في غابة سحرية بعيدة ذات أشجار عالية كثيفة على ضفاف نهرها الأرجواني وجد كهف صغير بقيت بداخله جرة فخرية طُليت منذ زمن بعيد بالذهب.. ذهب سحري براق. كانت الجرة بها بعض الشقوق البسيطة على قشرتها الخارجية، كل شق مطعم بأحجار صغيرة وبعضها طعم بالماس الأبيض، أما عن الفوهة فقد سدت بحجر أوبال كبير سقط عليه ضوء الشمس فانعكست منه ألوان الطيف. وكان لهذا الانعكاس أهمية كبرى فبفضله ستعثر الجرة أخيرًا على مالك لها.. في إحدي البقع القريبة في الغابة كان يحيطها أشجار برتقالية الأوراق.. عاشت مجموعة صغيرة من الدببة جيل بعد جيل يتوارث حماية الجرة من السرقة والتخريب، على مدار السنوات تختلق قصص جديدة عن الجرة وقدراتها السحرية حتى تاهت حقيقتها بين بحور الأساطير والخيال لكن، ما ظل ثابتًا دون تغير أنها جرة سحرية قادرة على اختيار مالكها بنفسها، وذلك ما وجوده مرسومًا على جدران كهفها لذلك حفظت هذه الحقيقة بعيدًا عن الأساطير وكانت تلك هي الجملة الوحيدة التي حفظت من الطمس، فقد كانت جدران الكهف مليئة بالرسومات المحفورة في الجدران نفسها لكنها طمست دون سبب منطقي لم يبقَ منها سوى رتوش غير واضحة المعالم «يشاع في الغابة أن من حرف هذه الرسومات والرموز نفر من الجن وهو نفسه من صنعها ويقال أن من حبه الشديد لهذه الجرة قد أخفى الرموز والنقوش عن الأعين وجعلها رتوش غير واضحة المعالم؛ حتى لا يعرف أحد أهميتها وما يمكنها فعله فتصبح بلا قيمة لكنه وفي الوقت ذاته أراد أن يمتلكها أحد يكون نقي النفس يدرك جيدًا كيف يستخدمها في الخير لذا قد وضع صفات مهمة يجب أن تكون موجودة لدى من يستطيع قراءة الرموز وفهمها» «_وما هي تلك الصفات يا معلم؟» سأل دب صغير من وسط الدببة الذين التفوا حول الدب الأكبر سنًا بينهم والذين ينادونه بالمعلم توقيرًا وإجلالًا له فغير أنه الكبير سنًا بينهم فهو حكيم ذو علم وحنكة نظر المعلم عياش إلى الدب الصغير ببسمة حانية قبل أن يسأله بودٍ ليس غريب عليه فبرغم علمه ومركزه إلا أنه عطوف على الصغار رحيم، طيب النفس، ومتواضع «_ما اسمك يا صغير؟ » «_أُدعى ديسم يا معلم» قهقه المعلم عياش ممازحًا «أليس الاسم صريحًا بزيادة؟» ثم أكمل مجاوبًا بجدية: «_في الحقيقة يا ديسم لم نستطع تحديد الصفات بدقة لكننا توصلنا إلى صفات مقاربة لما أراده الجن على سبيل المثل لابد أن يكون شجاع مقدام لا يخشى التجربة، تجري في عروقه الإثارة وعدم الخوف من المجهول إلى الآن لم تتوفر هذه الخصال في أحد قط ولم نعلم إن كان يجب أن تتوفر هذه الصفات في دبٍ أم كائن آخر، مازالت تلك الأشياء مجهولة بالنسبة لنا.» [١] الديسم: هو صغير الدب تسلل ببطء يحاول عدم إصدار صوت، أخذ يقترب من المعلم يريد مداهمته من الخلف أثناء شروده في التأمل، اقترب أكثر حتى صار قاب قوسين أو أدنى عبء صدره بالهواء ورفع مخالبه عاليًا للهجوم عليه حتى ناوره المعلم قائلًا: «_تأخرت يا باهي» زفر باهي أنفاسه بخيبة أمل ودار حول المعلم حتى جلس أمامه متذمرًا: «_يا معلم أحاول إخافتك منذ فترة وفي كل مرة أفشل، كيف تعرف أنه أنا كل مرة؟» لم يحرك المعلم ساكنًا ولم يبدُ عليه أنه سمعه وقد ظن باهي أنه سيتجاهل إجابته مثل كل مرة إلا أن المعلم فاجأه للمرة الثانية عندما أجاب بهدوء ومازال على نفس وضعه: «_صوت أنفاسك العالية يا باهي، كل مرة تحاول إخافتي فيها تكون متوترًا مترقبًا وأنفاسك عالية تكاد تصم أذني من علوها» [١] باهي: اسم من أصل عربي يعني الظريف الحسن أو البيت الخالي من كل شيء حاول باهي الاعتراض مجادلًا إلا أن المعلم أوقفه بإشارة من مخلبه وقال مانعًا: «_لا تهدر الوقت فيما لا يفيد يا باهي واستمع إلي جيدًا» توقف لحظات يمنحه الوقت ليستطيع جمع تركيزه لإدراك ما هو بصدد قوله ثم تحدث عندما شعر أن باهي أصبح