أنا : وهل نولد ونحن وحيدون.. هي : تزعجك الوحدة؟ انا : تزعجني، تزعجني كثيراً. هي : مهما كنت شخصاً إجتماعياً، ومهما كانت حياتك مليئة بالناس، في بعض الأحيان ستجد نفسك وحيداً.. والوحدة ليست سيئة لهذه الدرجة، لكن نحتاجها ونلجأ لها من حين إلى آخر.. وها أنت لازِلت شاباً صغيراً والحياة كلها أمامك، ستتذكر كل شيء، وسيدخلون أناس جدد لحياتك، هذه فترة مؤقتة فقط.. ودوام الحال من المحال.. وأنا كذلك لدي أبناء وبنات وأحفاد لكن لا أحد بجانبي في هذه الفترة العصيبة، الكل مشغول ومنشغل بحياته.. الشخص الوحيد الذي لو كان ما كان ليتركني لحظة واحدة، كان سيكون هنا بجانبي دائماً، لو كان حياً لأنار لي كل الدنيا.. انا : شكراً جزيلاً.. هي : عفواً.. أنا : وأنت ما هو مرضك؟ هي : سرطان الكبد.. " لبثت صامتاً لم أقل شيئاً.. هي : مرضي ليس له علاج، نعم أعلم ذلك جيداً.. أعلم أنني أنتظر موتي، وأعلم أن كل ثانية من الوقت يمكنها أن تغلق كتاب حياتي وإلى الأبد.. أعلم ذلك جيداً.. أنا : ومن قال ذلك.. هي : بعد سنة من العلاج، قال لي الطبيب أنه لم يتبقى لي الكثير في هذه الحياة.. أنا : وهل صدقتي كلام الدكتور.. هي : الطب لا يكذب. أنا : لم أقل شيئاً عكس ذلك.. لكن لا يوجد أي طب في العالم يستطيع تحديد عمر الإنسان، لا مرض ولا حادث ولا أي إنسان كيفما كان يزعم أن يقرر وقت موتك، من أعطاك الحياة هو الوحيد القادر والمقتدر على سلبها منك.. وإذا أمنت بأنك تستطيعين التغلب على المرض، ستهزمينه فعلاً وستتجاوزين كل شيء بالعزيمة والإرادة.. لا شيء اقوى من إرادة الإنسان على هذه الأرض.. هي : شكراً جزيلاً. أنا : عفواً.. (لا تندهش أبداً بأن يرشدك يائساً لطريق الأمل، فهو يعرف طريق الظلم حق المعرفة) هي : صدفة جيدة، كنا نحتاج لبعضنا البعض.. أنا : إن الله يرسلنا بعضاً لبعض كالأرزاق.. هي : متى ستخرج من المستشفى يا بني؟ أنا : قالت لي الممرضة أنني سأخرج عندما أتحسن، ولم يتبقى لي الكثير سأخرج خلال ثلاثة أيام. هي : بالتوفيق، أتمنى لك السعادة وراحة البال. أنا : شكراً.. وأنتِ متى ستخرجين؟ هي : خلال أسبوعين إذا بقيت حية.. أنا : سيكون كل شيء على ما يرام أنا واثق من ذلك.. هي : شكراً جزيلاً.. أنا : سأتركك كي ترتاحين الآن، أستأذن منك و أتمنى لك الشفاء العاجل.. هي : حسناً، هل يمكنك أن تزورني أحياناً.. أنا : بالتأكيد سوف آتي لزيارتك.. هي : شكراً. أنا : عفواً، أراكِ لاحقاً.. هي : أراك لاحقاً.. (كان شعورها بالوحدة يضاعف شعوري، مؤلم جداً أن تشعر بالوحدة وأنت وسط عائلتك.. مؤلم جداً أن تشعر بأن الناس الذين ضحيت لأجلهم لا يجدون لك وقت ليكونوا معك ويقفوا بجانبك..) وأنا راجع للقسم الذي أتداوى فيه مررت كذلك من جانب قسم الأمراض النفسية، كنت أشعر وكأنني