ أن أدركت بأي مكان يحتجزها حالياً.. زفر بحنق وهو يُتابع:_زوجك تسبب في تدهور تجارتي واضطراري لبيع معظم معارضي، وبالطبع بعد فضيحة أمس أتوقع أن الانحدار سيكون هائلاً وقاضياً. وإجابتها كانت نفس النظرة الباردة فصاح بغضب:_إن كان يُريدِك سالمة يجب عليه تعويضي عن الخسارة التي تسبب لي فيها. والبرود أُضيفت إليه ابتسامة مُتسعة وهي تُعلِّق: _إذن المال هو ما تُريد من ساري!وردُّه الخافت أرسل الرعب إلى قلبها، لكن ليس إلى وجهها:_في بادىء الأمر فقط، بعدئذٍ لنا لقاء آخر!أدارت عينيها باهتمام في أنحاء القبو فنظر لها باستغراب وهو يسألها:_ماذا قلتِ؟ هل ستُقنعينه؟ مطت شفتيها وبدا على وجهها الاستغراق في التفكير ثم غمغمت بصوت مسموع:_بالأمس كنت أتساءل عن شعورك تجاهي أنا..بترت عبارتها ثم استدركت:_والأن أتساءل شديد بك: بِمَ شعرت عندما كنت تعذب صبياً بعمر ابنك هنا بعد أن قضيت على ثلاثة من أفراد أسرته؟ بِمَ شعرت وأنت تتسبب في وفاة طفل مريض بعمر السادسة أمام أهله، بِمَ شعرت عندما ركلت امرأة ببطنها لتنزف أمامك حتى تضطر للإجهاض؟ بِمَ شعرت عندما علمت بوفاة رجل كان كل ذنبه أنه لم يرض بالسرقة؟ صمتت لثوانِ تتأمل كل جزء حولها، ثم تابعت بنفس النبرة:_وبِمَ شعرت وأنت تُشاهد العاملين لديك يهجمون بكل القسوة والبشاعة على صبي لا حول له ولا قوة وكل ذنبه أنه اعترض على تجبرك وقسوتك؟ثم عادت بنظراتها إليه وتابعت بفضول:_هل آلمك ضميرك للحظة يا تُرى؟ هل قارنت قوتك أنت وحيواناتك المُفترِسة بقوته هو؟ هل شعرت لوهلة بمدى خسة ونذالة ما تفعله به؟ وعندما رمقها بنظرة سوداء ضحكت بسخرية هاتفة:_يا لسخافتي! أنت لم تُشفِق على ابنتك نفسها، كيف ستُشفِق عليهم هم؟!جَزَّ على أسنانه بغضب حينما عادت هي إلى صمتها وتأملاتها الغريبة، إلى أن استدركت بشرود:_أتعلم شديد بك؟ لقد عِشت سنوات عمري أنعي حظي الذي جعلني في نظر الجميع لقيطة، فقدت ثقتي بنفسي واستسلمت تماماً للبكاء على حالي مُوقنة تماماً أن مصابي لا يتحمله أحد.وزفرت بتعب ثم أردفت:_وهنا.. والآن وأنا أشاهد ما تعرَّض له ساري بسببك أنت وحدك أدرك أن حالتي كانت أفضل منه كثيراً!ثم عادت بنظراتها له، يشع وجهها بابتسامة واسعة:_إذن يا بك، جوابي لن يتغير مُطلقاً، أنا بجانب زوجي أينما يكن، وأنت لا تأمل مني سوى عدم الشماتة بِك عندما تحين النهاية!وردُّه عليها كان صفعة!صفعة هي اللمسة الوحيدة التي تلقتها من..أبيها! صفعة هي التقارب الوحيد الذي حدث بينهما! صفعة آلمت وجنتها قليلاً.. لكنها منحتها سُخرية من نفسها ورغباتها القديمة..فحينما كانت تتخيل حنان أب؛نالت صفعة!حينما كانت تتمنى حب أب؛نالت صفعة!وحينما كانت تتمنى احتضان أب؛نالت صفعة!هل هي نادمة؟ ربما نعم.. وربما لا!