مرت علي سنوات قاسية، ليالي كئيبة.. رأيت كل الظلام، كل السواد، كل الظلم، كل الخبث، وكل الألم.. تخدرت من الألم، كنت أتمزق من الألم، فقدت الكثير، فقدت نفسي، صرت شخصاً لا أعرفه، فقدت الأمل في كل شيء حتى أنني اِعتدت اليأس.. لكن ولا مرة فقدت الإنسانية التي كانت بداخلي، كانت هي النقطة الوحيدة التي لم يصل لها أحداً، كانت هي مصدر الضوء الوحيد الذي أوصلني لطريق النجاة. فتحت عيناي وجدت نفسي في غرفة صغيرة مستلقياً فوق السرير، لم أكن أعلم أين أنا، لم أكن أتذكر أي شيء تماماً. كنت مثل الصفحات البيضاء الموجودة في الفراغ.. سألت الممرضة التي كانت في الجوار. أنا : ما الذي حدث لي؟ الممرضة: وجدك أحد الصيادين في البحر وأنقذ حياتك، لقد نجوت من الموت وخرجت من البحر سالماً. أنا : لكني لا أتذكر شيئاً.. الممرضة : أنت فاقد لذاكرتك بنسبة كبيرة تقريباً مئة بالمئة، بسبب ارتطام رأسك بالحجر.. عندما تتحسن ستتذكر كل شيء، لا تضغط على عقلك بالتفكير في ذلك.. أنا : شكراً.. الممرضة : ترك لك الصياد هذه الورقة في حالة كنت تريد التواصل معه أو شيئاً من هذا القبيل.. أنا : شكراً كثيراً.. الممرضة : أتمنى لك الشفاء قريباً.. اِستيقظت صباحاً.. أطل من النافذة، كان صباحاً جميل و الجو بارداً والسماء مليئة بالغيوم و الشارِع مملوء بالناس، هناك من سيذهب لعمله و هناك من سيذهب للدراسة.. وكان دكان الزهور مقابل لي من ناحية أخرى يجذب أنظاري بأزهاره الجميلة الملونة كالريحان و الأقحوان و التوليب، وكانت لافتة كبيرة معلقة أمام المحل مكتوب فيها " أزهاري الجميلة لا تموت.. أزهاري تقاوم " كانت مكتوبة هذه العبارة بلغتين اللغة العربية و اللغة الإسبانية (اِستطعت قراءتها كاملة) وهذا يعني أنني لم أنسى اللغات التي تعلمتها و الأهم من ذلك يمكنني التواصل مع الناس دون قيود.. عندما استيقظت من الغيبوبة كنت أتواصل مع الممرضة بالإسبانية، وهذا يعني أنني موجود بمكان ما في إسبانيا.. وأتواصل مع نفسي (في الداخل) بالعربية.. سيكون من الصعب جدا أن أعرف هويتي وموطني.. الممرضة : صباح الخير. أنا : صباح الخير. الممرضة : كيف تشعر الآن، هل تشعر بالتحسن؟ أنا : نعم.. قليلاً. الممرضة : هل تذكرت اسمك أو أي شيء.. انا : (تبدو علامات الحزن على وجهي) لا لم أتذكر شيئاً.. الممرضة : لا تحزن فهذا عادي جداً، هذا أول يوم لك بعد الغيبوبة، ستتذكر لاحقاً.. أنا : شكراً، هل يمكنني أن أسئلك شيئاً؟ الممرضة : نعم، تفضل.. أنا : لماذا لم أنسى اللغة التي أتواصل بها مع نفسي و اللغة التي أتواصل بها مع الناس؟ الممرضة : ماذا تقصد باللغة التي تتحدث بها مع نفسك.. انا : انا أتكلم مع نفسي باللغة العربية، أجيدها كثيراً وأستطيع قراءتها.. الممرضة : نعم بالرغم من أنك فاقد لذاكرتك، لغتك الاصلية ولغتك المكتسبة لا يمكن لذاكرتك تجاهلها أبداً.. أنا : وهل يمكنني التفريق بين اللغة الاصلية واللغة المكتسبة؟ الممرضة : لا يمكن ذلك.. تريد معرفة أصلك وموطنك صحيح؟ أنا : نعم أود ذلك.. الممرضة : أغلبية الناس الذين يعثر عليهم في البحر يكونون (عرب أو أفارقة) وهذا مجرد احتمال.. لا تشغل بالك سيكون كل شيء على ما يرام.. أعطتني الدواء واِنصرفت.. بقيت وحدي عاجزاً مرمياً فوق السرير، أتساءل... لماذا أنا وحيداً؟ ليس هناك شخص واحد بجانبي يحاول تذكيري بإسمي، أو أنه صديقي، ليس هناك أب يواسني أوأم تحضنني.. هل كنت وحيداً دائماً؟! كنت أضغط على عقلي كثيراً لكن دون فائدة.. لم أكن أعرف فيما أملأ وقت فراغي، نسيت كل شيء.. نسيت هواياتي وكل ما كنت أحب.. يا ترى ما الذي كنت أفعله من قبل؟ هل كنت أقرأ الكتب أو أذهب للتنزه في مكان معين؟ هل كنت أحب الموسيقى او أذهب للإستمتاع بالمسرح؟ هل نسيت كل ما كنت أحب؟! يبدو أن هذا اليوم سيكون طويلاً، لأنني لا أعلم ما الذي سأفعله.. ماذا يوجد خارج باب هذه الغرفة؟ لماذا أخرج وأنا في هذه الحالة؟ لا بأس سأخرج ما دمت قادراً على المشي قليلاً.. نهضت أجر رجلي، فتحت الباب اول شيء رأيته هو الناس.. حاملون الأزهار، يأتون لزيارة اصدقائهم و أقربائهم.. كانت كل الغرف منورة ومبتهجة إلا غرفتي كانت سوداء مظلمة.. لم يكن هناك شخص واحد لأجلي.. خفت كثيراً و هرعت لغرفتي راكضاً وكأن الأشباح تطاردني.. كانت تزعجني فكرة كوني وحيداً أكثر من أنني فقدت ذاكرتي.. بقيت الأفكار تتصارع في عقلي وكنت حينها مرهقا فخلدت للنوم.. لكن سرعان ما استيقظت مفزوعاً لأني رأيت كابوساً مرعباً. رأيت نفسي مكبلاً بالحبال ملقياً في البحر أصرخ، وأسمع ضحكات مجهولة المصدر.. رننت جرس الطوارئ الذي كان بجانبي.. أتت الممرضة مسرعة.. الممرضة : هل أنت بخير؟ أنا : نعم بخير، أعتذر كثيراً إن كنت أزعجتك في الليل.. الممرضة : لا، لا بأس.. أنا : أريد أن أسالك عن الملابس التي كنت مرتديها عند مجيئي إلى هنا.. الممرضة : حسناً، دقيقة واحدة.. عادت وهي حاملة في يديها كيس بلاستيكي متوسط الحجم، وقالت لي أن هذه هي كل أغراضي.. فتحت الكيس البلاستيكي وجدت فيه سروال أسود.. فتشت في جيوبه وجدت فيه صورة.. صورة مشوهه امتزجت ألوانها بماء البحر فلم تبقى واضحة، وكذلك وجدت قميص أبيض مخطط بخطوط زرقاء، كأمواج البحر اللعين، وسترة جلد سوداء.. كان هذا كل شيء وجدته، حتى أنني لم أجد حذائي، لابد أنه أخده مني.. لم أجد دليل واحد لأتمسك به لأعرف من أكون.. لا هوية ولا جواز سفر ولا حتى أنا.. لقد أخد مني البحر كل شيء. اِستيقظت في الصباح