بالطبع الموت كان آتٍ لا محالة، ولكنك بالتأكيد لم تعلم أنه آتيك مِن مَن كنت تظنه الأمان والسكينة، فيصبح الأقرب لقلبك هو قاتلك. ضغط علي فرامل السيارة ما أن اخترقت العبارة أُذنه؛ لتصدر صوتًا مخيفًا، ونظر له بشك، وهو يقول بحذر: ـ أنت اللي قتلت نسمة؟ صاح وائل منفعلًا وهو يهز رأسه : -قتلتها إيه يا عم، أنتَ عارف إن مستحيل أعمل حاجة زي كده. تردد علي قليلًا، وردد في هدوء: -كنت هتقول إيه طيب؟ غمغم وائل مرتبكًا: ـ بعد ما جيت بالأكل مفيش حد كان منكم برة، افتكرت كل واحد راح على أوضته، فدخلت عشان أحط الحاجة وبعدين أشوفكم وهناك لاقيت جثة نسمة أتصدمت، معرفتش أعمل إيه. علي مضيقًا عينيه: -أنت اللي نقلت جثة نسمة أومأ وائل برأسه قائلًا: -أيوة أنا اللي عملت كده بعد ما أتأكدت إن نسمة ميتة، خوفت مش عارف أعمل إيه، فقررت إني أشيل الجثة وأحطها في أوضة فرح وده بعد ما شوفت إن مفيش حد في الأوضة وبعدها اتصرفت كأنه مفيش حاجة. صاح علي فيه وهو يشتاط غيظًا: -غبي. وزفر في غيظ وهو يستطرد: -المهم دلوقتي مش عاوزين حد يعرف أي حاجة. نظر له وائل بحيرة قائلًا: -اللي قتل نسمة واحد مننا، تفتكر مين الشخص ده وليه يعمل كده؟ نفخ علي بضيق: -متقولش مننا؛ لأن ولا أنا ولا أنت القاتل. صمت قليلًا وتابع حديثه: -ممكن فرح مع إنها كانت أقرب صديقة ليها، أو يارا ودي أختها. هز كتفه قائلًا: -مش عارف، مش عارف حاجة، خلينا نمشي دلوقتي. أومأ وائل برأسه، فانطلق علي مغادرًا المكان. مضت ساعات من الوقت وذهب كلًا منهم إلى منزله "في منزل يارا" ولجت يارا للداخل بعدما فتحت لها العاملة فابتسمت لها يارا قائلة: -ماما هنا يا إلهام؟ أجابتها العاملة إلهام: -أيوة ياهانم في أوضتها، هروح أقول لها. كادت أن تتقدم العاملة للأمام، فأوقفتها يارا قائلة: -لا، مش دلوقتي، أنا هطلع أرتاح شوية وبعدين هبقا أشوفها، تقدري تروحي أنتِ. غادرت العاملة من أمامها، وصعدت هي إلي غرفتها، كانت على استعداد لتبديل ثيابها، ولكن فوجئت بفتح الباب على مصرعيه. فهتفت يارا وهي تحاول كتم غيظها: -إيه يا ماما دي طريقه تدخلي بيها. وضعت يدها على قلبها وتابعت: -ده أنا كنت هموت فيها. تقدمت منها سيدة بالخمسين من عمرها وهي تصيح بحدة: -دي طريقة تكلمي بيها والدتك، ما أنا صحيح معرفتش أربي، أختك نسمة فين، ليه مش بترد على تليفونها؟ شحب وجه يارا وهي تقول في توتر: -مش عارفة. نظرت لها والدتها مضيقة عينها: -يعني إيه مش عارفة، أنتو طالعين من البيت سوا وكانت معاكِ. ردت يارا بارتباك: -آه كنا مع بعض، بس هي غيرت رأيها وقررت أنها مش هتروح معانا ومشيت، أنا افتكرتها في البيت. قالت والدتها بقلق: -يعني إيه الكلام ده، بنتي فين دلوقتي؟ أنا قلبي كان حاسس إن فيها حاجة. وضعت يارا يدها على كتفها وقالت: -اهدي يا ماما، هو لو أنا اللي ضايعة كنتي هتخافي عليا كده؟ والدتها بحدة: -أنتِ بتقولي إيه دلوقتي، أنا لازم أروح أكلم والدك أقوله عشان يتصرف. وقبل أن تخطو للمغادرة نظرت لها بشك قائلة: -إيه الرحلة الغريبة دي يوم واحد ورجعتي، ده أنتِ ما كنتي بتصدقي تطلعي وبنتحايل عليكِ ترجعي. زاغت عينا يارا وهي تقول بتوتر ملحوظ، وتفرك يديها: -أصل إحنا بصراحة، آه فرح تعبت؛ عشان كده قررنا ننزل كلنا. لم تتفوه والدتها بحرف، بل أومأت برأسها وغادرت من الغرفة. أغلقت يارا الباب وتنفست بعمق قائلة: -إزاي بس يا ماما أقولك فين نسمة؟ يارب صبرها من عندك. حل المساء وجاء الليل بظلمته كانت نائمة داخل غرفتها، حبيبات العرق تظهر على وجهها، تميل رأسها يمينًا وشمالًا، تأبى الخضوع، كأنها تصارع كابوسًا بشعًا، فتحت عينيها بفزع وصرخت بقوة باسم: نسمة أتت والدتها ركضًا على صوتها، فتحت أنوار الغرفة؛ لتجد ابنتها منكمشة على نفسها، ممسكة بطرف الفراش، صدرها يعلو ويهبط كأنها أنهت عملًا شاقًا للتو، اقتربت منها ووضعت يدها على كتفها، وهي تقول بقلق: -فرح يابنتي مالك؟ انتفضت فرح بذعر وأغمضت عينيها عندما شعرت بيد والدتها قائلة: -لا يا نسمة أرجوكِ، أنا معملتش حاجة، ابعدي عني. قالت والدتها بدهشة مما قالته: -فرح يا بنتي فيه إيه، مالها نسمة؟ فتحت فرح عينيها ببطء ونظرت لوالدتها قائلة ببكاء: -ماما مش أنا السبب، أنا ماليش ذنب في كل اللي حصل، أنا مكنتش عاوزة أسيبها والله، هو أنا كده إنسانة وحشة؟ مالت عليها والدتها وعانقتها، وقالت وهي تربط على ظهرها: -أنا بنتي جميلة، وطيبة، وبتساعد الناس دائمًا. ابتعدت عنها لتضم وجهها بكفيها وتابعت: -احكيلي يابنتي مالك؟ إيه اللي حصل؟ وليه رجعتي بدري كده من الرحلة؟ ومالها نسمة؟ أبعدت فرح يد والدتها عنها وكفكفت دموعها، وقالت وهي تعتدل في جلستها: -مفيش حاجة يا ماما، أنا بس حلمت حلم مش كويس؛ عشان كده خوفت. ابتسمت والدتها قائلة: -طيب تحبي أنام جمبك النهاردة؟ ابتسمت فرح و أومأت برأسها قائلة: -ياريت يا ماما. دثرتها والدتها بالغطاء واستلقت بجانبها، وتحدثت بداخلها: -أنا لازم بكرة أتكلم مع يارا أو نسمة وأشوف إيه اللي حصل مع بنتي؟ لأن ده مش طبيعي. مر اليوم بسلام على الجميع وفي الصباح، هبطت يارا للأسفل وهي تحمل حقيبتها خلف ظهرها ورافعة النظارات على رأسها، كان بصالون المنزل جالسون والدتها ووالدها يتحدث بالهاتف في حين وقع نظر والدتها عليها، فتحدثت بحدة: -أنتِ رايحة فين كده؟ ردت يارا بابتسامة: -مفيش يا سوسو، هنزل يومين شرم كده، حابة أني أغير جو. سميرة والدتها: -جو إيه اللي أنتي هتغيريه وأختك مش عارفين عنها حاجة. يارا بضيق: -ماما وجودي هنا مش هيغير حاجة، تمام. صاحت سميرة بغضب: -اطلعي فوق على أوضتك مفيش خروج لحد ما نلاقي أختك، وبعدين أنتِ إنسانة متهورة وغبية، كل مرة كنتِ بترجعي بمصيبة ومش هسيبك تروحي لوحدك، لازم أختك تكون معاكِ. يارا بصوت حاد: -أختي، أختي، هو في إيه، أنا زهقت من المعاملة دي، أنا مش صغيرة. أنهى والدها مكالمته، فقال لها بتريث قائلًا: -يارا مش وقته دلوقتي، أنا كلمت صديق ليا في قسم الشرطة امبارح وعاملنا بلاغ باختفاء أختك ولحد ما نطمن عليها مفيش خروج، تمام. كادت أن ترد يارا على حديثه، فقاطعها رنين هاتفه، استقبل المكالمة و أبتعد عنهم قليلًا، وبعدها عاد إليهم قائلًا: -قدروا يحددوا مكان نسمة من خلال تليفونها وهما في الطريق دلوقتي. تجلت الصدمة على ملامح يارا، وهي تقول في شحوب: إيه......