لا تعلم ولا تهتم بأن تعلم..هذا الرجل الواقف أمامها يرمقها بكل الكراهية والحِقد لا يُمثل لها سوى اسم..لكنه_كردَّ على وقاحتها_ يُهديها الآن مُحقِّناً آخر لا تعلم إن كانت ستفيق منه ثانية أم.....!وسقطت على الفراش مُستسلمة لنوبة جديدة من فُقدان الوعي.وعندما همَّ هو بالتراجع حيث مِقعده لينتظر وصول مساعده.. انتفض جسده مع الصيحتين اللتين اخترقتا أذنيه لصوتين عرفهما جيداً.. "لِمَ ذلك التعجُّل يا أنور؟ أنا لا أفهم شيئاً!"صاحت عبير بوجه زوجها بقلق شديد وهي تعي حالة الخوف التي تعتلي وجهه فصاح بها أيضاً:_سأُخبرك بكل شيء في الطريق، ما يهم الآن هو أن نترك المنزل بأسرع وقت وإلا سيضيع كل شيء!تملكها العناد وهي تهتف:_أنا لن أتحرك قبل أن أعلم ما الذي يحدث أولاً يا أنور، هل طردك شديد بك؟ وقبل أن يرد ارتفعت الطرقات العنيفة على باب المنزل فشحب وجهه بشدة، تحركت هي بخوف إلى الباب وفتحته ليطالعها بضعة أشخاص بزي الشُرطة الرسمي.._هل أنت أنور إبراهيم عبد البصير؟ازدرد أنور لُعابه وهو يرد:_نعم أنا.وجاؤه أمر الضابط بصرامة:_تعال معنا!وذهب أنور معهم بالفعل حيث أدرك على الفور أن..الآن أي مُقاوًمة غير مُبررة..ولا تَعَقُّل أشد من الاستسلام!"شديد الناجي!"فالصيحة الأولى كانت من صاحب البيت وعدُوُّه و.. صِهره!"شديد الناجي!"والصيحة الثانية كانت من ابنه الذي أعلن مؤخراً.. عصيانه!تَلَفَّت شديد حولُه بذعر وهو يفتح باب القبو صاعداً بنظراته إلى الأعلى باحثاً بعينيه عن مُساعده الذي تخلَّى_بدون أمر منه_ عن موقِعه بجوار الباب، ورِجاله أيضاً لم يشعر بوجودهم منذ مُدة، أوصد الباب جيداً والتقط هاتفه طالباً رقم أنور بأنامل مُرتجفة ليجد هاتفه.. مغلقاً!اللعنة!لقد وصل إليه قبل أن يصل هو!لقد أصبح قاب قوسين أو أدنى منه وهو لم يحصُل على ما يريده بعد..لكن لاتزال الورقة الرابحة بين يديه عدُوُّه يريدها هي ولن يتركها إلا بشُروطه..أصوات تكسير الباب تصله حيث هوأصوات الأقدام الهابطة إليه تصله حيث هو..وعندما هم بإمساك السَوْط الجلدي الذي رآه يستقبله على الطاولة كأنه كان ينتظره منذ سنوات.. كُسِر الباب الذي لتوه أغلقه بضربتين فقط!وحانت المُواجهة وتتابعت الصيحات.._اترك زوجتي أيها الحقير! _أين هي أختي؟أربعة وجوه غاضبة أبرزهما وجهي ابنه .. وعدوُّه!وهو في موقف لم يكن به يوماً!فريسة هو؛ضعيف هو؛بدون مُساعده الذي اختفى..وبدون رِجاله الذين اختفوا بدورِهِم..للمرة الأولى بحياته خائف هو!عَمَّار ينظر إليه بألم قبل أن يقفز بذعر حيث أخته؛عاصم ينقض إلى ذراعيه يُكبِلهُما بِغِل؛حمزة يصيح بساري الذي همَّ بالهجوم:_هل هي نائمة؟!فاختلست عينا ساري نظرة حيث الجسد المُلقى على الفراش بلا حول ولا قوة مُنتفِضاً إليها يسبقه ..