أخيرًا أتيتِ ندى؟" فتئت بها تلك السيّدة الأربعينيّة بنبرة يشوبها الحزن، بينما تنظر إلى ندى التي تقوم بإفراغ حقيبتها من الملابس دون أن تردّ عليها، فتقدّمت منها بضع خطوات ثم حدّقت بها قائلة بانكسار: لقد كانت أمنيتها الأخيرة أن تراكِ قبل موتها، فلمَ تعمّدت التأخر عن تلبية ندائها؟ لم تؤثّر بها الكلمات والألم الدفين فيها، وكأنّها كجبل من الجليد لا يرى سوى البرودة بالأرجاء، تحدثت أخيرًا بنبرة صلبة دون أن تحيد ببصرها عمّا تقوم به: كنت أؤدي الامتحانات النهائيّة ولم أستطِع الاعتذار والسفر خالتي، فليرحم الله والدتي بالتبنّي. قالت الأخيرة بشيء من السخرية، ثم أكملت بنزق: لقد أتيتُ كي أعيد كل شيء أملكه والذي تصدّقت به السيّدة كريمة عليّ، منذ أحضرتني رضيعة إلى حضنها. تقلّصت معالمها من فرط حسرتها بينما تقول هاتفة بشيء من الدهشة: كيف تقولين هذا الكلام يا ابنتي؟! ألقت ندى الحقيبة أرضًا بعنف لتوجّه نظراتها الناريّة نحو خالتها، قائلة بقسوة يتخلّلها الانكسار: هذه الحقيقة، ولا يمكن إنكارها خالتي نجوى، لقد تبنّتني السيدة كريمة، وراعتني وحرصت على تعليمي حتى حصلتُ على منحة للدراسة بألمانيا، وكذلك لم تقصّر في الرياء على حسابي، فكانت دومًا تتفاخر أمام الجميع بكوني ابنتها المُتبنّاة التي تفضّلت عليها بالرعاية والإنفاق. تنهّدت بتعب بينما تقول برجاء: لا تظلميها بالحكم، أعطِها العذر، إنها بين يديْ رب كريم الآن. هدرت بصرامة تحمل في طيّاتها الوجع والبكاء: وما مبرّر أن تعاملني بتلك الطريقة المتعالية يا خالة؟! حاولتُ كثيرًا أن أعطِيها العذر، ولكن لا أستطيع نسيان معاملتها المغرورة لي، كانت تنفق عليّ ببذخ، ولكن تشعرني في كل مرّة أنها تتفضّل عليّ، لم تحاول يومًا أن تربت على كتفي بحنان أمٍّ بالتبنّي، حتى بتّ أشعر أن ليس هناك من يعطي الحنان في هذا العالم عدا الأم الحقيقيّة. ثم استطردت بنبرة مختنقة إثر العبرات التي تحبسها كي لا يفتر ادّعاؤها بالقوّة: وماتت والدتي منذ كنت رضيعة، فما كان عليّ سوى تحمل أسلوبها الفجّ لأجل مستقبلي الدراسيّ، ولئلّا يقول أصدقاؤها ببطراني على المعيشة المرفّهة التي تحلم بها العديدات مثلي، وحين لم أطِق أكثر من ذلك التحقت بالمنحة الألمانيّة وكأنّها طوق النجاة من جحيمها. حاولت نجوى الحفاظ على رباط جأشها بينما تقول بثبات ظاهريّ: ليس هذا ما حدث. أسرعت تجيبها بحنق وكأنّها أعدّت العدّة لكل المزاعم مسبقًا: إذا ما الذي حدث؟ هل تنكرين أنها تبنّتني فقط لأجل التفاخر والكبرياء؟! ألحقت اسم زوجها المتوفّي باسمي، كانت تلبّي كل رغباتي، لم تكن تقصّر في إعداد شيء لأجلي، لكن حرمتني من أهمّ شيء أحتاجه. ثم أطلقت زفرة معبأة بغبار الهموم بينما تنطق بقهر: حب الأم! حنانها! ابتسامتها! رفقها! أمور عديدة منعتني عنها! لماذا؟!" عادت تجيبها بذات الثبات الواهي: لأجلكِ أنتِ حدث ذلك. عقدت ندى ذراعيْها أمام صدرها، والاستنكار صار باديًا على قسماتها الممتعضة حيث لم تفهم بعد ما وراء هذا الغموض في دفاعها العجيب، فما علاقة غرور كريمة بسلامة ندى؟! أكملت نجوى بالصاعقة الكبرى: والدتكِ لم تمت منذ كنتِ رضيعة، بل ماتت قبل أيّام. زمّت شفتيْها وضيّقت حدقتيْها بينما تحاول تقليب الكلمات في ذهنها، حتى نطقت بحيرة: ماذا؟! أجابتها نجوى بتوضيح: إن أختي كريمة تكون والدتكِ الحقيقيّة. ابتعدت خطوة إلى الوراء حيث حدّقت بنجوى بذهول، بينما تهتف بثورة: ما هذا الهراء الذي تتفوّهين به يا خالة؟! تعلم بماهيّة هذا الرد مسبقًا وعلى علم بتبعات حديثها الآتي، ولكن مضطرّة إلى فعل ذلك حيث قالت بجديّة: هذه هي الحقيقة الوحيدة