مستعدًا بكامل حواسه لذا قال بهدوء وثبات: «_أنت الآن أصبحت الحارس للكهف يا باهي وعلى الحارس أن يكون مميزًا عن أقرانه من الدببة في الصفات واترك أفعالك الصبيانية هذه جانبًا لم تعد مناسبة لك في هذه المرحلة الجديدة» حنى باهي رقبته إلى الأسفل وقال بخجل: «_سأفعل يا معلم» ابتسم عياش بوقار قبل أن يسمح له بالمغادرة غادر باهي إلى الكهف لحراسته، إنه يومه الأول في تولي الحراسة من بعد العم مختار والذي ظل يحرس الكهف لأكثر من عشرة أعوام في الحقيقة هو لا يعلم كيف تحمل العم مختار كل هذه السنوات في هذه المهمة المملة لقد مضت عدة دقائق فقط وها هو يشعر بالسأم والضجر هل عليه التحمل لعدة سنوات مثل العم مختار؟ ظل يتجول حول الكهف يحاول قتل الملل الذي يحيط به إلا أن التجول لم يطل فالكهف صغير كما أن هذه المنطقة تجول بها أكثر من مرة سرًا أثناء حراسة العم مختار، كان صغيرًا وقتها وكان يأكله الفضول لمعرفة أي شيء عن هذا الكهف تحديدًا، كيف لا وقد كانت تتم تغذية فضوله بكثرة الأساطير التي تدور حوله لكنه لم يستطع أبدًا التسلسل إلى الداخل ليس وكأنه عجز عن ذلك بل كان يخاف مما يمكن أن يقابل داخل هذا الكهف الغامض كل ما هو غامض مخيف مرعب يحاوطه مجال مغناطيسي غير مرئي من الفزع كفيل بجعل القشعريرة تسري في أنحاء جسدك بمجرد التفكير فيه لكنه الآن صار أكبر وأقوى يستطيع الدخول بكل تأكيد كما يستطيع مواجهة أي شيء بالداخل في سبيل رؤية الجرة السحرية سحب باهي نفس طويل يعبئ به صدره استعدادًا لدخول الكهف، ولكن ما أن خطى أولى خطواته داخل الكهف أتاه صوت أصدقائه من بُعد قريب نسبيًا لذا تراجع فورًا عن الدخول للكهف وعاد يسير ذهابًا وإيابًا ينتظر قدومهم دون أن يظهر ذلك. أتوا أصدقائه فرحين مهللين بمكانة صديقهم الجديدة سألت صديقته مُهيرة بود: «_كيف حال حارس الكهف الجديد؟» ابتسم باهي بتوتر ظن أنه سيطر عليه في الدقائق المنصرمة كان يخشى أن يكون أحد من أصدقائه لمحه يحاول ولوج الكهف ما إن تكلمت مُهيرة وابتسامتها تنير وجهها أدرك أنهم لم يروا وقد هدأ هذا من روعه عندما طال صمته تكلم بادي كعادته عندما يطول الصمت: «_تكبرت علينا من ةول يوم يا حارس الجرة ماذا ستفعل بنا إذًا بعد أعوام؟» رد باهي بأنفة كاذبة: «_من أنتت يا بني هل أعرفك؟» صرخت مُهيرة مستنكرة: «_انظروا كيف يتملص منا هذا الوغد» مرت بعدها الدقائق في لهوٍ ومزاح وقبل أن يغادروا التفتت مُهيرة إلى باهي تنصحه والجدية تخط ملامحها: «_باهي لا تفكر في الدخول إلى الكهف هذا خطير» صدق بادي على حديثها بنبرة خالطها الجدية واللين: «_انصت لي جيدًا يا باهي لا أحد يعلم ما بداخل الكهف كل ما نعمله أته توجد جرة سحرية ولا نعلم شيء آخر، قد يكون الكهف فيه فخاخ أو شيء أبشع لذا لا تخاطر بالدخول، أنا أعلم أنك فضولي جدًا لكن احذر أن تنساق وراء فضولك فتهلك» دارت نظرات باهي بعدم اقتناع لكنه لم يقدر على قول شيء حتى لا يثير حفيظتهم تجاهه، يكفيه قلقهم الظاهر أجابهم باهي بخضوع وسرعة تعجبوا لها: «_لا تقلقوا يا رفاق لن أخاطر في شيء جدي كهذا» ناظروا بشك فابتسم يطمئنهم إلى أن رحلوا تملأ عدم الراحة نفوسهم، لم يشعروا قط بـ الطمأنينة كما لم يشعر نبي الله يعقوب بالراحة عندما أخذ أولاده يوسف إلى البرية ليلعب معهم. بعد أن غادر بادي ومُهيرة ظل باهي يفكر في عدم الدخول إلى الكهف ربما لا تستحق الجرة هذه المخاطرة وربما تستحق، ربما يحدث شيء وربما لا يحدث أي شيء ظلت الأفكار تتقاذف بين ثنايا عقله دون أن ترحمه إلى أن حسم قراره في النهاية واستسلم إلى فضوله ودخل الكهف [١]بادي: اسم عربي يطلق على الذكور ويعني الذكي وصاحب الرأي الصائب كما يعني من يبدأ والشيء الظاهر والواضح [٢]مُهيرة: هي امرأة صاحبة ذكاء فريد من نوعه كما أن مهرها مرتفع