ألقت الشمس باشعتها الذهبية فتململت النائمة من غفوتها وفتحت جفونها ببطء لتعتاد على ضوء الصباح ومدت يدها تلتقط هاتفها من على الكومود المجاور فراشها تنظر لشاشته علها تعرف الوقت وبالفعل وجدتها الساعة الثامنة فقامت من فراشها ملتقطه منشفتها دالفه مرحاضها تتوضأ لكي تؤدي فرضها وفور انتهائها ارتدت ملابسها على عجاله فاليوم هو يوم مميز بالنسبة لها بشكل غير عادي . امسكت هاتفها وضغطت زر الاتصال ووضعته على مكبر الصوت اثناء ارتدائها حجابها دقائق وجاءها الرد بلهجة مرحة فهي تعلم عشق صديقتها للقراءة وكأنها ادمان: يا صباح الروقان والصحيان بدري والمزاج الرايق صدحت ضحكتها عالياً وهي تبادل صديقتها الدعابة :ههههههههه يا صباح الجمال على احلى فيفيان ،، ها خلصتي لبس ولا لسة؟ جاء صوت صديقتها المقربة عبر مكبر الصوت وهي تجيبها بمرح فاليوم من أسعد أوقاتهما معاً: ههههه طبعاً يا ملكة من بدررررري هو انا اقدر النهارده تحديداً مجهزش للخروج بدري؟ أنهت ارتداء حجابها ولملمت أشيائها ثم مدت يدها تلتقط حقيبتها : هههه لاطبعًا ده انا كنت موتك يا فيفي المهم لبستي هدوم تصلح للجري كعادة كل سنة ؟ ضحكت فيفيان بقوة فهي تعلم أن بمنتصف يومهما ستهرب هي وسارة حتى يتمكنا من البحث على مبتغاهما بمفردهما بعيداً عن باقي صديقاتهما : ههههههه اهو اهو شوفي مين اللي عمال يرغي أهو ومعطلنا واكيد طبعاً عملت حسابي ولبست بنطلون وشوز رياضي عشان نعرف نخلع من الشلة في وسط اليوم ونلف بقى براحتنا ونجيب كل اللي محتاجينه قهقهت سارة بسعادة فصديقتها المقربة هي الوحيدة التي تعلم ما يدور بخلدها : هههههههه خلاص خلاص خلصت لبس اهو دقايق وهتلاقيني مستنياكي تحت في مدخل البيت سلاموز اغلقت الخط وهي سعيدة للغاية وخرجت مسرعة للردهة فوجدت والديها يجلسون يتناولون الإفطار ابتسم الأب على شقاوة ابنته فهي لازالت طفله بداخلها وهزت الام راسها دليل على تعجبها من تصرفات طفلتها خصيصاً حينما مدت يدها تتناول قطعة خبز من على المنضدة لكي تصنع شطيرة _الام: يا بنتي اقعدي كلي زي الناس هزت راسها وهي تضع قطعة الجبن داخل الساندويتش الخاصة بها ومن فوقها قطعتين من الخيار الطازج وشريحة طماطم لونها يسر الناظرين: لا يا ماما هتاخر بالله عليكي شباك تذاكر المعرض بيكون زحمة موووت وملحقناش نحجز تذاكر من على النت زي كل سنة ادارت عينيها ناظره لوالدها نظره ذات مغزى وهي تلوك قضمة الساندويتش بفمها الصغير ولكن الأب أراد مشاكستها وأشاح عينيه الاتجاه الآخر مدعيا عدم الفهم مما غاظها بشدة حيث تقدمت تجاه خطوتين ووقفت امامه تقضم قطعة اخرى بأسنانها اللولية وتعلو ثغرها ابتسامة شقية للغاية وتلتمع بعينيها نظره شقية محببة لابيها فاطاحت بمشاكسته ومد لها يده بمظروف ورقي بداخله المبلغ التي تحتاجه لتبتاع