أتجول في السوق، كل غرفة كانت تضج بضجيج أصحابها والحكايات التي يسردونها لبعضهم البعض.. هناك من كان يضحك بهستيريا وهناك من كان يبكي، كل واحد منهم كان له عالمه الخاص.. وواحد منهم كان خارج غرفته يتأمل من خلال النافذة خارجاً، كان واقفاً وهادئاً.. لم أستطع تجاوزه، كان لابد لي قول شيء.. أنا : يا له من يوم جميل وهادئ، وشمس خجولة تطل علينا من وراء الغيوم، أنظر إلى تلك الحديقة الخضراء المزينة بالورود والأزهار، والطيور التي تعتلي أشجارها.. هو: (نظر لي بحدة)، لا أعلم على ماذا تتحدث إني لا أرى شيئاً مما ذكرت.. أنا : وماذا ترى؟ هو: وهل هذا سيفيدك في شيء.. أنا : نعم، كثيراً.. هو : أرى أن الجو غائماً لا أرى أي شمس، و أرى ذلك الطير الأسود محلقاً في السماء، أنظر للأمام.. لماذا كل هذا الفراغ يكسو هذا المكان؟ لماذا كل هذا الشيء الذي يحيط به؟ أنا : كل هذه المناظر الخضراء الخلابة لا تراها؟ هو : وكل هذا الفراغ لا تراه؟ (لم أكن أعرف من هو المحق فينا.. شككت في عيناي) هو : ما رأيك أن نجلب شخصاً إلى هنا ونسأله عن ماذا يرى؟ أنا : فكرة سديدة. (أتى بشخص من الغرفة المجاورة إسمه لويس) هو : لويس أنظر للخارج و قل لنا ماذا ترى. لويس : (بعد تأمله لمدة أقل من دقيقة واحدة، أغلق النافذة وأنزل الستائر) أنا : لويس، لماذا أغلقت النافذة وأنزلت الستائر؟ لويس : هل أنت أعمى؟ (أزاح شقاً من الستائر من على النافذة)، أنظر كم عدد الناس بالأسفل يراقبونني، غاضبون مني يريدون قتلي.. أنا : لكن.. لويس : لا تفتح هذه النافذة مجدداً، واقفل الأبواب بإحكام.. (انصرف لويس إلى غرفته وقفل بابه).. هو: هل لازلت مقتنعاً بما رأيت؟ أنا : إني أقول الحقيقة.. هو : إن في بعض الأحيان لا يكون للحقيقة أي معنى.. تختلف الرؤيا والتجارب من شخص لأخر. " ليس لأنك رأيت الأشجار والأزهار والألوان، فيجب علي أنا رؤيتها أيضاً.. ليس لأنك أنت شخصاً سعيداً يتحتم علي أن أكون سعيداً أيضاً.. " ينجذب الإنسان دائماً للأشياء المدفونة في أعماقه ".. (لقد أعطاني درساً لم يعطه لي أحد طوال حياتي، لم يسبق لأي شخص عاقل أو شخص سوي نفسياً قول ذلك لي) " المصحات النفسية مملؤة بأناس حكيمة وواقعية غير موجودة في الخارج".. قررت أن أرجع لغرفتي بعد كل هذا، أول ما فتحت الباب وجدت باقة ورود بيضاء جميلة فوق الطاولة مصحوبة برسالة.. لم أقرأها لأني كنت متأكداً أنها ليست لي، يبدو أن الذي وضعها أخطأ في العنوان. نزلت للإستقبال كي يساعدوني لإرجاعها لصاحبها، لكنهم لم يعرفوا مصدرها، فبقيت عندي.. وعند رجوعي للغرفة سمعت حواراً من مسرحية ما تلقيه بنت صغيرة عمرها سبعة سنوات برفقة دميتها في قسم أمراض القلب والشرايين.. (هي تجسد دور الأب ودميتها الإبن) هي : أنا لا أريد غير مصلحتك يا إبني.. الدمية : مصلحتك أنت، منذ متى وأنت تفكر في مصلحتي، أنت لا يهمك سوى نفسك.. هي : لقد وددت أن تكون أفضل مني.. الدمية : أنت استعملتني لتحقيق حلمك أنت ليس حلمي أنا، أنت أنجبتني لتعويض ما فاتك، لقد عشت حياة لا أريدها.. هي : لكن ما المشكلة في أن تكون محامياً؟ هذا عمل شريف ونزيه. الدمية : المشكل ليس في المهنة، المشكل في أنه لي مهنة وهواية أخرى كانت هي كل حلمي، وأجد فيها نفسي، المحاماة كانت حلمك أنت، ليس حلمي أنا، لقد ظلمتني كثيراً بقراراتك.. هي : هل لا يحق لي تحقيق حلمي أنا؟ أن أكبر وأرى ابني يعوضني عما فاتني؟ الدمية : لا، ليس من حقك أبداً، لا يحق لك استعمالي، أنا لست آلة.. (التفتت ورأتني) أنا : مرحباً، كيف حالك؟ هي : مرحباً، أنا بخير. أنا : ما اسمك يا جميلة؟ هي : اسمي زهراء. أنا : وكيف لزهرة مثلك ألا يكون إسمها من مشتقات الزهور، تفضلي هذه الزهور الجميلة لك.. زهراء : شكراً كثيراً، و أنت ما إسمك؟ أنا : (بحزن كبير) لا أتذكر.. زهراء : كيف ذلك؟ أنا : فقدت ذاكرتي.. زهراء : لا بأس ستستعيدها لاحقاً، متأكدة من أن اسمك سيكون لطيفاً مثلك. أنا : شكراً جزيلاً على لطفك، المسرحية التي كنت تلعبيها مع دميتك كانت جميلة، كنت أراك من وراء الباب. زهراء : نعم، دائماً قبل أن أنام ألعب مسرحية مع دميتي. أنا : و من أين تأتين بهذه المسرحيات؟ زهراء : إنها لي، أنا من أكتبها.. أنا : جيد جداً، كاتبة صغيرة إذن؟ زهراء : نعم، بحوزتي الكثير من المسرحيات القصيرة و المقالات. أنا : ما إسم هذه المسرحية؟ زهراء : سجن الأحلام. أنا : جميل، و بماذا انتهت هذه المسرحية الجميلة؟ زهراء : انتهت بدخول المحامي (الإبن) للسجن، وتحقيق نجاح كبير لكتابه، وندم الأب على ما وصل له ابنه. أنا : روعة، ما رأيك أن تلخصي لي الأحداث التي تدور حولها المسرحية في سطور قليلة، إني متشوق كثيراً لسماعها. زهراء : بكل سرور. (أب كان يحلم بأن يكون محامياً لكنه فشل في ذلك، فقرر بأن ابنه سيحقق له حلمه، ابنه كان كاتباً معروفاً يحب الكتابة كثيراً ويبدع فيها، لكن ابوه كان يقسو ويضغط عليه كثيراً عليه كي يدرس القانون وينجح فيه بمعدلات كبيرة، فقرر بعدها الاِبن أن يحقق الحلمين معاً، حقق حلمه بالاِجتهاد والمثابرة، وحقق حلم أبوه بالغش، كان كل شيء مزوراً من الإمتحانات إلى المهنة التي يزاولها.. كان كاتباً رائعاً ودقيقاً.. ومحامياً غشاشاً ومكاراً، ترافع على عدة قضايا وكسبها إلى أن اكتشف امره ودخل السجن، تلقى شهرة كبيرة بعد ذلك، شهرة أكبر من قبل.. وندم الأب بعد فوات الأوان لفرض حلمه على ابنه. أنا : مسرحية جميلة جدا، هل تذهبين للمسرح؟ زهراء : أحب المسرح كثيراً، وكم وددت الذهاب إليه، لكني ولا مرة ذهبت إليه. أنا : حسناً، عندما تخرجين من المشفى، سأخذك كل يوم سبت للمسرح. زهراء : وعد.. أنا : نعم، وعد.. تصبحين على خير، لقد تأخر الوقت كثيراً. زهراء : تصبح على خير، سأنتظر ك في الصباح. أنا : و أنا سأكون في الموعد.. أحلام سعيدة.. خلدت للنوم بعد عناء طويل، كانت الجملة التي قالها لي ذاك الشخص المتواجد في قسم الأمراض النفسية تتردد في خاطري كثيراً.. (إن في بعض الأحيان لا يكون للحقيقة أي معنى) فعلاً الحقيقة أحيانا لا تفيدنا في شيء.. ماذا لو كانت حقيقتي في معرفة نفسي ومن أكون كذلك.. وللبحر رأي آخر، لا أدري لماذا يحاول إغراقي فيه حتى في أحلامي؟ لا أعلم لماذا يتبعني أينما كنت.. نهضت صباحاً وكالعادة كوب القهوة في يدي وأنا واقفاً أمام النافذة، أستيقظ كل صباح بحماس وشغف أكبر من اليوم الذي قبله، أرى جمال الزهور وأتمعن في لافتة المحل المثيرة، مكتوب فيها هذا اليوم... (الحياة ليست منطقية، لكنها عادلة) فعلاً لا يوجد منطق في الحياة، والذي يخطط وفقاً للمنطق فهو مجنون.. جنون أن يكون شخصاً يفكر بمنطق في حياة بلا منطق. ليس من المنطق أبداً أن نتصرف بمنطقية.. أما العدل فهو موجود، لكنه منقسم إلى نوعان.. نوع مباشر والآخر غير مباشر، لكنهم لا يختلفان وجهان لعملة واحدة، والأهم من ذلك هو وجوده.. كنت أفكر في أن أضع تخطيطاً أملأ به وقت فراغي و أستفيد منه، لكني تذكرت أني قلت لزهراء أنني سأزورها صباحاً، نزلت لغرفتها.. رأيت الممرضة ترتب السرير والغرفة.. لم تكن هناك زهراء كانت فقط دميتها ملقاة على الأرض.. أنا : أين هي زهراء؟ الممرضة : ماتت.. أنا : كيف ماتت؟ الممرضة : كانت مريضة جداً ولم تجد أي متبرع، هل أنت من أقاربها؟ أنا : نعم. الممرضة : تعازي. أنا : إلى أين أخدوها؟ الممرضة : أخدوها لتأدية مراسم الدفن. أنا : هل يمكنني أخذ هذه الدمية؟ الممرضة : نعم خذها، وخذ هذا الكتاب فهو أيضا لها. أنا : شكراً.. (رجعت لغرفتي مكسوراً، مبعثراً، مخنوقاً، لا يسعني هواء العالم.. حامل دميتها وكتابها الذي كانت تكتب فيه كل مسرحياتها) لم أفي بوعدي لها، ولا أستطيع ذلك أبداً.. لقد وعدتها بأن أخذها للمسرح كل يوم سبت لكني الآن لا أستطيع. غريبة هذه الحياة يمكنها إعطاءنا والأخذ منا متى شاءت، يمكنها أن تأخذ ما تريد في الوقت التي تريد.. اِستلقيت فوق الأريكة كالجثة، كان كل شيء هادئاً وصامتاً إلا عقلي، كان مزدحماً بالكثير من الأفكار. إني أخاف كثيراً من هذا الهدوء والصمت الذي يستولي علي فجأة، أخاف لأنني أدرك أن بعد ذلك سأصبح شخصاً آخر.. (وبالرغم من أن ذاكرتي منفية، ومن كل هذا السواد الذي يحيط بي والوحدة التي تقهرني، كان هناك شيء في داخلي يذكرني أن هذا الشيء لن يدوم، كنت أحاول ألا أفقد الأمل بالرغم من أنني شخص سوداوي لا أرى غير الجانب المظلم من الحياة والجزء الفارغ من الكأس).