هلع؛دقات قلب مُتسارِعة؛تحسس وجهها بلهفة وأنامل مُرتعشة يُناديها:_رهـــف!ولازال نداؤه لها منذ الأمس دون إجابة..هبطت عيناه إلى جسدها يتفحصه برُعب ثم بأنفاس سريعة حمد ربه عندما وجدها سالِمة.. _رهـــف!وأجاب هو نفسه تلك المرة عندما انتفض عنها إليه لاكماً إياه؛مرة..ومرة..ومرة...ثم توقف لاهث الأنفاس وهو ينظر إليه بكل كراهية الدنيا ثم انتزع السوط الذي كان يتشبث به شديد بضعف بسبب اللكمات التي تلقَّاها لتوه وجَلْدَة!جَلْدَة على وجهه تماماً بنفس الموضع الذي تلقَّاها هو فيه صبياً..وجَلْدَة أخرى!جَلْدَة أخرى على عُنُقُه أيضاً بنفس الموضع الذي تلقَّاها هو فيه صبياً.. وهم بالثالثة على صدره حينما هتف عَمَّار _الذي هَبَّ واقفاً كحاجز بينه وبين والده يطالبه بعينيه متوسلاً أن يتوقف_ بعدما فحص أخته بطريقة مِهَنِية واضحة: _فاقدة وعيها.ثم التفت إلى أبيه صائحاً:_بِمَ حقنتها؟ ولو أراد شديد الرد فعلاً لم يكن ليستطع بعد أن تناثرت دماؤه مُتبعة باثنين من أسنانه..هَمَّ ساري باستئناف تنفيث ثورته المتراكمة بالسَوْط ، لكن عَمَّار تغلَّب بصعوبة عليه وَدَفَعُه بعيداً، متوسلاً بهمس:_أرجوك ساري اتركه، من أجلي.. ومن أجل رهف!لكن ساري كان لا يشعر بما حوله حقاً..ينتقم لأبيه؛ينتقم لأخيه؛ينتقم لأخته لرضيعة؛ ينتقم لأمه؛ينتقم لرجولة فتية سُحِقَت بنفس المكان منذ سنوات؛ينتقم لحبيبته وزوجته ورفيقته ؛ينتقم لحياته وحياتها اللتين أفسدهما ذلك القذر...وبنبرة مُعذَّبَة توسله عَمَّار:_اتركه ساري، إنه أبي، أرجوك اتركه.بدا على ساري الرفض في أول الأمر ثم ما لبث أن دفعه مُودعاً فكُّه الدامي بلكمة لم يستطع عَمَّار إنقاذه منها، فأسقطته أرضاً فاقداً الوعي تحت قدمي عاصم ثم ألقى السَوْط فوق جسده. وعاد مرة أخرى إلى رهف عندما كان حمزة يهم بمتابعة فحصها فأزاح يده بعنف غير مقصود وهو يحملها متجهاً إلى الخارج هاتفاً:_ظلُّوا هنا حتى تصل الشُرطة والمحامي سيتابعكم بالقسم.وبدون انتظار رد انطلق صاعداً من ذلك المكان الذي يكرهه وكأن الشياطين تُطارِده!بينما اتجه عَمَّار رامقاً أبيه فاحصاً إياه بعينين مترقرقتين بالدموع! وفي المشفى:جلس إلى جوارها مُحدِّقاً بوجهها النائم وهو يُداعب أهدابها بحنان شديد غير واعِ بالدمعات التي تتساقط تباعاً من عينيه..يستطيع أن يظل طوال عُمره مُتأمِلاً إياها مثلما يفعل الآن..يستطيع أن يظل بجانبها ولا يترك يدها أبداً مثلما يفعل الآن..يستطيع أن يظل يتحسس أهدابها التي يعشقها إلى الأبد مثلما يفعل الآن..لكنه.. لكنه يرغب باقتراب آخر؛اقتراب لم يحظ به سوى لثلاث دقائق فقط.. وفي مدخل البناية المُظلِم!ألا يستطيع؟!زفر بضيق وهو يتلمس صبراً لم يعُد يُرويه مُقنِعَاً نفسه بأنه قريباً جداً سيُحقق كل أحلامه معها..