وسط كومة الأكاذيب التي غُمِرتِ بها طيلة الأعوام الماضية. أسندت يدها على خصرها بطريقة مستهجنة بينما تنطق بتهكّم: ولماذا لم تخبرني بذلك إذًا وعاملتني كالغريبة عنها؟! سيصل الحديث إلى دوّامة لا مُتناهية من عدم الفهم إذا لم تنقذ نجوى الوضع بالعودة خمسة وعشرين عامًا إلى الوراء، فتنهّدت بهدوء قبل أن تبدأ في رواية ما عاصرته من الأحداث الماضية ولا يعلمها أحد سواها هي وأختها الفقيدة، كريمة التي تزوّجت من ابن عمّها أحمد الذي كان يعمل ملازم أوّل بالجيش المصريّ، أحبّا بعضهما كثيرًا وكانت سعادتهما تحلّق حولهما، فقط ينتظر اكتمالها مجيء طفل صغير يوثّق أواصر الحب بينهما، ومع هذه الأمنية بدأت رحلة العناء، فكلّما أنجبت كريمة طفلًا يموت فور ولادته بأيّام دون معرفة السبب، ثلاثة من الذكور واثنتين من الإناث ذهبوا تاركين والدتهم الثُّكلى تتلوّى في لظى الرّثاء، حينها قرّر أحمد أن لا ينجبا المزيد طالما أن الله لم يقدّر لهما الاحتفاظ بطفل، وعلى الرغم من موافقة كريمة في الظاهر إلا أنّ ما أضمرته كان شيئًا آخر، بعد سفر أحمد لمهمة في سيناء اكتشفت كريمة بأنها حامل، ولم تكشف هذا الخبر لأحدٍ سوى أختها، حيث عزمت على إخفاء الخبر عن الجميع حيث كان في اعتقادها أنهم يحسدون فرحتها بميلاد طفلها الجديد في كل مرة، وعلى أحمد أن يدعمها بذلك حتى يولد طفلهما ويتأكّدا من استقرار صحته على خلاف كلّ مرة، حاولت نجوى إيقافها عمّا تنوي القيام به ولكن إصرار أختها المخيف جعلها تصمت تنتظر ما سيحدث حتى وفدت الطامّة الكبرى بعد عشرة أيّام، حيث لَقِيَ أحمد مصرعه أثناء المناوشات مع الإرهابيين،. الكلمات تعجز عن وصف حالتها المضنية بعد تسلّم جثمانه، فلم تصدق الأمر في البداية حتى تيقّنت بعد دفنه بكونها ليست في كابوس كما تظنّ بل هو واقع أليم، واقع يخبرها أن تقبل الحياة الرتيبة بعد فناء توأم روحها وحبيبها الأوّل المتربّع بعرش قلبها، صراخها المُدوي علا حتى أصمّ الجدران من قوّته، دموعها المنهمرة كالشلّالات على صفحة وجهها دون انقطاع، فؤادها الذي يكتوي بنيران فراق ربيعه الذي غادره في بداية الطريق، انقضت أيّام العزاء بصعوبة، ولا زالت كريمة على حالها من السكون التام، في عالمها الافتراضي البائس، ترفض التلفّظ بكلمة ولا تتناول طعامها إلا بالضالّين، وحين ذكَّرتها نجوى بأن تهتم بصحّتها على الأقل لأجل طفلها الذي تخاف عليه أكثر من نفسها، انتبهت لتوّها بكونها حاملًا! انتبهت إلى أن زوجها لم يفارقها بعد، لا تزال قطعة منه ترافقها وعليها الاعتناء بها لئلّا تذهب هي الأخرى كما فعل صاحبها، بادرت إلى الاهتمام بنفسها والتغذّي جيّدًا، حتى يكون جنينها بخير حال مع التكتّم عن الأمر وقد سيطر عليها هاجس الحسد! وما ضاعف هذا الشعور لديها هو موت أحمد الذي يؤكّد لها بكونها الفرصة الأخيرة للاحتفاظ بذكرى منه، ظلّت حبيسة المنزل ترفض لقاء أحد أو الذهاب إلى الطبيب حتى في لحظة الولادة أحضرت نجوى قابلة إلى المنزل، حتى تساعدها إلى أن خرجت ابنتها إلى الحياة، فأجزلت لها في العطاء كي لا تخبر أحدًا بأنّ كريمة أنجبت طفلة، طفلة صغيرة جدًا وجميلة للغاية بل كانت الأرقّ عن من سبقها من إخوانها، عشقت كريمة تلك الصغيرة واهتمّت بها أكثر من نفسها حتى تمنّت لو تدفع حياتها في مقابل أن تكون بخير، وبالفعل قد أتمّت الطفلة شهرين دون أن يعرف أحد، ولكن لا زال هاجس كريمة يراودها بشأن أن يعلم الجميع بشأن تلك الطفلة فتموت وتفارقها كمن قبلها، فسارعت إلى إطلاق أكذوبة طويلة المدى مفادها أن كريمة تبنّت طفلة صغيرة تؤنسها من وحشة الوحدة التي داهمت حياتها بعد موت زوجها.