رياحٌ عاتية هبت بغتةٌ، تنذر بعاصفة هوجاء قد تنقض في أية لحظة، تسلط ضوء القمر المستدير على سطح بيت بسيط الحال، وأطل القمر وحاشيته التي تُحيطُ به من النجوم على تلك الفتاة التي لم تتعدَّ الثامنة عشرة من عمرها، متسعة العينين، يتجلى فيهما فراغٌ رهيب على من في سِنها، حدقت فيما بين إصبعيها من حبة سم، كانت هي الحل الأمثل لِما هي فيه.. لكل مشاكلها.. وجميع آهاتها.. ومعاناتها.. ترقرقت العبرات في عينيها، ثم أخذت تنحدر على وجنتيها في غزارة، كانت مترددة، ورمقت قرص القمر بعينين خاليتين من الحياة، كأنما ترجوه أن ينقذها مما هي فيه.. أن يدلها إلى الصراط المستقيم.. ثم أطبقت جفنيها في عنفٍ، ودونما ذرة تردد ابتعلت الحبة دون مياه، وفَتَحَتْ عينيها وتأملت سطح منزلها بمقلتين تنعي الفراق، وارتخى جسدها تمامًا، ثم استلقت على ظهرها، كانت مستسلمة للموت بكل ذرة في كيانها، مطيعة لذاك الخدر الذي استشرى في بدنها دفعة واحدة، رغبةٌ ملحة ألحت عليها بغلق عينيها فخضعت لأجفانها أن ينغلقا بتؤدة، ثُم فارقت روحها الحياة، بعدما سرى السم في أوردتها، كانت ناسية أو متناسية أن صنيعها جُرم في حق نفسها، بل هو كبيرة من الكبائر لا يغفرها الله عز وجل، إثمٌ جزاؤه نار جهنم. ***** مرت ساعاتٌ، وقد جعلت الشمس جسدَها متخشبًا محروقًا، لم يتلمس غيابها أحد ظنًا منهم أنها نائمة، حتى صعدت أمها لإطعام الدواجن التي تربيها، وبينما هي ترتقي الدرج بقدمين مثقلتين، توقفت لوهلة عندما وقع بصرها على جسد ابنتها وضربت صدرها بارتياع وهي تهتف: _هِند، بُنَيَّتِي... ونهبت باقي الدرج مسرعة، وهرعت إلى جسدها تضم رأسها إلى صدرها، وقد تأكد حدسها أن ابنتها قد فارقت الحياة، فتجمدت وهي تضمها، بوجهٍ مشبع بالألم، وبمآقٍ تسكب الدمع بغزارة، وبقلبٍ مكلوم متغيب، مسدت على شعر ابنتها وهي تهمس بصوتٍ دفين يقطر بالحزن: - "أنا سبب رحيلك يا غالية، أنا السبب، أهان عليكِ فراق أمك يا ابنتي؟! بِمَ أعزي قلبي الآن؟!" تناولت هاتف ابنتها لترى نتيجتها، فوجدت أن درجاتها تبوء بالفشل، حاصلة على درجة لم يتصوروها يومًا، فغمغمت منهارة:- "لم أكن لأهتم يا ابنتي، لم أكن أقصد ما قُلت". واسترجعت ذكرى أليمة لا تزال تنوء في القلب وتئن، تاركة أثرًا لن يُمحى إلى أن يوارى الجسدَ الثرى؛ في يومِ أمس، أقبلت ابنتها نحوها، مشرقة الوجه باسمة الثغر، تصيحُ من الفرح:- "ستظهر نتيجة الامتحانات في الواحدة بعد منتصف الليل على الموقع يا أمي، لن أنام، لن تغفو عيناي شوقًا وقلقًا".. لكنها قابلتها بجمود، وبعينين محملقتين تطل منهما الصرامة، مع قولها الحاد الذي نحر فؤاد ابنتها:- "أتعلمين؟ لو لم ترفعي رؤوسنا بنتيجة تُرضينا لأقتلنك بيديَّ هاتين دون أن يرف لي جفن، وإياكِ.. إياكِ أن تحصل ابنة عمك "هادية" على درجات أعلى منك أقسم بالله لا أجعلك ترين النور، اذهبي الآن ونظفي غرفتك، هيا. لماذا دائمًا تقارنها أمها بهادية ابنة عمها؟! لماذا هي دومًا في موضع مقارنة معها؟! في كل شيء يجب أن تقارن بها؟! في الأكل، والملبس، والدرجات! أيجب أن تكون نسخة منها لترضيهم؟! لِمَ لا يهتم أحدٌ بها؟!