تململت بفراشها فتعلَّقت عيناه بها بترقُّب ومسح عينيه مُسرِعاً والسؤال يعود إليه من قاعة الزفاف...هل سامَحَتْه؟والأهداب تفرقت لتمنحه نظرة مُتشوشة غير مستوعبة مندهشة؛ثم هتاف ضعيف بصوت مُتحشرج:_ساري! احذر إنه يريد ابتزازك ثم الانتقام منك!والابتسامة العاشقة اتسعت وهو يغرق بعينيها بينما أخذت هي تتطلع بعينيها حولها بدهشة حتى وصلت إلى المحلول المُتصل بوريدها.._هل نحن بالمشفى؟أومأ برأسه إيجاباً وهو لا يزال غارقاً بها.._هل تأذَّى أحد؟هز رأسه نفياً وهو لا ينوي ابتعاداً عن عينيها فزفرت براحة ثم سألته بقلق:_هل أنت تُخاصِمني؟ثم عاجلته قبل أن يومىء برأسه إيجاباً:_اسمع ساري أنا لم أهرب من الزفاف لأنني غاضبة، ما حدث هناك لم أستطع تحمُلُه بسهولة، لكنني كنت عائدة إليك فوراً حينما ظهر هو و...بترت عبارتها بلا رغبة في إكمالها ثم تابعت بنظرة مُتوسِّلة:_إذن فهل تُخاصمني؟ فليدع الرد الشفهي جانباً ولتأتِ إجابته عملية واضحة! مال عليها ملتقطا شفتيها مُخبراً إياهما عن..خيبته حينما تركته؛ومعاناته خلال الساعات الفائتة في البحث عنها؛ وذُعره وتوقف نبضاته حينما ظنَّ أنه فقدها؛واسترداد روحه وقلبه حينما حملها بين ذراعيه سالمة؛وتشبثت هي بكتفه مُستقبلة كل إجاباته باعتذار؛وترحيب؛وحُب؛بل وبادلته إياها بجرأة لم تعتقد أنها قد تمتلك مثلها يوماً؛ لحظات عشق واشتياق ولهفة مُتبادلة..حتى اختنقت أنفاسهما فابتعدا شاهقين، أسدلت أهدابها في نوبة حياء مُتأخرة فنظر هو إليها بذهول..حبيبته بالفعل سامحته!ثم حدِّق بها بحب وهو يتمسك بيديها بين يديه يتحسسهما أنامله بلهفة ففتحت عينيها مُحاوِلة التهرب منه بخجل، ليتحدَّث هو بخفوت:_أنا تعبت رهف من هرولتي بطريق الانتقام لسنوات، كان بين يدي وكنت أستطيع قتله خاصة بعد تعرضه إليكِ أيضاً، لكنني توقفت مُذكِّراً نفسي بالحياة التي تنتظرني معك، لقد وعدتك يوماً بالأمل والحب والمُستقبل والسعادة، وها أنا أطالبك بالمثل، فهل أنتِ مُستعدة لمُشاركتي رهف؟أومأت برأسها إيجاباً وهي تُشبِّك أصابع كفها الأيمن بأنامله دامعة العينين: _أنا أحبك ساري!أغمض عينيه لِوهلة مستمتعاً ثم فتحهما وبهمس دغدغ أعصابها المُرهَقة:_وأنا أعشقك يا مُشعثة، ولن أسمح لكِ بتركي ثانية.ثم عَبَس فجأة قائلاً: _لكن بالفعل أنا منكِ غاضباً!بقلق قالت:_لماذا ساري؟ لقد أخبرتك أن المفاجأة جعلتني أتصرف بطريقة غريبة و....دقق النظر بعينيها مُكرراً بمكر:_أخبرتك أنني غاضب، فكيف ستُصالحينني؟رمقته بعدم فهم فانحدرت عيناه إلى شفتيها ثم غمزها بإحدى عينيه في إشارة واضحةفتمسكت ببقايا حياء وهي تتصنع الضيق هاتفة بضعف:_أتعلم أنك عديم التربية ساري؟تعالت ضحكته الماكرة بأنحاء الغُرفة فنظرت له بحُب وهو يُجيبها:_وأنا لم أُنكِر مُطلَقاً أنني كذلك حبيبتي!