يوم مشؤوم لم يستمع باهي لأحد، ضرب بنصائح الجميع عرض الحائط وقرر أن يتبع فضوله وينحي خوفه جانبًا مستجمعًا كل ذرة شجاعة في كيانه وخط أول خطواته داخل الكهف الحجري منذ لحظة ولوجه اهتمت عينه فقط بالجرة ولمعتها الذهبية وأحجار الالماس الصغيرة الموضوعة في شقوقها البسيطة خطفت الجرة أنظاره وسلبت لبه بلونها الزاهي البارق اقترب باهي مسلوب الإرادة إلى أن وقف أمامها تبعده عنها خطوات قليلة، ظل فترة يتأمل جمالها المدهش ويفكر في أهميتها، اقترب أكثر وأكثر مد قائمه الأيمن يحاول لمس الجرة بحذر، ثم تراجع عن فكرة لمسها سريعًا ثم تلفت حوله بارتياب قبل أن يفر هاربًا من الكهف وأنفاسه العالية تسبقه مرت أيام ولم يعاود باهي دخول الكهف مرة أخرى ورغم أنه كان يسيطر على فضوله بقبضة من حديد لم تبارح الجرة وشكلها الفريد أفكاره طول الأيام الماضية مهما حاول بجد الثبات ألا أنها تظل تمر في خياله وأمام إلحاح فضوله الشديد ضعف ودخل إلى الكهف مرة أخرى ولم تختلف هذه المرة كثيرًا عن سابقتها، فضوله كما هو بل زاد خوفه كما هو بل زاد حماسه لم يقل ولكن هذه المرة تشجع أكثر وأمسك بالجرة وحينها شعر بأشياء يجربها لأول مرة لا يعرف كيف يصف ما شعر به عندما حمل الجرة لأول مرة في حياته وطاح به خياله فصوره له أن يده أول ما لمست الجرة منذ صُنعت وطاح به خياله أكثر فصوره ملك عظيم له شعب كبير يحبه وأن الجرة هي كنزه الكبير وبدأ يحب خياله والصور التي يمنحها له بدأ يصدق أنه ملك تملأه العظمة والغرور، صدق أن له قوة عظيمة لا تضاهيها قوة، أحب باهي ما يعيشه من خيالات مغريه له، فُتن بحياة بدت مثالية خالية من كل تعب ونقص ظل يتردد كل يوم إلى الجرة يحملها فيعيش حياة ليست حياته في دنيا أخرى لا عيوب بها فيها كل ما تمناه يومًا وأكثر إلى أن جاء يوم كان استثنائيًا، يوم اكتشف فيه سر من أسرار الجرة، بدأ اليوم بداية عادية مكررة ذهب للكهف دخله حمل الجرة لكن اليوم تفاعل مع خياله فرفع الجرة عاليًا في مستوى أعلى من رأسه وانحنى وعقله يصور له هتاف شعبه له ومع انحناءه المفاجئ غير المعتاد فلتت الجرة من يديه وسقطت أرضًا وسقط معها قلب باهي متحطمًا قبلها إلى ألف قطعة لكن وللعجيب أن الجرة لم تُكسر بل ظلت سليمة تمامًا، انبهر باهي بالجرة اأكر وطار عقله وقد ربط عقله بسرعة أن هذه من مزايا الجرة وهذا ما يجعلها سحرية إنها لا تنكسر انحنى وحمل الجرة سريعًا ذاهبًا بها إلى صديقيه مُهيرة وبادي يريد أن يريهما ما حدث فإن حكى لن يصدقه أحد لذا كان لابد ان يأخذها معه كي يريهما بالدليل أن للجرة قدرات سحرية حقيقية وليست أساطير كان ولحسن الحظ بين ثلاثتهم اتفاق أن يتقابلوا على التلة الخضراء الوحيدة في الغابة، هرول إليها باهي بسرعة وهو يضم الجرة إلى صدره كمن يحمل كنز وهي بالفعل كنز هي كنزه وهو مالكها هذا ما اقتنع به بعد أيام من حملها ليس من الممكن أن يكون ليس هو المالك بعد كل ما رآه وشعر به عند حمله لهذه الجرة بالتأكيد هو المالك للجرة والذي انتظرته طويلًا وإلا لما كانت سمحت له بحملها.. صحيح؟! وصل باهي أخيرًا إلى مكان