لم تحملها رجليها من رعب الذكرى، فاستندت بمسند الكرسي الطويل حتى جلست على حافته، تشعر بإنهاك شديد فحطت برأسها ونصف جسدها علي الكرسي بينما قدميها أراحتهما على الأرض، تركها على راحتها وتحرك ليحتل الكرسي الصغير قبالتها بهدوء، ينصت إليها تهمس بضياع وعينيها على نقطة وهمية ¤ تشاجرت معه وهم بضربها كالعادة لكنها تسلحت بشجاعة لا أعلم كيف اكتسبتها، فأمسكت بيديه وكان أقوى منها يرمى بها كالدمية، فوقعت على ظهرها واصطدم رأسها بحافة الطاولة وأنا هناك بجانبهما ملتصقة بالحائط أرتجف خوفا، سقطت أمامي وحركت رأسها نحوي تنظر إلى بقلق ورعب وشفقة ...جسدها اهتز ثلاث مرات تتمتم أظن بالشهادة ثلاث مرات، واحدة اثنان ثلاث وسكون ولم تغلق عينيها، إذن هي ليست نائمة ولا غائبة عن الوعي بل ماتت ومقلتيها تجمدتا على نفس نظرة القلق والرعب و الشفقة ... والكثير من الدم الأحمر القاني يحيط بها كبركة حمراء. بلعت ريقها بمشقة وكأن حلقها أنبت الشوك، أحست برطوبة دافئة على وجنتيها، فلمستها بأصابعها لتكتشف بأنها تبكي وبحرقة، حركت رأسها لتجد مكانه على الكرسي مبتل، فالتفتت إليه متفاجئة، فتكلم أخيرا، قائلا بصوت أفلت منه متأثرا رغما عنه ¤ أجل ...إنها الدموع، لقد سمحت لها أخيرا بالخروج لتخرج معها كل البشاعة بداخلك وهذه ليست إلا البداية. **** **قبل ساعتين** لم يغمض لها جفن بليلتها تلك تفكر بذهابها إلى الطبيبة، ماذا ستقول وكيف وبماذا سيفيدها؟ ولكل سؤال تتوصل لجواب واحد (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ)... ستسلم أمرها لله، تأخذ بالأسباب وتتوكل على الحي الذي لا يموت، رفع آذان الفجر فقامت تلبي النداء و هي تبكي تحمد الله أن نعمة البكاء قد عادت إليها ترجوه التوفيق والشفاء، وما إن أرسلت الشمس أشعتها الدافئة حتى استعدت وارتدت ملابسها وخرجت من غرفتها، فالتقت به خارجا هو الآخر عينيه حمراوان من التعب لتدرك بأن هناك من شاركها سهادها، كم يهون عليها كل شيء يشاركها فيه! وكيف لم تعرف بهذه المشاعر من قبل؟ وكأنها لم تكن حية! ابتسم لها بمودة وبعض المرح يقول ¤ السلام عليك وصباح الخير فبادلته ابتسامته بواحدة دافئة أسعدت قلبه وأنسته تقلبه فوق سريره طوال الليل، يتعذب خوفا عليها وقلة صبره على بعادها، تجيبه ¤ عليك السلام وأسعد الله صباحك . خرجا من جناحهما وقلبيهما يرقصان على نغمة واحدة كأن معركتهما وحدتهما فأصبحا قلبا واحدا ينبض بحياة. كانت العائلة مجموعة حول مائدة الفطور حيث ألقيا السلام قبل أن يجلس ليث بينما ورد تفعل ما ربتها عليه السيدة عائشة، قبلت ظهر كف كل من الجدين وحماها وحماتها تلقي على كل واحد منهم التحية وهم يستغربون ذلك باستثناء الجدة والجد الذي قال باسما بتقدير ¤هل تعلمين بنيتي؟ أنت تقومين بإحياء عادة ماتت في زماننا هذا. شملهم بنظرة ثم خص الصغار منهم بواحدة، يستطرد ¤ في صغري كنت أقبل يد أمي وأبي وجداي كل صباح وعندما أذهب للنوم وفي التجمعات الصغير دوما يقبل ظهر كف الكبار، كانت عادة ذات هيبة تشعر الكبير بالاحترام والتقدير. ثم التفت إلى الجدة يبتسم بمرح أضحكهم ¤ و هذا من الأسباب الأساسية التي دفعت بأمي رحمها الله لتختار لي 'طيبة' زوجة، لأنها من أكثر البنات خلقا من بين معارفنا وكانت تقبل ظهر كف كل من تصافحها من النساء، قبلت يد أمي من هنا واختارتها كنة من هنا. ضحك الجميع بمرح والجدة ترمقه بعتاب مصطنع، بينما توضح الأمر : في بلدتنا كانت النسوة حين يتصافحن يقبلن أظهر كف بعضهن وكذلك يفعل الرجال فيما بينهم، عادة المصافحة لدينا كانت بتقبيل كل واحد لظهر كف الآخر ولازال هناك من بلدتي من يسلم بنفس الطريقة لم يكن أمرا ذا شأن عظيم، بل عادة تربينا عليها لكن الآن في عصرنا هذا قدرت الأمر وأدركت بقدر ذلك الخلق الجميل. أومأوا بتفهم وتوجه السيد يوسف بالحديث إلى ورد، يطمئن عليها : كيف تشعرين الآن ورد؟ ابتسمت بهدوء بينما تجيبه ¤ بخير عمي، شكرا لك. ..أنا آسفة لأنني أفزعتكم البارحة، ضغطي يرتفع مؤخرا. تدخلت حماتها معلقة بضيق ¤ طبعا، فمن يكون تحت التهديد بالموت والخطف يرتفع ضغطه. التفت الجميع إليها بنظرات استنكار وتأنيب، فتقوم هاتفة بضيق : من يقول الحق بهذا الزمان يُعاب! همت بالانصراف لكن ورد أوقفتها تحاول المهادنة، فيكفيهم ما أحضرت إليهم من هم وغم ومشاكل يتجرعونه معا لذا وقفت تقابلها ترمقها برجاء واعتذار ¤ أمي! أنت محقة، أنا تحت التهديد وقد أن أخطف بأي وقت لذلك أنا آسفة لجلب المشاكل معي لكن أعدك إن سببتُ لأحد منكم أي أذية، سأرحل دون رجعة. انتفض ليث من مكانه كأن حية لدغته يلفت نظر الجميع بتأهبه استنكارا لما قالته، حتى والدته التي أبدت أسفا عما قالته، كالعادة تنطق قبل التفكير. شملتها بنظرة متفقدة، تسألها : هل أنت خارجة؟ جاورها ليث يجيب عنها ¤ نعم أمي، ستذهب معي إلى المركز. هزت رأسها وانسحبت بينما تقول ¤ انتبها لنفسيكما جيدا ...في حفظ الله و رعايته. أشار لها ليث ليغادرا فودعا الجميع ومال الجد نحو البقية حول المائدة، كأنه يسرهم بسر ضاحكا ¤ تلك الفتاة فريدة من نوعها، تذكرني بأخرى تملك نفس الصفات. نطق آخر جملته بينما يرمق حبيبة قلبه وشريكة حياته التي تبادله نفس نظرة الحب والتقدير. **** منزويان بركن من أركان الباحة يراقبان الآخر يمشي و يجيئ أمامهما كالمجنون، لا يصدق بأن فرصته لكسب مال من رئيسه قد ضاعت، فهتف أحد الجالسين ¤ أجلس! لقد اتعبت رقبتينا من تتبعك ..من الجيد أنه رحل عن هنا، أنا لم أرتح له أبدا. زفر بضيق ورد عليه بينما يقعد جوارهما ¤ مالي أنا بك؟ ترتاح أو لا إنه يعلم الكثير ..أنا متأكد. قال الثاني بامتعاض ¤ لكنه جلاب للمشاكل، سمعتُ همسات عن أعداء له يريدون تصفيته ولقد رأيتَ بنفسك مشاجرته الدامية .. من الجيد أنهم نقلوه إلى سجن آخر إلا كنا ابتلينا بمشاكله ونحن في غنى عن مزيد من المشاكل. قام الأول ومد يده لفيصل يجذبه ليقف بينما يدعوهما ¤ هيا لنشرب الشاي وانس الرجل فلا خير به. **** استيقظ يغمره الحماس والسرور حتى أنه نسي اسم المنشاوي ومشاكلهم، تأنق وتعطر وها هو يصفف شعره أمام المرآة يدندن بمرح ويهنئ نفسه، لقد أخذت الصورة، أخذتها ولم تلقي بقلبه إلى الجحيم. خرج من غرفته باحثا عن والدته، سأل عنها المساعدة فأخبرته بأنها لاتزال في غرفتها، غير وجهته وطرق بابها طرقة واحدة قبل أن يفتحه. كانت جالسة أمام المرآة حين رأت ولدها داخل عليها وعينيه تبرقان من الفرح أما ابتسامته فملئ شدقيه، فتبسمت هي الأخرى تعلم مبتغاه، قالت بينما تشير إليه بيدها ¤ تعال حبيبي واحك لي عن سبب سعادتك الذي أنا أعرفه مسبقا. ضحك هشام و هو يضم أمه مجيبا بمرح ¤ طبعا فأنت أمي والوحيدة التي تشعر بي. قامت تسحبه معها وأجلسته بالقرب منها على سريرها، تخاطبه ¤ كف عن تملقك وأخبرني بسر زيارتك لي في هذا الوقت الباكر من الصباح. ربت على يدها يخبرها مباشرة وبصدق ¤ أريد أن أتزوج بها. ابتسمت تتساءل بمراوغة ¤ من؟ ضم حاجباه، يراوغها بالمقابل ¤ قلتِ قبل قليل بأنك تعلمين، فمن تكون؟ ضحكت بمرح تلمس جانب وجهه بحنان بينما تجيبه ¤ انه اليوم الذي أتمناه حبيبي وسأكون أسعد أم بهذا الكون سأسألها وإن وافقت نتوكل على الله ونقيم أجمل حفل زفاف يليق بكما. أجاب بثقة ¤ هي موافقة ..أنا متأكد. فأجابته قائمة ¤ وان يكن، يجب أن أسألها بنفسي ...إنها أمانة ولقد أقسمت بأن أصونها ...اذهب أنت لعملك و ليقدم الله ما فيه من خير. **** **حاليا** استقامت في جلستها على الكرسي الطويل تمسح دموعها، فقال الطبيب ¤ لا بأس في أن يبكي المرء من حين لآخر ..الدموع نعمة من الله تعد متنفسا للجسم ليفرغ طاقته السلبية. عقبت بتهكم ¤ ظننت بأن دموعي جفت. ابتسم مجيبا ¤ بل غضبك لم يسمح لجسمك بذرف الدموع كي لا ينسى معاناتك، ظل يخبر عقلك بأنك إن نسيت كل ما عانيته تكونين خائنة، لكنك لم تكوني تعلمين بأنك تدمرين جسمك بأطرافه وأعصابه. هزت رأسها فاستدرك يسألها ¤ لما كذبتِ على الشرطي؟ تهربت منه بعينيها، قائلة ¤ خفت على سمير . عادت ابتسامته الجانبية متنهدا باستنكار ¤ أسماء! إلتفتت إليه تتأكد إن نادى باسمها مجردا، فتجاهل ذلك يعيد السؤال : لمَ أسماء؟ اكتست ملامح وجهها بالألم والخوف بينما تجيبه ¤ إنه يخيفني، أنت لا تعرفه. فسأل بترقب: مازال يخيفك؟ أدارت وجهها عنه تجيب بجفاء : لا أعرف. ثم قال يراوغها : أخبرني سمير بأنه استرجع البيت وما منعه عن ضربه وإدخاله السجن إلا أنه أضحى عجوزا مقعد، فلماذا تخافين منه الآن؟ لم تجبه، فزاد من ضغطه عليها ¤ أنت لا تريدين إخباري سبب تسترك عليه ...هل أنت خجلة من قوله كون والدتك ماتت تدافع عنك . نظرت إليه بحدة والنار تشتعل بعينيها وصدرها يضيق بأنفاسه حتى لهثت ¤ نعم ماتت تدافع عني لأن الحقير كان سيغتصبني ونعم أنا خجلة! خجلة من نفسي، فبدل أن أزج بالمجرم في السجن خفت من تهديداته وكذبت ..كنت جبانة! أعترف! حرك الدكتور رأسه يمينا وشمالا، يعقب بحزم ¤ لا! لم تكوني جبانة بل كنت طفلة والأطفال لا ينتظر منهم الشجاعة بل السلوك الطبيعي منهم هو الخوف لأنهم أطفال صغار....و كل أم ترى صغارها بخطر تضحي بنفسها من أجلهم، الأمهات جبلن على ذلك فكفي عن إلقاء اللوم على نفسك، لقد ضيعت سنين كثيرة في تأنيب الضمير بدل القلق على مشاكلك الخاصة و علاجها. تحدق به مبهوتة من منطقٍ لم تفكر به من قبل، فوالدتها دائما ما تخبرهما هي وسمير بمدى حبها لهما وأنها ستفعل أي شيء لأجلهما وكانت تنهرهما حين يتدخلان بينها وبين زوجها وأيضا كانت صغيرة ترتجف من الرعب فقط من نظراته الزائغة عليها وحين هددها إن فضحته سيغتصبها ويكمل ما نوى فعله صدقته ولم تستطع فتح فمها. تنهدت بتعب لاحظه كما لاحظ تفكيرها في مقالته، فقرر إنهاء الحصة :يكفي اليوم ونلتقي بعد غد إن شاء الله، فكري جيدا فيما أخبرتك به. نهضا من مكانهما يمد لها بعلبة دواء فتناولتها منه متسائلة، فأجابها مفسرا ¤ هذا مهدئ، العلبة بها حبة واحدة فقط تأخذينها الليلة فما قلته اليوم قد يشغل تفكيرك و يسبب لك الأرق ...لم أكتب لك الدواء لأنك لست بحاجة إليه، ما تحتاجينه هو التكلم عن كل ما عشته، حينها سيخرج وتنسينه....لن تصدقي و لكنك سترين مستقبلا إن شاء الله. أومأت ثم التفتت إلى الباب، فخاطبها باسما بهدوء ¤ آنسة أسماء، شكرا على الهدية إنها مميزة. ابتسمت ولم تلتفت إليه خشية أن يسمع دقات قلبها، تجيبه بينما تفتح الباب : مرحبا بك. سمعت شقيقها يقول لسيدة زينب ¤ أنت محقة، سأفعل برأيك، لا مزيد من الامتحانات، سأخبرها بكل شيء. فتدخلت قائلة : تخبر من أخي؟ وبماذا؟ توتر سمير، فصاحت السيدة زينب تلوح بيدها ساخرة ¤يا إلهي! يا فتاة ما هذه العينين؟ لقد أصبحتا كذاك الدب، ما اسمه؟ اه نعم الباندا، الحمام أمامك، اذهبي ورتبي نفسك، فهناك طبيب أطفال أمامنا لا أريد سماع صراخهم عندما تخرجين، أم أنك نسيت طبلة أذني المثقوبة. تفاجأت أسماء ترفع يدها إلى عينيها بجزع وفرت إلى الحمام تشعر بالحرج من رؤية الطبيب لها في تلك الحالة متلافية سمير بحالة ذهول يعقب ¤ يا الله! أسماء بكت بدموع لا أصدق؟ أجابته بضجر بينما تلتفت على كرسيها تجره خلف المكتب لتسحب بعض الملفات ¤ طبعا، إنه الدكتور مفيد أم أنك نسيت؟ غادرا العيادة و سمير قد قرر إخبار شمسه بالحقيقة لكن بطريقة عاطفية وطبعا ماكرة حتى لا تنقلب عليه، *هذا إن أمهلته الظروف* **** وصلا إلى عنوان الدكتورة، يتجاهل توترها محاولا بثها الأمان والثقة لما ستقدم عليه، بعد رؤية الفتاة بالاستقبال أدخلتهما إلى قاعة لا تفرق عن خاصة الدكتور مفيد بشيء كثير سوى ألوان الأرائك، الستائر و الطلاء، طبعا لا جدار زجاجي فقط نافذة كبيرة. لمحت ورد امرأة محجبة تملك ملامح مليحة، قمحية البشرة ترتدي نظارات على عينيها الصغيرتين حين وقفت وتقدمت إليهما مبتسمة، قدرت ورد عمرها تقريبا بالخمسين، صافحتها وحيت ليث وطلبت منهما الجلوس على أريكة أنيقة مكسوة بالجلد الأسود اللامع ثم جلست أمامهما، تبادر بالحديث قائلة ¤ مرحبا بكما، في العادة لا أستقبل الناس دون موعد مسبق لكن لحظكما هناك سيدة أجلت موعدها اليوم لظروف عائلية، أظنكما تعرفان اسمي لكن سأقدم نفسي لكما بما أنه لقائنا الأول ...اسمي باسمة الشجعي. اجابها ليث برسمية ¤ تشرفنا بمعرفتك سيدتي، أنا ليث الجندي و هذه زوجتي ورد الش.... قطع كلامه والتفتت إليه ورد ترفع حاجبيها استنكارا، ليعيد اسمها بينما الطبيبة تراقبهما مبتسمة ¤ أقصد ورد الخطاب. قالت الدكتورة : إذا سيد جندي و حرمه بماذا أساعدكما؟ توترت ورد، فأجابها ليث بثقة وبشكل مباشر ¤ زوجتي شهدت جريمة قتل وهي بسن صغير، أثر عليها ذلك لذا قررنا اللجوء لطبيب نفسي، فأوصى بك مصدر أهل بالثقة ..و ها نحن هنا. ردت عليه بذات بسمتها الرسمية ¤ شكرا لك ولمن أوصى بي، أرجو من الله ان أكون على قدر الثقة التي منحتموني إياها ..إذن زوجتك المعنية ...سأطلب منك شاكرة الانتظار خارجا إلى أن أتحدث قليلا مع السيدة. أومأ ونهض من مكانه ناظرا إلى ملامح ورد الخائفة، فيهمس لها : سأكون قرب الباب لن أبتعد ..استرخي! هزت رأسها قبل أن تديره إلى الطبيبة التي سألتها بنبرتها الهادئة : لماذا أتيت ورد؟ رمقتها ببلاهة، فأعادت تشكيل سؤالها ¤ لماذا قررت المعالجة الآن تحديدا؟ ردت عليها بخفوت : لأنني خائفة. سألتها الطبيبة باهتمام : ما الذي يخيفك؟ ثبتت عينها على المزهرية أمامها بينما تجيب بشرود ¤ فقدان عقلي. ضمت الدكتورة حاجباها، تعقب ¤ لماذا تعتقدين بأنك ستفقدين عقلك؟ ظلت تنظر إلى المزهرية بينما تقول ¤ أصبحت أرى أشباحا من الماضي ولم أعد أتحكم في أطراف جسدي. سألتها بقلق : ترين أشباحا لمن؟ لأشخاص توفوا؟ لم تجبها لكنها أومأت بنعم، فقالت باسمة ¤ هل ترين ضحية الجريمة التي شهدتها بصغرك؟ أومأت من جديد، فاستدركت بتفسير ¤ حدثيني عن الشبح، كيف رأيته؟ وماذا قال لك؟ همست بخفوت أكثر تشد بيديها على الأريكة أسفلهما ¤ رأيتها بالمرآة وتحدثت معي بعينيها الجاحظتين، اللتين غادرتهما الحياة وأنبتني، ثم استولى المجرم على ملامحها واختفت. سألتها الطبيبة بحذر : الضحية فتاة؟ عادت تهز رأسها إيجابا ¤ هل يمكن أن تخبريني كيف ماتت؟ رفعت إليها عينين مليئتين بدموع بدأت تنهمر بغزارة، تخبرها تماما بما أخبرت به والدها وليث، فسألتها ¤ متى رأيت الشبح أول مرة؟ نطقت بألم : هي مرة واحدة بيوم خطبتي. هزت الدكتورة باسمة رأسها، تستوضح : و ماذا فعلت؟ فتحت فمها تنظر إليها ببلاهة، فأعادت إلقاء سؤالها بشكل آخر : أعني هل أثر ذلك على خطبتك؟ أومأت بلا تقول بحذر وترقب ¤ بالعكس، تحولت الخطبة إلى زواج . رفعت الدكتورة حاجبها الأيمن دلالة على تفاجئها، تتساءل ¤ كيف ذلك؟ بللت شفتيها ومسحت دموعها، تجيبها ¤ طلبت من ليث إخراجي من بيتي بأي طريقة تلك الليلة . ظلت الدكتورة صامتة تفكر ثم عقبت بوضوح ¤ إذن هربت ولم تدخلي غرفتك منذ رأيت ما رأيته على مرآتها أطرقت برأسها و هزته بنعم، فأكملت ¤ و ماذا عن مرآة غرفتك الزوجية؟ ألم تري فيها شيئا؟ أومأت بلا محافظة على صمتها و مطرقة برأسها، فسألتها الدكتورة بنظرة متمعنة ¤ هل تعيشين حياة زوجية طبيعية يا ورد؟ رفعت عينيها ترمقها بحيرة ثم حركت رأسها إلى كلا الجانبين مرات عدة، فأومأت الطبيبة دلالة على توقعها لذلك ثم قالت ¤ إذن ورد، ما الذي يجعل رجلا كالسيد ليث يساعدك بهذه الطريقة، يتحدى عائلتيكما ويتزوجك بتلك السرعة؟ تدعك كفيها ببعضهما مجيبة بهمس ¤ قال بأنه يحبني ولن يتركني أبدا. ابتسمت د. باسمة، تقول مؤكدة ¤ أجل، إنه يحبك، بما أنه يساعدك وأتى بك إلى هنا، حتى نظرة الخوف عليك التي رمقك بها وهو يغادر تدل على أنه يحبك جدا لكن ورد يجب أن تعلمي بأن الإنسان عندما يحب ينتظر من الشخص الذي يحبه أن يبادله نفس الشعور، فهل أنت تبادلينه شعوره؟ ارتبكت تفرك كفيها بشكل أكبر تقول : وعدني بأنه لن يلمسني. تنهدت الدكتورة قبل أن تفسر ¤ عزيزتي أنا لا أقصد اللمس، مع أن الرجال كثيرا ما يبرهنون عن حبهم بالأفعال ومنها اللمس وأغلب الزوجات يشتكين من عدم تعبير أزواجهن بالكلمات عن الحب ويعتبرن ذلك انعدام الرومانسية لديهم ...أما زوجك فقد عبر عن حبه بمد يد المساعدة لك، بالزواج منك وبحرمان نفسه من حقوقه ثم قالها لك بلسانه، فهل تحبينه أنت أيضا؟ ضيقت عيناها تفكر ثم قالت وهي تهز كتفيها : لا أعرف. فاستفسرت منها الدكتورة ¤ لماذا طلبت منه المساعدة دونا عن أي شخص آخر؟ لم تجبها تركز على ما تقوله الطبيبة التي استرسلت بحديثها ¤ ماذا سيكون شعورك إذا وعدتك وتأكد لك الآن بأنني أستطيع مساعدتك وطلبت من ليث أن يطلقك ويحرر نفسه منك؟ اشتعلت عينا ورد بحدة لم تتحكم بها وارتعشت يداها مقطبة بتأهب، فابتسمت الطبيبة تستطرد ¤ تشعرين بحرقة وسط صدرك، أليس كذلك؟بعده عنك يؤلمك؟ بلعت ريقها و قد فهمت مقصد الطبيبة، فزفرت باستسلام هامسة بقلة حيلة : أحبه. هزت الطبيبة رأسها مؤكدة ¤ نعم تحبينه والسؤال هنا كيف ستعبرين عن حبك هذا له؟ نظرت إليها تشعر بالحيرة، فاستطردت ¤ و السؤال الأهم ...هل أنت مستعد للقيام بكل شيء حتى تعبري عن حبك له؟ جامدة ترمقها بحيرة، فنهضت الطبيبة من مجلسها تضيف ¤ فكري جيدا لأنني أريد جوابا واثقا منك بعد غد إن شاء الله في الثالثة مساء . استقامت ورد واقفة بينما تهز رأسها تتمتم ¤ ان شاء الله. شكرا لك. أجابتها ببسمة مهذبة ¤ لا شكر إنه واجبي، من فضلك أخبري زوجك بأنني أريده على انفراد قبل أن ترحلا. تمتمت بحاضر و انصرفت، قام من مكانه ما إن لمحها و قطب جبينه حين لمح آثار دموع على وجنتيها، يسألها ¤ أنت بخير؟ ردت عليه بهمس تتطلع إليه بحيرة مشوبة بلهفه تثير شجن فؤاده ¤ الحمد الله ...الدكتورة تطلبك على انفراد، سأنتظرك هنا. هز رأسه و دخل، يتجه إلى مكتبها ليحتل الكرسي أمامها، يصغي إلى حديثها ¤ من الجيد أنك جلبتها الآن، فقد بدأت لديها هلوسة و لو تأخرت الله أعلم كيف سيتطور الأمر. ¤ هلوسة؟ استفسر بقلق فردت عليه بجدية ¤ أخبرني سيد ليث، ألم تلاحظ شيئا في غرفتكما؟ أي تصرف غريب؟ فكر قليلا ثم لمعت عيناه بادراك، يهتف ¤ مرآة الزينة مغطاة بأحد أوشحتها. أومأت برأسها تخبره بما رأته ورد في بيتها و أن طلبها للزواج منه كان هروبا من غرفتها خوفا مما رأته، فبهت ليث و ارتعد قلبه خوفا عليها من الجنون، نظر إلى الطبيبة بتوسل فأخبرته بضرورة مساعدته لها لكي يخرجاها من ظلمة هواجسها خصوصا أن ورد تحبه، تجمد ليث وثبت عيناه عليها لا يصدق ما قالته، تساءل بلهفة : ورد تحبني؟ تبسمت الدكتورة برسمية، تفسر له ¤ ألا تعلم بذلك سيد ليث؟ لا بأس! فهي أيضا لم تكن تعلم واكتشفت الأمر قبل قليل ....لذلك أنت الوحيد الذي تستطيع مساعدتها لتشفى. هتف بحزم متلهف : أي شيء! فقط أرشديني. ردت عليه توصيه ¤ ما سأطلبه الآن منك هو أن تظل بقربها أكثر وقت ممكن، يجب أن تعتاد قربك وحاول لمس يديها لكن دون إظهار تعمد و يجب أن تنام بجانبها في الغرفة بأي حجة كانت، المهم أن تتواجد في نفس الغرفة ...هل فهمتني سيد ليث؟ أجابها بثقة يتفهم معرفة الطبيبة بحقيقة زواجهما الغير مكتمل ¤ نعم دكتورة أفهمك. نهضت من مكانها و هي تقول : ¤ حسنا! أراكما بعد غد إن شاء الله ... رافقتكم السلامة. ودعها ليث وغادرا العيادة وحين استقلا السيارة التفت إليها يقترح بينما يتتبع تفاصيل وجهها. ¤ هلا رافقتني للغداء؟ أجابته وهي تهاتف والدها بعدما تفقدت الجهاز الذي كان على الصامت، لتجد به مكالمات فائتة كثيرة منه ومن والدتها ومحمود * كما تشاء. ¤نعم أبي .. آسفة كنت عند الطبيبة و أدرته على الصامت. رد بلهفة قلق : طبيبة؟ لازلت مريضة ابنتي؟ أسدلت جفنيها تعبا، تهمس له مفسرة ¤ لا أبي أنا بخير، إنها دكتورة نفسية. تغيرت نبرته إلى راحة بينما يقول ¤ جيد حبيبتي ...