ومال هامساً بمكر:_ثم أنني أقمت حفلين زفاف ولم أحصل منهما على ما هو مُنتظر، أتدرين كيف هي حالة الإحباط التي تتملكني؟!ضربته بكتفه بحنق ظاهري ووجنتاها تتوردان فأردف ضاحكاً:_لقد تخيلت مِراراً مظهرك دون حجاب لكنني لم أتوقع أن تكون الهيئة هكذا!اتسعت عيناها بصدمة وهي تتحسس شعرها بحرج ثم صاحت:_من فك حجابي؟ من رآني هكذا؟ صدقني هو ليس بهذا السوء لكنني مررت بساعات صعبة جعلته مُشعثاً، لكنه في الأحوال الطبيعية ليس وبترت عبارتها تُعيد ضربه وهو مُستغرق في ضحكات عالية، وعندما توقف أخيراً خاطبها بحنان:_وإن كان مُشعثاً، سأحبه أكثر! ثم أردف بمكر:_بالمناسبة، الدرس الثاني أكثر روعة مما توقعت مُعلمتي، لكنه ليس كافِ تماماً.وشابت نظراته عاطفة صارخة وهو يُضيف:_لِذا ترين أنني بحاجة إلى الاستفسار عن نقطةٍ ما، وأرجو منكِ أن تستفيضي في الشرح هذه المرة، لأن استيعابي بطىء بعض الشيء إن كنتِ لم تلاحظي!مال مقترباً مرة ثانية بنوايا فاضحة فأنقذتها طرقات الباب، رَفع رأسه يجز على أسنانه بغيظ وهب واقفاً مُتجهاً إلى الباب وعندما فتحه وجد أمه فأفسِح لها بالدخول مُرحِباً "أين هي زوجة ابني التي تركته بحفل زفافه؟!دق الرُعب قلبها وهي تتطلع إلى السيدة سوسن التي تنظر إليها بحنق، بينما ساري بجوارها يمُط شفتيه بأسف قبل أن يقول باستياء:_ها هي أمي، اعرضي عليها ما يمكن للحماة الأصيلة فِعله من أجل ابنها وحيدها فَلذَة كبدها.وأضاف متظاهراً بالدهشة:_شيء يستحق الدراسة بالفعل أن ليلتي زفافي كلتا منهما أسوأ من الأخرى! تنقلت نظراتها القلِقة من أمه لتتحول إلى الدهشة منه هو، بينما تابع ببؤس مُتقَن:_وعلى كل حال أنا كنت في طريقي الآن إلى عيادة أمراض القلب الآن ليخبرني الطبيب عن مدى سوء حالتي!ازدردت لعابها بتوتر ثم رددت بتلعثم: _أنا.. أنا لم أقصد أن بترت عبارتها المُعتذِرة مع انفراج ملامح كليهما وتعالي ضحكاتهما بالغرفة فابتسمت وهي تزفر براحة عندما أدركت أنها مُجرد مزحة!اقتربت منها سوسن مُبتَسِمة بحنان شديد ثم اجتذبتها إلى أحضانها قائلة: _حمداً لله على سلامتك يا ابنتي، جعلها الله آخر الصعاب. وصل حمزة أخيراً إلى المشفى مع عاصم وعَمَّار الذي احتار بين الاطمئنان على أخته أم زوجته بعد أن أخبرته شقيقته بفقدانها الوعي مرة أخرى أولاً، لكن سما قابلتهم بالأسفل لتخبرهم بأن رهف نائمة الآن وزوجها لا يبرح غرفتها فانطلق حيث غرفة زوجته.وبينما هو يبحث بعينيه عن رقم الغرفة حدَّق بغضب بالغ في سارة التي تتحدث باهتمام مع .. خالد!كَوَّر قبضتيه بِغيظ واضح مُراقباً نظراته المُستفزة البشوشة وثرثرته الفارغة بالتأكيد..ومن خلفه وصل صلاح للتو بصُحبة ابنته

Get In Touch

Cairo , Egypt

darr@elsayad121216.com

+01508281514