اللقاء يقفز قلبه داخل صدره بجنون من شدة الحماس كانت مُهيرة هناك جالسة أعلى التلة منتظرة قدومهم اقترب منها حاملًا الجرة فقال بصوت أشبه بأصوات المخبولين كان غير طبيعيًا كمن تحت سيطرة شيء مجهول: «_مُهيرة سوف أريكِ شيء عجيب لم ترِ مثله في حياتك من قبل» ارتعبت مُهيرة من شكله الغريب وزاد الرعب في قلبها صوته الغير طبيعي حاولت مُهيرة السيطرة على اضطرابها لكنها ما إن لمحت الجرة الذهبية في يده حتى تبعثر كيانها بأكمله برعبٍ غير مسبوق ثم حدث كل شيء سريعًا.. سريعًا جدًا للدرجة التي ظنت أن ما تراه الآن ما هو إلا برق خاطف ضربها فأضحى كل شيء فوضوي مريع ففجأة وجدت باهي يرفع الجرة عاليًا وفجأة ظهر بادي من اللا مكان يصرخ عاليًا يحاول منعه: «_توقف يا باهي لن تسلم الجرة..» وفجأة سقطت الجرة من علوٍ كبير تدحرجت الجرة على التلة وسقطت في النهاية على أرض الغابة العشبية هرع كل من مُهيرة وبادي إلى الجرة برعب بينما ظل باهي مكانه دون أن يظهر عليه أي تعبير وقعا بادي ومُهيرة فريسة الرعب عندما لم يجدا الجرة فتشا عنها في كل مكان ولم يجداها اقترحت مُهيرة بأنفاس مقطوعة من كثرة البحث: «_علينا إخبار المعلم» وقبل أن يجبها بادي تفاجأ كلاهما بحضور المعلم أتى شامخًا قوي الطلة رغم ضعف بنيته تحيطه هالة من الوقار، وقف المعلم أمام باهي الجامد في مكانه دون حراك نظر المعلم في عينه بقوة ثم دفعه بخفة فسقط باهي فاقدًا وعيه فزعا بادي ومُهيرة لكن المعلم أوقفهما بإشارة منه فوقفا يصغيان إليه عندما تكلم قائلا: «_لا تخافا عليه لقد فقد وعيه سيفيق قريبًا» حاولت مُهيرة التكلم فأوقفها مرة أخرى بإشارة منه فصمتت: «_أعلم ما تريدين قوله يا مُهيرة لكن لا تشغلي بالك كثيرًا بهذا الأمر اذهبي الآن إلى بيتك وفي الغد تعالي إلي» لم يعجبها ما قاله المعلم لكنها نفذت ما قله دون نقاش انسحبت فقط بهدوء دون كلمة إضافية تاركة باهي ممددًا على الأرض فاقدًا الوعي وبادي واقف شارد الذهن والمعلم يتأمل المشهد أمامه بغموض لم يطمئنها بعد أن غادرت مُهيرة قاطع المعلم شرود بادي آمرًا بصلابة: «_احمل صديقك وتعال وراء.. دون كلمة إضافية يا بادي» ثم انصرف بخطوات بطيئة اقترب بادي من باهي بتثاقل، انحنى يحمله واتجه به إلى مجلس المعلم وضع باهي في مكان قريب من جلوس المعلم ثم اعتدل يلتقط أنفاسه الهاربة بعد وقت وبعد أن عاوده الاتزان باغته المعلم يزعزع ثبات واهٍ: «_من اليوم ستكون أنت المسئول عن الكهف يا بادي» كاد بادي أن يعترض فأوقفه المعلم قائلا بحزم لا يقبل النقاش: «_لقد قلت كلمتي يا بادي ولا رجوع فيها والآن اذهب إلى الكهف واحرس الجرة» «_لكن يا معلم الجرة قد اختفت لا نستطيع العثور عليها في أي مكان» دقائق مرت والمعلم مغمض العينين يتحرك بهزة خفيفة إلى اليسار واليمين حتى أجاب المعلم بهدوء بدأ يتسرب إلى خلايا بادي: «_لا تقلق لقد عادت الجرة إلى كهفها وهي سالمة تمامًا» أخفض بادي رأسه بيأس يعلم أنه لا يستطيع الفرار بعد الآن لقد انتهي الامر واصبح هو بين ليلة وضحاها حارس الجرة غادر بادي وترك المعلم مع باهي الفاقد للوعي.