إن احتجتني فقط هاتفيني وأكون عندك. ردت عليه بتأثر : حاضر أبي، ليث معي لا تخف علي. ودعها والدها والآخر قلبه يدق بسعادة يستعيد كلام الدكتورة برأسه، تحبك إنها تحبك والغافلة عن الزوبعة التي أشعلتها بداخله تتحدث في الهاتف مع والدتها ثم محمود. *** تقف أمامه بكل تأنقها وتدللها الأنثوي الذي يبهر الشباب الغر لكن ليس من يقترب منها كفاية ليعلم مدى تفاهتها، هكذا يفكر تامر وهو يتأمل رشاقتها الشبيهة بالدميات في بدلة نسائية سوداء جذابة، وجهها الفاتن متقن الزينة وشعرها الطويل البني بدرجاته مصفف بعناية أما رائحة عطرها فتملأ المكان برمته، فيتساءل لماذا أعجبته بشدة ولحق بها شهورا يناورها إلى أن وقعت بين يديه ثم كرهها وبشدة. تحدثت بنفاذ صبر بينما تلوح بكفها الناعمة ¤ ما قولك بخطتي؟ ستنجح أسرع من خطتك، لأن ليث واجه الخيانة يسهل عليه تصديق خيانة زوجته أما هي فلا أعلم. فكر قليلا ثم أجابها ¤ حسنا سأرتب كل شيء لكن كوني جاهزة في حال فشل خطتك. زفرت بضجر تخبره بينما تترك جواره على الأريكة ¤ ستنجح طبعا، من تكون هي كي لا يشك بها؟ أجابها ساخرا بينما يرخي ظهر جسده بمسند الأريكة ¤ مثلك لن يعرف أبدا ...هيا أسرعي وألقي بسحرك المسموم عليهما ...إنهما يتغديان بمطعم الجوهرة، أظنك تعلمين مكانه جيدا كما تحفظين عن ظهر قلب كل الأماكن الراقية. انسحبت تلعن وتشتم بسرها تامر واليوم الذي عرفته فيه هي... رهف. **** ينظر إلى باب السجن حتى خرج منه شاب وسيم لم يتعرف عليه مع النظرة الأولى، تحقق أكثر فعلم بأنه ليس إلا زيد، صافحه مبتسما متفاجئا، يشير الى وجهه ¤ زيد! ما هذه الوسامة يا رجل؟ السجن لا يليق بك أبدا. أجابه زيد وقد أنار الفرح ملامح وجهه، فتخلص من بؤسه وتأنق للحرية وليدخل الباب الذي فتحه الله له ليبدأ حياته من جديد، فمادام قلب العبد صافيا لا يهاب إلا خالقه، فإنه مهما سُدت عليه أبواب، يترك له باب رحمة يناسب العبد ليدخله في الوقت الذي يلائمه، كل الأقدار لحكمة قد يدركها العباد أو تظل مجهولة إلى يوم يبعثون . ¤ شكرا لك حضرة الضابط. رد عليه بعتاب ¤ حضرة ماذا؟ اعتبرك صديقي فلا تنادني إلا بياسين ...هيا اركب! استقل السيارة، يشعر بفخر للمكانة التي قد بلغها أكسبته احترام رجال كليث و هشام وأيضا الضابط ياسين ...التفت يسأله ¤ الى أين ستوصلني؟ هل تحتاجونني في القضية؟ رد عليه قائلا ¤ لا ليس الآن، سنحتاجك عندما نقبض عليهما متلبسين، العميد أوصاني بإيصالك إلى بيت الخطاب، ستبقى هناك إلى أن يبدأ الموسم الدراسي الجديد، افرح يا بطل! ستحقق حلمك. ابتسم زيد بسعادة و ياسين يستطرد ¤ إياك أن يعلم أحد بالمعلومات التي توصلت إليها، أبقي الأمر سرا إلى أن تنتهي القضية. رد عليه مؤكدا ¤ بالتأكيد لن أفصح عن المعلومات لأي أحد. *** جالسان إلى طاولة بعيدة شيئا ما بمطعم راق و هادئ، طلب الغداء ثم نظر إليه مستفسرا ¤ كيف تشعرين ورد ؟ آمل أنك بخير. أومأت باستحياء من نظراته الملهوفة عليها فتجعل قلبها يسرع بوتيرته، فأكمل يخبرها ¤ زيد خرج من السجن اليوم. رفعت عينين فرحتين، تستفسر منه باهتمام ¤ حقا؟ ...أين ذهب؟ هل هو بخير؟ عبس، يرد بحنق ¤ إنه جيد وهو الآن ببيت أهلك. ضمت حاجباها باستغراب، تتساءل : بيت اهلي؟ قلب عينيه بضجر، يفسر ¤ ذلك البيت الآن هو لأهلك وبيتك أنت حيث أكون أنا. ابتسمت بدفء، تجيبه بهمس : ¤ زيد بمثابة اخٍ صغير لي أنت لن تتخيل كم العذاب الذي تعرض له في صغره، صدقني، معدنه أصيل، فقط يحتاج لمن يأخذ بيده. هز رأسه بتفهم يعدها ¤ لا تخافي عليه، أعجبت بشخصيته وسأهتم به إن شاء الله. يكمل بداخله، فقط كفي عن الإهتمام بكل الدنيا سواي! فأنا أحترق، تنبه إليها تطلب منه أن يوصلها إلى بيت أهلها لترى والدتها و زيد، فزفر بضيق وقبل على مضض. أنهيا الطعام وهمَّا بالمغادرة حين أوقفهما صوت أنثوي قلب كيان ليث يوقظ كل شياطينه وسمِّر ورد مكانها، تتأمل فتاة تعدت حدود كل المقاييس لديها، بملابسها المثيرة وزينتها وحتى تمايلها بينما تقترب من زوجها، قائلة بدلال ناعم وهي تحط بكفيها على صدر ليث مما جعل حاجب ورد الأيمن يرتفع بقوة يكاد يلمس منابت شعرها ¤حبيبي ليث، كيف حالك؟ اشتقت إليك كثيرا. ارتفع حاجبا ليث ذهولا هو الآخر ثم ما لبث أن تغيرت ملامحه إلى التقزز والقرف بينما يرفع يدها من على صدره بسبابته وابهامه، ينفضهما عنه، كأنها مرض معدي، يجيبها بامتعاض يغلف به غضبه الأسود ¤ أنا لست حبيبك ولا يشرفني حمل لقب طليقك ولم أشتق إليك إطلاقا، في الحقيقة لقد نسيت أمرك حتى. اضرم نار الحقد بأحشائها، فهي تعرفه جيدا ولقد نسى أمرها بالفعل، أخفت حنقها جيدا تبتسم بإغراء، تقول ¤ لو كنتَ نسيت أمري حقا لما أتيتَ إلى المطعم المفضل لدي. التفت إلى ورد متوجسا من أن تصدقها يستعجب هدوءها تتأمل تلك الشخصية المريخية بالنسبة لها، مستعيدة شخصيتها الرزينة التي لا تتسرع في الحكم مهما شهدت بعينيها وسمعت بأذنيها ولا يمنع ذلك إطلاقا إحساسها بالوجع ينهش أحشائها فهذه التي أمامها فتنة بعينها وكانت يوما ما زوجة ليث. عاد ينظر إلى رهف، قائلا بضيق ¤ سمي لي مطعما راقيا واحدا بالمدينة لا يعد مكانا مفضلا لديك. هدفها واحد وهو تحريك ذلك الصنم المجاور لطليقها، فاستمرت تحاول ¤ أوه... لا تقل بأنك مازالت غاضبا مني. تمالك نفسه من وقاحتها يبتسم ببرود بينما يقترب من ورد المنهمكة بتفحص رهف بتدقيق مضحك، يرد ¤ أتعلمين؟ إلى وقت قريب كنت أشعر بغضب وحقد كلما تذكرت أي شيء يخصك، أما الآن؟ رفع كتفاه ثم أخفضهما بخفة، يستدرك ¤ لم أعد أشعر بشيء لا كره، لا غضب لا شيء، فكما ترين هذه الفتاة بجانبي جعلتني أعي أن ما أحسسته معك لم يكن حبا أبدا بل مجرد إعجاب الشباب بكل بريق زائف سرعان ما يزول. طفح كيلها ولم تستطع تقبل الإهانة، فسقط قناع الإغراء والنعومة لينكشف الغضب و الحقد الطاغي بينما ترمق ورد من فوق إلى تحت بنظرات مستهينة ¤ هذه تنسيك إياي؟ أنا رهف! من أجلي حفيت كي أتزوج بك أم أنك نسيت؟ رفع يده محذرا يقول ¤ ليست هذه! إنها زوجتي ورد، أنا لم أحف من أجلك رهف وأنت تعلمين ذلك جيدا. لم يوقظ ورد من تأملها سوى لفظه لاسم طليقته بلسانه، فتصلبت تنطق برسمية باردة ¤ سررت بالتعرف إليك سيدة رهف. ثم التفتت إلى ليث تستدرك بنبرة رقيقة مستجدة على سمعها ¤ ليث هلا انصرفنا؟ ستتأخر على عملك وأنا أريد رؤية والدتي من فضلك. تبسم لها بحب يشير لها لتتقدمه وانصرفا دون أن يلتفتا لتلك التي تتميز غيظا، تهمس بحقد ¤ ماذا تملك تلك الخرقاء الجاهلة بأبسط قواعد التأنق ليقع الضابط ليث الجندي بغرامها؟ ألا يرى ملابسها؟ إنها ضعف حجمها. لن أتراجع وسأحقق هدفي. ركبا السيارة فبادرت ورد تخاطبه بحدة لم تقصدها ¤ هل يمكنك إخباري قصة هذه الفتاة؟ يا إلهي! هل حقا كنت متزوجا من هذه ال ...