الباكر كنت أشعر بتحسن كبير وراحة أكثر في جسمي، تناولت الفطور وبدأت أطل من نافذة المشفى، كان صباحاً مشرقاً مضاءً بشمس جميلة، وأزهار المحل الرائعة تجذب أنظاري وأنظار كل المارة بالورود الحمراء والبيضاء.. والمكتوب في اللافتة هذا اليوم "إنسى الماضي، وتشبث بالمستقبل.. اليوم يومك" لا أعلم من هو هذا الشخص الذي يقوم بالكتابة على اللافتة، لكني أعلم أن هذا الشخص عظيم.. الممرضة : صباح الخير. أنا : صباح الخير. الممرضة : أرى أنك تحسنت قليلاً، هل كل شيء على ما يرام.. أنا : نعم، الحمد لله شكراً. الممرضة : في الخارج هناك شرطة يريدون التواصل معك ومقابلتك إذ أردت ذلك.. أنا : حسناً.. الممرضة : لا تخف، هم هنا فقط لمساعدتك. أنا : أنا لست خائفاً لأني لا أتذكر شيئاً.. الممرضة : ستتذكر كل شيء، ربما ليس الآن.. لاحقاً. (دخلت الشرطة) الشرطة : مرحباً، كيف حالك؟، نتمنى أن تكون بخير.. أنا : نعم بخير، شكراً.. الشرطة : هل تتذكر إسمك او أي شيء؟، كنا نتابعك من اليوم الذي وجدك الصياد في البحر.. وغرضنا هو مساعدتك.. أنا : لا أتذكر أي شيء تماماً، لا أتذكر سوى وجودي في هذه المشفى.. الشرطة : حسناً، ستحصل على هوية إسبانية جديدة و كل حقوقك لأننا لم نتوصل بمعلوماتك بعد.. أنا : حسناً، شكراً.. إنصرفوا وقد أوضحوا لي كل ما علي فعله عند خروجي من المشفى، وإلى أين أتجه كي أحصل على هويتي.. بقيت وحيداً مرة أخرى، تشكل الوحدة بالنسبة لي أمرا خطيراً لأن وحدتي كانت فارغة.. فكرت في أن أخرج من هذه الغرفة، وألا أبقى محبوساً بين هذه الجدران، والأهم من ذلك هو أنني لن أهرب مرة أخرى.. ظللت أتجول في كامل أرجاء المشفى، مررت بعدة أقسام رأيت جميع المعاناة البشرية في ذاك المشفى.. فمن خلال قسم الحوادث رأيت كيف أن الإنسان متقاعداً عاجزاً عن المشي مبتورة قدماه بعدما كان يملكها ويمشي عليها، رأيت كذلك من فقد يداه بعد أن كان يكتب بها، مررت كذلك من جانب قسم كسور العظام، رأيت كيف أن الناس يتألمون وكل الألم في عيون الناس الذين يرافقوهم.. مررت من قسم مرضى السرطان رأيت كل البؤس وكيف أن الناس متشائمة لا أمل لها في الشفاء.. نادتني سيدة كانت هناك، فذهبت إليها.. هي : هل تساعدني يا بني كي أصل إلى غرفتي؟ أنا : نعم، بكل سرور.. ما هو رقم غرفتك. هي : الغرفة رقم تسعة.. " ساعدتها كي تصل إلى غرفتها فطلبت مني أن أبقى برفقتها لدقائق فقبلت فوراً.. هي : أمريض أنت يا ولدي؟ أنا : نعم مريض. هي : ما هو مرضك؟ أنا : فقدت ذاكرتي، لا أتذكر شيئاً.. هي : أتحسب أن هذا مرضاً، فقدان الذاكرة لا يعني المرض ابداً.. انا : وماذا يعني فقدان الذاكرة؟ هي : يعني أنك ولدت من جديد، يجب عليك التصرف على هذا الأساس..