أستغفر الله العظيم . تفاجأ ليث بداية بهجومها لكن سرعان ما تحولت مفاجأته إلى رضا وسرور حين تتذكر قول الطبيبة، يستنتج غيرتها عليه، ابتسم مجيبا بينما يشغل محرك السيارة ¤ سنتحدث في المساء إن شاء الله، سأخبرك بكل قصتي معها، أعدك! أقلها إلى 'بيت أهلها' مؤكدا عليها عدم المغادرة إلى أن ينهي عمله ويعودان معا إلى القصر ثم راقبها الى أن دخلت وانطلق بسيارته. **** ¤ماذا بك آنسة شاهي؟ إن أصابك التعب يمكنك المغادرة سأكمل عنك. كانت هذه فاطمة التي لاحظت مدى انزعاج وحزن شاهي، تتأفف كل لحظة غير مركزة على الملفات المكومة أمامها، هزت رأسها بخفة، حانقة من العنيد الذي لم يحدثها منذ تركها في المقهى وهي بالتأكيد لا تستطيع مهاتفته، فلم تجد بعد حلا لمعضلتها، اهتز هاتفها فوق الطاولة فنتشته نتشا حين لمحت اسمه وفتحت الخط رأسا لينساب صوته الأجش يداعب دقات قلبها تخفق لحنا خاصا به وحده فقط ¤ سنبلة، أين أنت؟ ردت بلهفة مبتسمة لمزاجه الرائق ¤ أنا في الدار أيها الأشيب، ماذا تريد؟ رد عليها ضاحكا على اللقب الذي حببه في شعره الفضي بعد أن كان سابقا محط سخرية من حوله ¤ وأنا بمدخل الدار، أخرجي! أريد التحدث معك. لملمت أشيائها بسرعة وانصرفت بينما تلقي سلاما سريعا على فاطمة المبهوتة لتغير حالها من الكآبة والبهوت إلى الإشراق والحيوية. يراقبها عن كثب فتحمر من لهفته الظاهرة وركبت سيارته المتواضعة دون امتعاض هذه المرة ولا حتى رفض نفسي، تجرب فقدانه فتهون عليها ظروفه الصعبة بالنسبة لما ألفته من حياة مرفهة. كانا قد احتلا نفس الطاولة في المطعم المطل على البحر حين سألته أخيرا خجلة من مراقبته ¤ لما تحدق بي هكذا سمير؟ ولأنه لا يعلم كيف يخبرها بما أخفاه عنها ولا يجد منفذا يهون به غضبها الذي سيضرمه كنار تحرقهما معا إن لم يمتلك الحكمة، قرر الاعتراف بما يشعر به نحوها علّه يكون شفيعا له أمامها ¤ أحبك! لم تستوعب بعد اعترافه تلتفت برأسها كما فعل سمير إلى تصفيق ناصر الساخر، يهل عليهما ببسمة سمجة متعمدة، يقول بتهكم ¤ يا له من مشهد رومانسي جميل! قامت شاهي بحدة مبهوتة من حضوره و سمير يضيق عينيه محاولا فهم ما يحدث أمامه ¤ ناصر، ماذا تفعل هنا؟ رد عليها مقتربا أكثر يشير للمقهى ¤ إنه مطعم عزيزتي شاهي، يدخله من يشاء وقتما يشاء. هتف سمير بعدوانية شعر بها تجاه هذا الرجل الذي يتحدث إلى شمسه بألفة و كأنه يملكها ¤ من أنت؟ مد يده ليصافحه وقد تحولت ابتسامته إلى لؤم، يعرفه بنفسه ¤ أنا ناصر مجران، ابن عم شاهيناز مجران، تشرفت بمعرفتك سيد سمير رشدان. ضمت شاهي ما بين حاجبيها الشقراوان تستغرب معرفة ناصر لسمير الذي خفق قلبه متوقعا القادم الذي لم يتأخر حين التفت ناصر الى ابنة عمه مستطردا ببسمة متشفية ¤الآن علمت لمَ أصريت على شراء سيارتك من وكالة (s.r.) لم تخبريني بأنك تعرفين صاحبها معرفة شخصية، كان ذلك ليسعد والدك فهو كما تعلمين يحب رجال الأعمال الناجحين. فتحت شاهي فمها بشكل أظهرها بلهاء وهي تتمتم بعدم فهم أمام نظرات سمير الجامدة يتأملها في بدلة أنيقة محتشمة بالمقارنة بما ترتديه عادة، سروال من القماش الحريري بلون أخضر فاتح وقميص أبيض عليه سترة من نفس خامة ولون السروال، إنها جذابة وجميلة وكم يود إخفاء هذه الفتنة التي تملكها فلا يتمتع بها أحد غيره كهذا ال ... ناصر ابن عمها. ¤ آ..لا ..أظنك مخطئا، فسمير ليس آ ما؟ لا هو! ماذا؟ التفتت إلى سمير عاجزة عن التعبير تحثه على التحدث وتقديم نفسه لكنه تسمر و التوتر جلي على صفحة وجهه، يرمقها بأسف، فتكلم ناصر ينهي دوره كما خطط ¤ألم تكوني تعلمين؟ إذن دعيني أقدمه إليك، فهو شرف لي في الحقيقة ..إنه سمير رشدان صاحب وكالات س.ر لتسويق أشهر ماركات السيارات.. لديك الحق في عدم معرفته، فهو معروف بالتخفي عن أضواء المجتمع المخملي وعن عدسات آلات تصوير الصحافة. شاهي متحجرة مكانها على هيئة البلاهة، شفتاها مفتوحتان تحاول الاستيعاب بينما وجه سمير يتشنج غير مصدق حظه الأسود، ليكمل ناصر ببراءة زائفة ¤لكن لا أفهم، كيف تجلسين برفقة شخص، تسمعين اعترافه بالحب وأنت لا تعرفين حتى من يكون؟ أقفلت فمها أخيرا تلتقط حقيبة يدها بهدوء وبصمت قاتل منحته نظرة ألم تحمل بين طياتها دمعة متحجرة أبت النزول كبرياء يناضل ليعيش رغم جرحه العميق، نظرة هوت بقلب سمير و هو يراقبها ترحل حتى اختفت من مجال رؤيته، فيسمع الآخر يهمس بتهكم قبل أن ينصرف ¤ أووبس! يبدو بأنني أخطأت التصرف. لم يحد سمير بعينيه عن مكان اختفاء شمسه، يتمتم لنفسه ¤ صدقتِ يا سيدة زينب، خربتها إلا أنني واقف لا قاعد على تلتها. **** تناولت بيان الغداء كما العادة مع العائلة، فهمّت بالانصراف إلى عملها مسرعة وقد أخرها ملف ظلت تبحث عنه ربع ساعة كاملة حين سمعت حديث الجدة تؤنب خالتها على شيء ما كالعادة، فزفرت بضجر وتقدمت خطوة لتكمل طريقها إلا أنها سمعت اسمها يذكر، فانحسرت خطواتها تلقائيا وأطرقت السمع لتتبين فحوى حديثهما ¤ ألا يحق لي القلق؟ لماذا يأتي دائما بفتيات محملات بالمشاكل؟ أليست بيان أفضل منهن ألف مرة؟ لماذا لم يخترها هي ويريح نفسه ويريحنا نحن أيضا؟ اغمضت بيان عينيها بألم تشعر بأمعائها تتلوى داخل بطنها، تصغي لرد الجدة على خالتها ¤ رباه! يا امرأة ألا تفهمين؟ ليث لا يرى بيان ولا يشعر بها كزوجة إنما كأخت له لا أكثر ثم الفرق بين ورد و رهف كالفرق بين السماء و الأرض. هتفت السيدة زهرة بكلام لم تفكر قبل نطقه كما تفعل دائما ¤ لكن بيان ليست أخته بل غريبة عن هذا البيت و هي تشعر بذلك مهما حاولت مدها بالحنان والاحتواء. هتفت الجدة بصياح لم تقدر على تمالك نفسها أمام قلة حكمة كنتها : و من جعلها تشعر بذلك؟ إنها أنت! اتسعت عينا السيدة زهرة باستنكار والجدة تكمل بنفس الهتاف يجرح حنجرتها الحساسة ¤ من جعلها ترفض العريس يليه الآخر حتى أصبحت على أعتاب الثلاثين؟ من ظل يملأ رأسها ب... تحرك يداها في الهواء مستطرده بسخرية تقلدها ¤ ستكونين كنة هذا البيت... ستكونين أم أولاد الجندي وأحفادي ..سَ و سَ و سَ... اقتربت من كنتها تشير إليها بسبابتها التي ألصقتها بإبهامها، تفسر :كلما أخبرتها بتلك الجمل أفهمتها بأنها لن تنتمي لهذه العائلة إلا حين تتزوج من ابنك وتنجب منه أولادا يربطونها بها، ألا تفهمين يا امرأة! هي لا تحب ابنك يعني حتى لو تزوجته سيكون من أجل الانتماء فقط وسيعيشان في بؤس طوال حياتهما. مفاجأة الإدراك شلت أطراف السيدة زهرة، فتسمرت مكانها إلى أن أجفلت هي والجدة على شهقة بكاء لينتبها إلى بيان التي تسرع بخطواتها نحو خارج البيت، تبعتها خالتها مهرولة لكنها لم تلحق بها تلمح طيف سيارتها المسرعة. استدارت السيدة زهرة إلى حماتها اللاهثة بتعب جراء هرولتها هي الأخرى، تستغيث بها ¤ ماذا سأفعل أمي؟ لقد سمعتنا؟ ردت عليها بحنق ¤ أقسم بأن لسانك هذا يلزمه الاستئصال من جذوره، اطلبي ولدي بالهاتف وأعطنيه لأحدثه! هيا بسرعة! **** تعتصر المقود بكفيها، تبكي بحرقة نابعة من شعورها بالذل والمهانة، فيغلف ستار الدموع عيناها عن الرؤية الواضحة تفوتها إشارة المرور الحمراء، فتصطدم بمقدمة أول سيارة تصادفها من الشارع المقاطع وبرد فعل منطقي دارت سيارتها على نفسها إلى أن صدمت الممر الدائري بقوة وانقلبت على سقفها. قفز من سيارته بعد أن تحكم بها بصعوبة ونجح بإيقافها وأسرع باتجاه الأخرى التي انقلبت على عقبها وانحنى مسندا ركبتيه على الأرض يمسك بجانبي الباب المنقلب ليطل داخلا. لمح شعرا كثيفا بلون بني غامق يغطي رأسها المعلق و فوقه عنقا أبيض، فمد يده وأزال شعرها جانبا ليكشف عن وجهها الشاحب مع فمها المفتوح بشفتين تكادان لا تظهران من صغرهما كالأنف فوقهما أيضا صغير. صاح أحدهم بهلع ¤ البنزين والدخان يتسربان من السيارة، يجب اخراجها حالا! انتفض يقيم خطورة الوضع بينما يصيح بحزم ¤ فليطلب أحدكم الإسعاف! حاول فتح الباب لكنه علق، فاندفع بجسده ليدخل إلى جانب المقعد ليحل حزام السلامة من مكانه بينما يمسك بها من تحت ابطيها إلى ظهرها بيده الأخرى، أفلح في فتحه واستقبل ثقل جسدها بتمهل شديد إلى أن حط برأسها على سقف السيارة المنقلبة ثم خرج و سحبها برفق إلى أن أخرجها ليحملها مبتعدا بها عن السيارة كما فعل الجميع مخافة انفجارها الذي حدث بعد برهة، فصعقوا من دوي الإنفجار الذي أيقظ بيان من اغمائها. مسح خيط الدم المنساب من أنفها يلمع بحمرته على بياض بشرتها، ثبتت عيناه على مقلتيها البندقيتان تسبحان في بركتين بيضاوين واسعتين لا يشوب بياضهما سوى عروق حمراء رقيقة وبلل الدموع، فيهتف داخله منبهرا....*سبحان الله ما أوسع هذه العينين!". تجاهد لتفتح عينيها لا ترى سوى الضباب، تتخلله صورة غير واضحة لرأس ضخم لم يبدو لها به سوى وجه رجل يحتل صورة بجوار امرأة لم ترهما بحياتها لكنها لطالما وضعتها تحت مخدتها تتأملها عند نومها وتصبح عليها أول ما تفتح عيناها، رفعت يدها بغية لمس وجه ذلك الرأس تهمس بلوعة موجعة ¤أبي .... ثم غابت إلى عالم اللاوعي تشعر باطمئنان غريب بين يدي ذلك الغريب. استنفرت دقات قلبه على نحو مختلف، تزيد من إثارته التي اشتعلت بفعل لمستها وندائها المتوسل لوالدها، شيء ما بقلبه الجاحد الجامد تغير فتتلقاه عينه عفويا تبصرانها كطفلة صغيرة تبحت عن والدها، فتشتعل لديه المسؤولية تجاهها، فيصيح بقلب وجل ¤ اللعنة، أين الإسعاف؟ لم يكد ينهي جملته حتى انتهي إلى سمعه صوت صفارة سيارة الإسعاف، اندفع المسعفان بالحمالة يضعانها جوارهما وهما بحملها فيسبقهما ويحملها ليضعها عليها، صاح بهما حتى جمدهما مكانهما بغضب جارف ¤اين تأخرتم؟ إن لم تنجوا أقسم لكما بأنني سأقيم الدنيا وأقدم شكاية. ودون رد لم يتجرأ أحد منهما على النطق به استقل سيارة الإسعاف ليرافقها، يهتف بالسائق ¤ إلى المستشفى الدولي، أسرع! استقبلهم الفريق الطبي الذي جمعهم مدير المشفى ما إن حدثه بالهاتف، وقف مكانه يراقب جسدها النحيف وسط سرير يجره الممرضين إلى أن اختفوا و راء باب قسم المستعجلات، فشعر بفقدان شيء مهم او خسارة ما لا يفهمها، أجفل على فتاة تمد له بوثيقة ليقوم بإمضائها، رمقها مستفسرا، يقول ¤ إنها وثيقة تحمُّل مسؤولية المصاريف سيدي، يجب ان توقعها باسمك إن كنت ستتحمل مسؤوليتها. هز رأسه بتفهم وبدون تردد التقط الوثيقة يمضي عليها باسمه "ناصر مجران". **** ضمت لمار مريم بساعدها تبارك لها حين وافقت بإيماءة خجلة على طلب خالتها التي استلمتها هي الأخرى في حضن طويل، تبكي فرحا، فقالت لمار عابسة ¤أمي، لماذا البكاء الآن؟ سيكون لدينا عرس يعني لا مكان للدموع. أبعدت السيدة هناء مريم تمسح دموعها، تجيب ابنتها بصوت متهدج ¤ أنا سعيدة وأفكر، لو كانت شقيقتي حية لكانت فخورة بابنتها تشاركنا لحظات الفرح هذه. بكت مريم عند غياب والديها، فتنهدت لمار بحنق تهتف بعتاب ¤ أمي! أبكيت العروس، ماذا نفعل الآن؟ ضمتها خالتها، تمسح دموعها مجددا ¤ ما رأيك بعقد القران مطلع الأسبوع القادم ريثما نجهز لعرس كبير بفصل الصيف؟ أطرقت برأسها مستحية تهمس بخفوت يكاد يسمع ¤ كما تشائين خالتي. ضحكت بفرح، ترد ¤ كما يشاء الله حبيبتي، سأهاتف ذلك المستعجل الذي لا أعلم كيف سأقنعه بالصبر إلى الصيف مع أنه على بعد شهرين أو أكثر بقليل. *** عاد إلى الاجتماع يحاول إخفاء بهجة فؤاده قبل محياه قبالة صديقيه الناظرين إليه بمرح، باستثناء العميد الذي يفكر فيما وصل إليه من معلومات، فقد أصبح لديه هدفا لن يفلته هذه المرة وسيحسن التخطيط إلى أن يوقع به و يسجنه مدى الحياة، تكلم ليث ¤سيدي لا تقلق، القضية منحصرة بيننا الأربعة حتى الرجال الذين اخترتهم لمراقبة المجرم وابنه ليست لديهم معلومات سوى لدواعي أمنية ...نحن نسبقهما بخطوات بفضل الله ثم عملية التهريب التي اكتشفنا تجهيزهم لها سيدي، سنراقب الموانئ كالصقور و لن يفلتا من بين أيدينا. رد عليه العميد بحزم ¤ سأكون معكم خطوة بخطوة ولن يقبض عليه سواي. هم ليث بالتحدث، فقاطعه اهتزاز هاتفه بجيب سترته، سحبه ليطلع على شاشته التي تومض برقم والده فاستغرب يستأذن، رد مقطبا جبينه بقلق، يقول ¤حاضر أبي، سأتصرف لا تقلق! لفت انتباههم قلقه، فسأله هشام : ما بك؟ نظر إليه بحيرة، يرد ¤ إنها بيان، لا يجدونها و هاتفها مغلق . تدخل العميد، يقترح ¤ اذهب إلى قسم الاتصالات و تتبع إشارة هاتفها إلى نهاية بثها. أومأ وانصرف باتجاه قسم الاتصالات يصاحبه زميله هشام، طلب من الفريق هناك تتبع الإشارة، فراقبوها إلى أن توقفت فاستغربوا توقفها بمفترق طرق كبير بنفس منطقة البيت، فسألت فتاة من الفريق بتوجس حذر ¤ ما نوع سيارتها؟ قطب ليث مجيبا إيها فضغطت على شفتيها، فيحثها ليث بنفاذ صبر : ماذا حدث؟ تكلم آخر بجانبها، يقول ¤ وصلتنا إشارة منذ قليل بوقوع حادث مخيف هناك، انفجرت فيه سيارة من نفس النوع. بلع ليث ريقه بصعوبة يتبادل النظرات القلقة مع هشام الذي أمسكه من كتفه يسحبه إلى قسم الحوادث حيث تأكدوا من وقوع الحادث وثم إخبارهم بالتفاصيل، فأسرع ليث إلى المشفى الدولي بعد أن أبلغ والده بالتطورات محذرا إياه من إخبار العائلة على الأقل إلى حين التأكد من مدى تضرر صحة بيان. اندفعا عبر الاستقبال، يسأل ليث باسمها، فأجابته فتاة الإستقبال بعدم وجود نزيلة بنفس الإسم ليهتف بوصفها وتفاصيل الحادث، فهزت رأسها بإدراك تجيبه ¤ السيد الذي أحضرها لم يكن يعلم باسمها، إنها في غرفة العمليات حاليا، بالطابق الأرضي رواق رقم إتنان. أسرعا إلى الرواق ليجدا رجلا *جيئل* الجثة، بشعر قصير بني مائل للسواد، أنف و فم كبيرين وعينين زرقاوان بهيئة تدل على رفاهية مستواه. رفع ناصر رأسه حين سمع صوتا رجوليا قلقا، يتساءل ¤ هل أنت من صدمته بيان بسيارتها؟ لفت انتباهه اسمها وحفظه عقله تلقائيا، يجيبه بينما يدقق به وبالرجل المرافق له ¤ أجل، كانت الإشارة خضراء فانطلقت لكن سيارة خرجت أمامي من العدم كأنها لم تتوقف للإشارة الخاصة بطريقها، فاصطدمت بمقدمة سيارتي التي دفعتها لتدور على نفسها قبل أن تصطدم مجددا بالممر الدائري وتنقلب على عقبها. عاجله بسؤال آخر ¤ماذا قال الطبيب؟ هز كتفاه دلالة على الجهل بالأمر، مجيبا ¤ لم يخرج بعد من غرفة العمليات. اقترب منه ليث، يحمل إليه بين نظراته الرجاء يبحث عما يطمئنه عليها ¤أخبروني بأنك أنقذتها من الإنفجار وجلبتها هنا، ما رأيك؟ هل إصابتها خطيرة؟ ضم شفتيه بيأس، لا ينكر ما يتملكه من خوف لم يشعر به منذ مدة طويلة فيستغرب إحساسه هذا نحو إنسان لا يعرفه ولم يسبق أن قابله من قبل ¤ صدقني لا أعلم، ما حدث أنها أفاقت لبرهة تلفظت بها بكلمة واحدة قبل أن تعود لفقدان الوعي مجددا، لم يظهر عليها مصاب سوى شحوبها و خيط دم سائل من أنفها. مسح ليث على وجهه من القلق والضيق، يستفسر منه ¤ ماذا قالت ؟ أجابه رافعا حاجبيه الكثيفين : أبي! استغرب ليث ليعقب هشام باقتضاب ¤ غريب. سألهما ناصر بريبة وفضول : هل أنتما من عائلتها؟ هز ليث رأسه بينما يقول معرفا بنفسه ¤أنا الضابط الممتاز ليث الجندي وبيان تكون ابنة خالتي، شكرا لك على شجاعتك، لن أنسى جميلك هذا أبدا. استنكر قوله مجيبا عليه ¤ جميل ماذا يا رجل! إنه واجب على كل من وضع في ذلك الموقف. التفتوا على إثر قدوم السيد يوسف الذي يلهث من ركضه وخوفه البالغ على فتاة اعتبرها أمانة في رقبته وعاملها كإسراء و ليث، يسأل بلهفة : أين هي؟ كيف حالها؟ هم ليث بإخباره ممسكا به ليسنده إليه، فخرج الطبيب من غرفة العمليات فتجمعوا حوله حتى لم يعد يظهر من الطبيب المسكين شيء، يهدئ من روعهم ¤ اطمئنوا إنها بخير، كان هناك نزيفا داخليا بسبب اهتزاز جسدها بشدة لكن الحمد لله سيطرنا عليه وأعادنا كتفها المخلوع جراء انقلابها إلى مكانه وهناك شق طفيف بعظم ساقها الأيسر يبدو أنه اصطدم بالمقود، ستتألم قليلا لكن سيخف الوجع بعون الله مع المسكنات والدواء المناسب، سنستضيفها لأيام حتى يشفى موضع النزيف تماما. أطلق الجميع زفرة راحة بينما سأل السيد يوسف الطبيب ¤ هل تسمح لنا برؤيتها؟ رد عليهم قبل أن ينصرف ¤ ليس قبل ساعتين على الأقل ...يتم نقلها حاليا إلى غرفة العناية حتى تستيقظ جيدا ونطمئن على مؤشراتها الحيوية....عن إذنكم. التفت ليث إلى ناصر شاكرا إياه من جديد وعرفه إلى والده الذي شكره بدوره و طلب منه المغادرة إن شاء لكن ناصر و لإصرار ملح من قلبه وعقله على حد سواء، طلب من السيد يوسف السماح له بالبقاء إلى أن يراها ويطمئن عليها ولعجبه انشرح صدره حين سمح له بالبقاء. **** تأكد من انصراف الجميع يتسحب إلى غرفتها، فتح الباب بخفة كما أغلقه بخفوت واقترب من السرير يلمح جسدها النحيف برداء المشفى وشعرها ملموم تحت الغطاء البلاستيكي بينما ملامحها الصغيرة مخفية تحت كمامة الأكسجين، لا يظهر إلا جفناها الكبيرين المسدلين على عينين يتذكر جيدا وسعهما، رق قلبه لشحوبها وضعفها كما قلة حيلتها، استنتج عقله من بياناته التي جمعها بأنها يتيمة والخالة تحاول تزويجها لابنها الذي يعتبرها كأخت لكن ترى ما شعورها هي؟ هل تحبه لذلك فقدت صوابها وانطلقت بسيارتها لا تبصر أمامها؟ كره تلك الفكرة ينفضها عن رأسه وانحنى نحوها يمد يده إلى جفنيها، لمس أحدهما بإبهامه يشعر به حريرا ينساب إلى صدره كنسيم بارد في أحر يوم صيفي، هم بلمس الآخر، فرمشت وفتحت مقلتاها النجلاوين فجأة، تسمر مكانه يتأمل لون البندق الذي أصبح يحتل جل بياض العين كالبدر في ليلة تمامه. عاد إليها الوعي بعد أن نامت أثناء زيارة العائلة تشعر بكل موضع بجسدها يؤلمها وبثقل في رأسها، رفت رموشها لتزيل الضباب الذي يغشى عينيها لتجد قربها رأسا ضخما بملامح كلها ضخمة، فتجمدت تتأمل للحظة زرقة عينيه الغامقة المختلفة عن الزرقة الصافية لدى أولاد خالتها لكنها ما لبثت أن شعرت بالخوف، تحاول التحرك بينما تتنهد بألم ليستقيم في وقفته رافعا يديه باستسلام، يهمس بخفوت هادئ غريب عليه ¤لا تخافي! أنا من صدمتِ سيارته وأخرجتك من سيارتك بعد أن انقلبت وأحضرتك هنا ....كيف تشعرين؟ نزعت الكمامة، تجيب ببعض الحنق: أشعر بأن حافلة دهستني، أنظر؟ أنا أعلم بأنني مخطئة وبما أنك لم تصَب يمكنني دفع تعويض على الأضرار التي لحقت بسيارتك. ابتسم بغموض وظل على همسه، مجيبا ¤ للأسف الأضرار التي تسببتِ بها لا يمكنك تعويضها بالمال. زوت ما بين حاجبيها بريبة ترفرف بجفنيها، فيرفرف شيء ما وسط صدره قرب القلب تماما، فتقول بحيرة ¤ لا أفهم مقصدك ...هل كان معك أحد في سيارتك؟ هل تأذى؟ يا إلهي! أنا لم أقتل أحدا أليس كذلك؟ ..آه! حاولت التحرك بجزع، فتألمت وأسرع إليها يثبتها بيديه الضخمتين، يهتف بخفوت ¤ اهدئي! لم يمت أحد، بل أنت من أوشك على فقدان حياته! سكنت بين يديه ترمق القلق بعينيه لا تصدق بأنه من أجلها، فأسرع تنفسها موازيا لسرعة قلبها، ليهتف بقلق بلغ مداه ¤ما به تنفسك؟ هل أنت بخير؟ هل استدعي الطبيب؟ حاولت دفعه عبثا، تهمس بضعف ¤ أرجوك ابتعد عني. أعادها إلى السرير برفق مستغربا تصرفاته المخالفة لكل كيانه ثم تنحنح قائلا ¤ حمم، اهتمي بنفسك جيدا لتشفي بسرعة، سأتركك الآن وسأعود غدا بإذن الله لرؤيتك. أومأت دون كلمة تحدق بقسمات وجهه بتدقيق كأنها تسبر أغواره حتى أجفلا كلاهما على فتح باب الغرفة يدخل منه ليث بصحبة ورد. استغربا وجوده، فبارد ناصر يخاطب ليث بثباته وثقته المعتادين لديه، توهمان من أمامه بعجرفته. ¤انتظرت حتى أنهت العائلة زيارتهم، لم أرد التطفل. ثم التفت إلى ورد، يكمل ببسمة رسمية ¤ مرحبا سيدة ورد كيف حالك؟ علمت بخبر خطوبتك لا بزواجك، مبارك عليكما بكل الأحوال. ردت عليه ورد مبتسمة برزانة بينما حاجب ليث الأيسر يرتع بريبة ¤ بارك الله بك سيد ناصر...هل أنت من معارف عائلة الجندي ؟ أومأ بلا وتدخل ليث مجيبا ¤ في الحقيقة هو من أنقذها من الموت، أخرجها من السيارة قبل أن تنفجر. هزت رأسها بإعجاب و شكرت حسن تصرفه ثم انسحب خارجا بعد أن ألقى نظرة أخيرة على بيان التي تراقب الموقف بصمت وهذه النظرة لم تفت إن كان ليث أو حتى ورد. اقتربا منها وتبادلا حديث مجاملة لا يخلو من التوتر لينصرفا بعدها منطلقين إلى بيت العائلة وليث يفكر في شيء واحد، كيف سيقنعها بمبيته جوارها في غرفتها؟ **** ألقى الهاتف من يده على الأريكة أمامه بعد أن هاتفها للمرة التي لا يعرف كم! زفر بحنق يعلم بأنه أخطأ وكان سيصلح خطأه لولا تدخل ذلك الغبي! لمَ لا تعطيه فرصة ليشرح لها؟ إنها عقدة لعينة لم يستطع التخلص منها! زفر من جديد وهو يتذكر نظرتها المعاتبة كأنه طعنها بخنجر مسموم، وعى من أفكاره على لمسة شقيقته، تسأله بقلق ¤ هل ستخبرني ما سبب كآبتك؟ و لا تقل لاشيء لأنني سأخاصمك. نظر إليها بوجوم ولم يحرك شفتيه، فتنهدت بحنق تهتف قبل أن تنصرف ¤ الشقراء هي السبب؟ أخي تزوجها وارحمني من مزاجك المتغير كل يوم بشكل مختلف، إن كنت تحبها تزوجها! لا تضيع حياتك مثلي هباء، صدقني سيأتي عليك يوما تندم فيه بشدة. بهت من نصيحتها ومدى تغيرها، يهمس لنفسه ¤يا لبراعتك يا دكتور مفيد! التقط هاتفه يعيد ما كان يفعله وكله إصرار على أن لا يتوقف حتى تجيبه وإن لم تفعل سيقوم بتصرف لن يعجبها أبدا، ابتسم بمكر مع آخر أفكاره ينوي تنفيذ تلك الأفكار. *** دخلت غرفتها بعد حديث ظنت بأنه لن ينتهي مع العائلة علمت من خلاله سبب تهور بيان وكم أشفقت على الفتاة. غيرت ثيابها تستعد لنوم فسمعت طرقات على الباب، فتحته فدخل ليث بلباس نومه تحت نظراتها المستغربة التي زادت ما إن أقفل الباب وراءه واتجه إلى السرير . جلس بينما هي جامدة أمامه تبلع ريقها بخوف، فابتسم قائلا وهو يشير إلى الجانب الآخر من السرير ¤تعالي ورد واجلسي، سأخبرك بقصتي مع رهف و تامر. غلب فضولها توترها، فتقدمت نحو السرير بخطوات صغيرة قبالة بسمته المرحة، يطبق خطته، فبدأ بالحديث ¤ حدث أول لقاء جمعنا بإحدى الحفلات الشبابية التي اعتدت حضورها في بداية شبابي، تحدثنا وأثارت إعجابي بشخصيتها المرحة. بدأ صدر ورد يغلي فترتسم الغيرة بالعبوس على ملامح وجهها مما أثلج صدر ليث الذي لاحظ هيئتها، يسترسل ¤ الصراحة، لم أمضي معها وقتا كثيرا قبل الزواج وذلك بسبب عملي الذي يتطلب جل وقتي فلقد كنت بالسنوات الأولى وكان يجب علي إثبات نفسي وجدارتي، بعد أن تقابلنا مرات عدة قررت طلبها للزواج، فأنا لست من النوع الذي يتسلى ببنات الناس وسبب آخر بتي تعرفينه هو إلحاح أمي علي للزواج من بيان، ما حدث أن العائلة لم تتقبلها لكن لم يعارضني سوى والدتي، هناك أشياء جذبتني بها كرجل لكن لم أستطع تقبلها فيها بعد أن أضحت زوجتي. هتفت ورد بحنق جعل ليث يكتم ضحكته بصعوبة ¤ لباسها المثير وتمايلها ربما! أكمل متجاهلا قولها وقد استلقى مريحا أعلى ظهره على الوسائد، متصنعا التعب الشديد، وورد لم تنبس ببنت شفة تنتظر تتمة الحديث بفضول قاتل ¤كثرت مشاجراتنا وأصبحت تتذمر من كبتي لحريتها وكانت أمي تشير دائما في كلامها عن خروجها الكثير وتأخرها المتكرر والغير مبرر وأنا لم أهتم وأرجعت قولها لغضبها مني بعدم طاعتها ....إلى أن... تغيرت ملامح ليث إلى السواد حتى أنها لمحت عرقا جامدا على جبهته ويديه مضمومتان بقبضتين حتى ابيضتا كنت بمهمة مراقبة، فلمحتها تخرج من سيارتها تدخل إحدى البنايات، هاتفتها لأخبرها بأنني قريب من مكان وجودها لكن توترها الذي لمحته بسهولة بنبرة صوتها استوقف بي حس المحقق، فقررت سؤالها عن مكان وجودها بدل ما كنت أنوي فكذبت علي تدعي بأنها في بيت أهلها، أنهيت المكاملة بشكل عادي وتقدمت نحو البناية أسأل البواب عن السيدة التي دخلت صمت بداية يرمقني بحذر وحين أظهرت له شارة عملي وعلم بأنني شرطي، اشمئز يجيب بما صدمني وشل إدراكي للحظات **سترنا الله وإياكم سيدي إنها مرافقة الباشا هذه الأيام ... والله سئمت هؤلاء الناس لا يخافون الله لكن ماذا أفعل و أين أذهب؟ أسال الله أن يعفو عني وأغادر هذا المكان الموبوء** ظللت للحظات أنظر إلى وجه البواب بصدمة حتى تداركت نفسي أستعلم منه رقم الشقة، سبقتني شياطيني لا أرى سوى السواد أمامي ومن حولي، كسرت قفل الباب برصاصة من مسدسي ودخلت إلى الشقة أتجه حيث تلتقط أذناي صوت حركة لأجدهما... تجمد ليث ساهما كأنه يعيش الحدث من جديد أما هي فقد لان قلبها ترأف به من ألمه ووجعه من طعنة الغدر، فحثته على المتابعة بهمس رقيق حنون ¤ ماذا وجدت ليث؟ أجفل كأنه نسيها، فوضع ذراعه على عينيه وأراح الأخرى يستوي بشكل مريح لجسده، فظلت رجل واحدة على الأرض بينما يكمل ¤ وجدتها على السرير مع أقرب أصدقائي، تامر المنشاوي. شهقت ورد تسأل نفسها لمَ كل بشاعة بحياتها تكون لها علاقة مع المنشاوي، سمعته يكمل بنبرته المتألمة الجافة ¤ البواب قال مرافقة وذلك يعني ليست مرة واحدة، كانت تعاشرنا معا، كلما تذكرت ذلك تتجدد لدي رغبة بقتلها. احمرت ورد من تفسيره لما يؤلمه أكثر من الخيانة وهو استمرارها لكن حيائها لم يمنعها عن سؤاله ¤ ماذا فعلت حين حين ...أعني.... ¤لاح شبح ابتسامة على جانب فمه بينما يرد عليها ¤ لم أستطع قتلهما لأنني رجل أمن لا يفترض بي اقتراف جريمة ضد القانون كما أنني إنسان لا أميل لزهق الأرواح لكنني لم أتركهما إلا وهما بأشد الحاجة إلى قسم المستعجلات. تنهدت ورد بألم لمصابه تفكر كيف للإنسان أن يكون بهذه البشاعة ويتصف بأسوء الصفات من أجل شهوات و نزوات محرمة سريعا ما تفوت لذتها ويبقى أثرها الخبيث ليقتات على أخلاق وفطرة صاحبه كوحش مفترس، التفتت إليه حين سمعت صوت رتابة أنفاسه بما يدل على نومه، فهمست ¤ليث ...ليث هل نمت؟ لم يجبها، فضمت ملامح وجهها بانزعاج وعادت تناديه بخفوت: ليث ليث استيقظ! اذهب الى غرفتك. ¤ممممههم أجابها بهمهمات مكتومة فهمت بمد يدها لتحركه لكنها أرجعتها وظلت تنظر إليه تشعر بألمه وتعبه من طول يومه بين طبيبتها وعمله لينتهي بحادث بيان، أشفقت على حاله وفكرت بالذهاب إلى غرفته بدل إيقاظه، همت بالنهوض لتتسمر مكانها حين استرجعت كلام الطبيبة، فتتساءل" إن لم تستطع البقاء معه بمكان واحد كيف ستخطو إلى طريق الشفاء وتحلم بأن تكون زوجة حقيقية له يوما ما؟ هو أهل للثقة ولن يؤذيها، لقد وعدها. عادت بتمهل إلى مكانها وحطت برأسها على مخدتها مبتعدة أبعد ما يمكن عنه، ودست ظهر يدها تحت جانب وجهها تتأمله إلى أن هدأت دقات قلبها المتسارعة وهدأت معها أنفاسها وراحت في سبات عميق بينما إحساس بالأمان قد تفشى بأعصابها يسكنها رغما عنها. تصنع النوم يرهف سمعه إلى أن شعر بانتظام أنفاسها، فرفع ذراعه بخفة يلتفت إليها ليبتسم من ابتعادها وتكومها على نفسها، تحرك بتمهل ورفع الغطاء ليسدله عليها بحرص ثم اقترب قليلا من وسادتها حيث أراح رأسه يراقب ملامح وجهها الهادئة على عكس قلبه الهادر، فأخد يملأ صدره من أنفاسها إلى أن سلك نفس طريق سباتها العميق.