جميع ما تحب من كتب احتضنت الاب بسعاده وقبلته على وجنته وعلقت حقيبتها بيدها وهبطت للاسفل عندما صدح صوت هاتفها معلناً وصول فيفيان وقفت فيفيان بالاسفل تنتظر صديقتها وعندما رأتها ضيقت عينيها قائلة بغضب مصطنع : هو ده اللي هستناكي في المدخل صح مفيش مرة واحدة زى خلق الله توفي بوعدك ده انت مستفزة. ضحكت سارة وتأبطت ذراع صديقتها قائلة وهما تخرجان من باب منزل الأخيرة: خلاص بقا يا فيفي ميبقاش قلبك اسود بقى ههههه يلا بينا عشان نلحق قبل الزحمة بس يارب البت شذى توفي بوعدها وتروح بدري هي أقرب واحدة لمعرض وتشتري التذاكر لينا بدئا الفتاتان في طريق الذهاب إلى المعرض كما هو مخطط وأخيراً وصلا و تقابلوا مع صديقتهن وتقدموا للداخل جميعاً حتى يتسنى لهم اقتناء ما يشتهون وفور دخولهم التفتت أنظارها إلى كتب الأدب المتعددة والشعر والخيال العلمي والتاريخ وبعد رحلة بحث استمرت ما يقرب من خمس ساعات انتهوا جميعاً مما يحتاجون ولكن لفت نظرها احدى الكتب جانباً وكانت تحتوي قصص عدة فشعرت بقشعريرة غريبة تجتاح جسدها فتركت أكياس المقتنيات جانب قدم فيفيان والتفت ذاهبة إلى وجهتها وفور ملامسة يدها للكتاب شعرت ان محتوي الكتاب سيشكل فارق كبير في حياتها القادمة وبدون وعي منها ابتسمت وضمته لاحضانها وكانها ام وجدت طفلها بعد فترة غياب وما جذب انتباهها أكثر عنوانه (احاديث الماضي) قامت بدفع الحساب الخاص بالكتاب الجديد ووضعته داخل حقيبة يدها بعناية شديدة مما زاد من تعجب فيفيان ... حملوا أكياس مشترياتهم واتجهوا للخارج واستقلت كلا منهن ما يساعدها للوصول إلى منزلها وبعد ما يقرب من الساعة وصلت إلى منزلها فرحة للغاية فصعدت درجات السلم كالفراشه السعيدة برحيق زهورها المحببة إلى قلبها أخرجت سلسلة مفاتيحها ووضعت المفتاح المنشود في مكانه المخصص بالباب وإدارته، لينفتح الباب محدثاً صريراً خافتًا فدلفت للداخل وأغلقت الباب خلفها بهدوء سمعت جلبة بالمطبخ فعلمت أن والدتها بالداخل تعد الغداء فالوقت ما بعد الظهيرة بفترة ليست قليلة فضلت الدخول إلى غرفتها كى تخرج مشترياتها ثم وضعتها داخل مكتبتها واخرجت محتويات حقيبتها الخاصة وألقتها بإهمال فوق فراشها ولكنها أخرجت كتابها العزيز بحرص وظلت لبعض الوقت تتفحصه بعناية، وتلتمع عيناها لمعة غريبة ولكن افاقها من شرودها نداء والدتها وهي تدلف غرفتها فهتفت باندهاش عند رؤية ابنتها مازالت بملابسها ولم تقم بتبديلها بعد: انتي لسه بهدومك يا سارة كل ده مغيرتيش يا حبيبتى ؟ وضعت كتابها على الكومود الموضوع بجانب فراشها قبل أن تلتفت إلى والدتها قائلة: معلش يا امي كنت بفضي الحاجه من الشنط وحطيتها مكانها هغير هدومي حالاً خرجت الأم تاركة ابنتها تبدل ثيابها فأبدلت ثيابها ولكن بالها مشغول فللمره الأولى ينتابها شغف كبير لمعرفة محتوى احدى الكتب مما أثار تعجبها خرجت للردهة وانضمت لعائلتها الصغيرة وجلسوا جميعاً يتناولون الطعام فبادر والدها بالحديث عندما وجه سؤاله تجاه ابنته المنهمكة بتناول وجبتها المفضلة التي أعدتها والدتها منذ قليل: انبسطي النهاردة في المعرض يا سو؟ اجابت سارة وهي تلوك الطعام بفمها بهدوء : اه يا بابا كان يوم حلو جداااا ونازل مجموعة كتب هايلة الصراحة واغلب الكُتاب ناس محترمين وبحب كتابتهم عاود سؤالها وهو يضع ملعقته داخل صحن الأرز الساخن : اهم حاجه انك انبسطي يا حبيبتي واشتريتي كل اللي عايزاه ؟ ربتت على كف يده الموضوع على الطاولة وهي تحمد ربها على نعمة وجوده والدها على قيد الحياة وتدليله لها : اه يا حبيبي ربنا يخليك ليا وميحرمنيش من نعمة وجودك في حياتي ابداً أنهت طعامها سريعاً كي تدخل إلى حجرتها حتى تستمتع باكتشاف محتويات كتابها الجديد فمالت بجذعها قليلاً كي تلتقط كتابها من على الفراش وقد اتخذت قرارها بقراءته جلست بشرفتها ممسكة بكتابها وترتشف قهوتها باستمتاع فهي عادتها الدائمه عندما تبتاع كتبها المفضله وتجلس بشرفتها تقرأها ولكنها قررت هذا الشتاء أن تبتاع كتب تحتوي على عبق التاريخ فكان محتوى الكتاب يحكي قصة عائلة مصرية في فترة العشرينيات وظلت تقرأ وتقرأ إلى أن غلبها النعاس بمقعدها داخل شرفتها تحتضن كتابها بين يديها ولكنها أفاقت تتلفت حولها لتجد نفسها وافقه بشارع من شوارع حي الحسين الشريف ولكن الشوارع من حولها خالية من المارة تمتاز بالطابع القديم يفوح منها عبق التاريخ ولكنها أفاقت من شرودها على صوت آتٍ من بعيد لتظهر بعد لحظات أمامها امرأة ترتدي حبره وتغطي وجهها بيشمك ابيض وتحمل بين يدها طفل صغير وممسك بثيابها طفل آخر وبجانبها يسير رجل مرتدي جلباب رمادي اللون وطاقيه لونها باهت من كثره استعمالها و ممسكاً بيده طفل في السادسة من العمر تقريباً أقتربت منهم سريعاً وهي تتسائل بلهفة فهي منذ لحظات قليلة كانت تقف بشرفة منزلها ولكنها ليست شرفتها التي تعرفها عن ظهر قلب فسياجها شكلها غريب عما هي معتادة عليه وكذلك الشارع المحيط بها والأغرب أن شرفتها لها بضعة درجات من السلم توصلها للشارع بسهولة: لو سمحت يا استاذ هو احن..... لكنها قطعت حديثها عندما تخطاها الرجل ومن معه وكأنهم لم يروها كأنها شبح ليس له وجود على أرض الواقع. عقدت حاجبيها متعجبة مما حدث وهمست لنفسها وهي تتلمس جسدها : ايه ده دول كأنهم مش شايفيني قدامهم من أصله والاغرب ان الراجل عدا من خلالي كأنى روح ملهاش وجود على أرض الواقع؟ انطلقت بخطوات سريعة إلى حد ما في محاولة منها العثور على اي شخص أو شيء يساعدها في معرفة مكان تواجدها ولكن قطع خطواتها عندما رأت أمامها شابين في مقتبل العمر يرتديان بذلتين بالتين إلى حد ما و على رؤوسهم يرتديان ما يسمى بالطربوش بلونه الأحمر القاتم نظرت لهما مندهشة مما ترى وهمست وهي تتلفت حولها علها ترى اي شيء ينهي حيرتها تلك: ايه ده هما بيصوروا فيلم ولا ايه وايه الهدوم اللي الشباب ديه لبساها هو لسه في حد بيلبس طربوش في زمانا ده ؟ قطع تفكيرها صوت أحد الشابين قائلاً: تفتكر يا سعد الإنجليز هيوافقوا على طلبات سعد باشا ؟ جاوبه الشاب الآخر وهو يلوح بيده دليل على غضبه الطفيف: يوافقوا مين يا عزيز ؟ انت غلبان اوووي وهما من امتي الانجليز بيوافقوا على مطالب الشعب ؟ دول ما صدقوا دخلوا مصر والخديوي سكتلهم هما وقيادات الدولة عشان ينهبوا خير بلدنا زي اللي قبلهم . أكملا سيرهم وهم يتحدثون في أحداث سياسية عظيمة وفارقة في تاريخ البلاد فاخذت قرارها سريعاً واتبعتهم حتى وصلا إلى إحدى الحواري الشعبية القديمة وقد افترقا على وعد باللقاء غداً ودلف عزيز إلى منزله فدلفت خلفه بهدوء وهي تتعجب من عدم اعتراضه على دلوفها منزله دون أن يدعوها للدخول فأثار اعجابها تصميم المنزل فكان بالاسفل الباب الرئيسي للمنزل وغرفة جانبية بابها مغلق يتميز بنقوش عربية تسمى الارابيسك أعطته مظهراً خلاباً للغاية وسلم خشبي يؤدي للأعلى حيث توجد صالة فسيحة موضوع بها بعض الاواني الفخارية التي تسمى الزير بداخلها ماء وقد بنيت فرن مصنوعة من الطين اللبن وبالقرب منها توجد أواني عديدة للطهي من الواضح أنه تم غسلها من فترة قريبة لشدة نظافتها وقد وضعت فوق بعضها البعض مكونة هرم صغير و بآخر الردهة الفسيحة تلك وضعت سبرتاية بجانبها مقود يعمل بالجاز يسمى الباجور ومرحاض على الجانب الأيسر تقف بداخله فتاه بداية العقد الثاني من عمرها لا تظهر ملامح وجهها ولكن جسدها النحيل جعلها تتوقع سنها، ترتدي جلباب من القماش المزركش بوردات بنفسجية اللون وزرقاء وحمراء أيضاً صعدت خلفه بهدوء للطابق الثاني والذي كان عبارة عن عدة حجرات منفصلة عن بعضهما حيث دلف إلى أحدهما ووقف باحترام امام رجل يجلس فوق ما يسمى بالكنبه وبيده مسبحة يسبح بهمس طفيف وصل لاذنيها وقف ينتظره مخفضاً رأسه للأسفل حتى ينتهي من تسبيحه وخشوعه وبالفعل ما أن انهى ما يفعله ووضع تلك الحبات العاجية بجانبه مال عزيز مقبلاً يده وهو يهمس: حرمآ يا حج أومأ الاب راسه وهو يربت على ظهر ولده المنحني يقبل كف يده ذات التجعيدات التي تدل على سنوات عمره : جمعاً بإذن الله يا عزيز همس عزيز وهو لايزال يخفض نظراته للأسفل احتراماً لوالده : بإذن الله وجه الأب حديثه إلى الفتاة الذي لا تزال على وضعها ولم يرفع عينيه : ها عملت ايه مع الخواجة بتاعك؟ أجابه عزيز بنبره هادئه ومنخفضة للغاية : قدمتله شهادة الاسبتالية وهو هيخليني اعيد الامتحانات لوحدي في الصيف تنحنح الأب بخشونة وظل صامتاً لبضع لحظات قبل أن يتحدث : ربنا يوفقك يا بني شد حيلك امتحانات البكالوريا مش سهلة يا بني وكمان عمك الحسيني باشا وعدني يشغلك على طول في الحقانية خصوصاً إن ملفك نضيف ملكش اي ميول سياسية واحنا ناس في حالنا وسمعتنا معروفة وسط الخلق ابتلع عزيز ريقه بتوتر وقد بدأت حبات العرق تتجمع على وجهه فأخرج منديله القطني يمسح وجهه و هو يهمس: باذن الله عن اذن حضرتك خرج متجهاً لحجرته بالطابق الثالث ولكن قطع صعوده السلم صوت انثوي صغير يهتف بأسمه فالتفت إلى مصدر الصوت وجدها شقيقته الصغرى والتي تبلغ من العمر العاشرة فكانت ترتدي جلباب منقوش وتجدل شعرها ضفيرتين طويلتين بنهايتهما شريطة حمراء اللون فكان شعرها حالك السواد وبشرتها حنطية تتمتع بعينين سوداوين واسعتين وشفاه رقيقة حيث تمتعت ملامحها بطفولية رقيقة للغاية وتحمل بيدها سبت بداخله ملابس وتهبط السلم من الدور الأخير: عزيز أجابها بصوت رجولي بحت وهو يقطب حاجبيه متعجباً: ايوه يا زهرة في حاجه؟ اقتربت منه بشدة وهي تتلفت حولها بطريقة طفولية جعلته يندهش ولكنه فضل الصمت حتى يتسنى له معرفة ما تريد إخباره فهمست وهي تقرب شفتيها من أذنه اليسرى بعدما وقفت على أطراف أصابعها : ايوه في بابا عرف ان مصطفى بيروح مع الثوار وحالف يطين عيشته اما يرجع من شغله عقد عزيز حاجبيه بقلق نجح في اخفائه: اممممم ماشي انزلي انتي عشان متتاخريش على ماما وتزعقلك ومتقوليش لحد اني عرفت دلف إلى حجرته وهبطت زهره للأسفل فتعجبت بطلتنا (سارة) من عدم اعتراضهم على وجودها بجوارهم ولكنها قررت تكملة تجولها داخل المنزل علها تفهم ما يحدث معها ولكن قطع تفكيرها خروج عزيز من غرفته مرتديًا جلباب مقلم وطاقية من نفس القماش وهبط للأسفل دالفا إلى غرفة غير التي دلفها مسبقاً فكانت غرفة معدة للطعام والمعيشة حيث وجد أبيه جالساً ارضًا أمام منضدة صغيرة تسمى (طبليه) وتقف سيده مع ثلاث فتيات يقومون بوضع أطباق الطعام أمامه ولكن ما زاد تعجب سارة أنها لا تستنشق رائحة الطعام بأنفها مع العلم ان شكله شهي جداااا فكان عباره عن خبز بلدي طازج وشهي وفراخ قاموا بتحميرها داخل الفرن الساخن وملوخيه وارز ونوعان من المخلل وفور انتهاء الام والاخوات جلسوا جميعاً لتناول الطعام وكان من نصيب الأب توزيع الطعام عليهم وزاد تعجبها عندما لاحظت عدم اعتراضهم على وجودها وتعاملهم بشكل طبيعي جدااااا قطع شرودها صوت الأب وهو يتساءل بعدما ابتلع لقمته : مصطفى لسه مرجعش؟ أجابت الام بهدوء : لا لسه يا حج بس على وصول المغربية هتهل خلاص هز الأب رأسه موافقاً ثم وجه حديثه لابنته الكبرى: بعد الاكل عاوزك في اوضتي يا نفيسه. هزت رأسها وهي تنظر في طعامها وأجابت بصوت هامس: حاضر أتموا الجميع تناول طعامهم في صمت وما أن أنهى الأب طعامه قام لغسل يديه فهرولت الام خلفه لمعاونته وفور خروجهم من الغرفه التفتت الفتاه الصغرى موجهة حديثها إلى شقيقتها الكبرى بهمس: بابا عاوزك ليه يا نفيسه؟ جاوبتها نفيسه بنفاذ صبر وهي ترمقها بنظرات حانقة: معرفش يا عايشه زفرت عائشه وهي تلوي شفتيها بحنق فهي تعلم طبع شقيقتها الكبرى ورثت الكتمان من والدتها : وحتى لو تعرفي مش هتقولي برضو اجابتها نفيسه وهي تنهي طعامها قبل ان تنهض كي تلحق بوالدها لمعرفة ما سبب استدعائه لها : وهو من أمتى في واحدة فينا تعرف حاجه غير اللي عاوزينا نعرفه. أنهت حديثها وخرجت من الغرفة حيث وجهت عائشه حديثها إلى عزيز الجالس بجانبها يتناول طعامه بهدوء : _عزيز اجابها عزيز دون أن ينظر تجاهه فهو يعلم أن فضولها سيتسبب يوماً ما بوقوعها بإحدى المشاكل الكبرى: _نعم أبتلعت لقمتها سريعاً مما تسبب في تعثرها أثناء البلع فمدت يدها سريعًا تلتقط القلة تشرب منها ما يساعد على نزول لقمتها وفور انتهائها وضعتها جانبها على الأرض ثم وجهت حديثها الى عزيز الجالس بجانبها يكمل تناول طعامه وكأن ما حدث أمامه منذ لحظات لم يحدث: انت متعرفش هو في ايه وأبويا نده ليه لنفيسه ؟ لم يجيبها بل اكتفى بتحريك رأسه يميناً ويساراً ووقف خارجاً لغسل يديه والصعود لغرفته لاستذكار دروسه الفائته انهت الفتاتان تناول الطعام وحملوا الأطباق وخرجوا لإتمام عملية التنظيف صعد عزيز للأعلى وبدأ في استذكار دروسه بهدوء وتركيز وجلست سارة على طرف الفراش تراقبه بهدوء ولازالت تفكر بوضعها وكيف انهم لا يعترضون على وجودها وكيف لا تستطيع أن تشعر بملمس الأشياء أو اشتمام الرائحة كأنها شبح، مر الوقت سريعاً وفتح باب غرفة عزيز بهدوء ودلف منه شاب فارع الطول يتمتع بملامح وسيمة للغاية انفاسه هادئة عيناه تحمل دفء وحنان وقد تاهت سارة في ملامحه ولكنها أفاقت على صوته الرجولي الرخيم وهو يقول: عزيز خد بالك ابوك يعرف اننا بنروح مع عبد العزيز وجرجس اجتماعاتهم ترك عزيز قلمه وهو يتنهد تنهيده قلقه تحمل ثقل كبير: متقلقش يا مصطفى بس خد بالك انت من نفسك وقف مصطفى بشموخ ونظر للفراغ نظره تحمل تحدي وإصرار: متقلقش عليا احنا بنعمل كده يا عزيز عشان البلد دي بتاعتنا احنا ومن حقنا احنا مش هما مش من حق أى إنسان يجي يحتل بلد وينهب خيرها ويستولي على ثرواتها ويستحل حريمها واحنا نقف نتفرج لمجرد اننا خايفين هو احنا مش رجالة ولا ايه يا عم عزيز هز عزيز رأسه موافقاً اخيه الاكبر الحديث حيث خرج مصطفى تاركاً عزيز متخبطًا بين أفكاره يعتلي صدره قلق بالغ للغاية وحزن شديد لا يعلم مصدره ولكنه نفض مثل هذه الأفكار واكمل مذاكرة دروسه فقطع استذكاره اخيه مصطفى دالفا له وتلتمع عيناه بنظرة قلقة متوترة مليئة بمشاعر متخبطة للغاية نهض عزيز واقفاً أمام أخيه الأكبر متسائلاً: مالك يا مصطفى؟ مصطفى وهو ينظر لأخيه نظره غريبه عجز عزيز عن تفسيرها واطلق تنهيدة قلقة ووضع يده على كتف أخيه الأصغر وتكلم بصوت رخيم : عزيز انا هخرج دلوقتي ضروري ولو الحج سأل قوله إني نمت بس لازم اخرج حالاً تسأل عزيز بقلق فهو للمرة الأولى يرى نظرة القلق والتوتر تلك بعيني أخيه الأكبر : ماشي يا مصطفى بس هتتاخر؟ أجابه مصطفى بتوتر هادئ: إن شاء الله لا المهم خد بالك من نفسك ومن اخواتك يا عزيز وانجح وكمل في مدرسة الحقانية متستكفيش بشغل وخلاص اللى زيي وزيك هما أساس البلد ولازم نوقفها على رجليها هز عزيز رأسه للأعلى والأسفل قائلاً: حاضر يا مصطفى هم مصطفى بالخروج ولكنه توقف ثم رجع إلى أخيه الأصغر واحتضنه بقوة وقد دمعت عيناه بصمت قاتل حيث شدد عزيز من احتضان اخيه وربت على ظهره بهدوء ثم ابتعد مصطفى وخرج بهدوء تحت نظرات أخيه الأصغر التي كانت تلتهمه بقلق شديد بعد مرور مدة من الوقت صدرت جلبة قوية من الشارع وأصوات صياح بدأت في الوضوح تدريجياً لتصير أصوات هتاف تزداد قوه وعنف وشراسة وتختلط بها أصوات أنثوية مع رجولية فكونت هتافات صاخبة منددة بمطالبة اخذ حقوقنا هرولت الفتيات ينظرن من المشربيات ليتفاجأوا بما يحدث فقد خرج الشعب عن صمته وقاموا بثورة لتحرير الوطن فتخلت الفتيات عن يشمكها وساروا جنباً إلى جنب الرجال هتف الأب متسائلاً عن ابنه الأكبر عندما لاحظ عدم تواجده وقد دب القلق والرعب قلب الأب : مصطفى فين ؟ صمت الجميع وقبل أن يهموا بالرد تعالت أصوات الرصاصات التي اغتالت براءة اغلب الشباب واغتالت أحلامهم هرع الأب إلى الأسفل باحثاً عن ابنه لا يأبه بالموت أو تلقي الرصاصات وبعد هدوء الاجواء تفاجأ الأب بولده محمولا على أكتاف أصدقائه غارقاً بدمائه فكانت دماء العزة والكرامة تملأ قميصه الأبيض وابتسامة الشهادة تعتلي وجهه بسعادة مغمض العينين باستسلام لقدرة خارت قوى الاب ونزفت دموعه بشدة وهو يتحسس وجه ولده بأنامل مرتعشة لتهبط الأم مسرعة وهي تبكي بحرقة وقد صدرت منها صرخة حارقة وهي تنادي باسم ابنها الأكبر مصطفى الذي فقد روحه في سبيل تحرير الوطن مثلما فقدت الكثير من الدماء الطاهرة في سبيل العزة والكرامة واسترجاع الحقوق المسلوبة فأصبحت الشوارع تفوح منها رائحة مسك دماء الشهداء الذين ضحوا بأرواحهم صدح صوت يهمس بأذن سارة من بعيد واحست أن هناك يد تهزها برفق لتبدأ الرؤية أمامها تختفي تدريجياً حتى اختفى المشهد من أمام عينيها لتفتح جفنيها وهي متعرقة للغاية وتلهث بشدة كأنها تركض بداخل سبق لترى وجه والدتها وهي تنظر لها بقلق تساءلت سارة و هي تتلفت يميناً ويساراً: هو في ايه؟ جاوبتها الأم وهي تنظر لمعالم وجهها بتوتر وقلق : معرفش انتي كنتي بتقرأي كتابك الجديد وشكلك نمتي وانتي قاعده مكانك همست سارة بذهول وصدمه: نمت يعني كل ده كان حلم ففتحت كتابها سريعاً لتلتقط حدقتيها آخر صفحات كانت تقراها وكانت تحكي أحداث ثورة 1919 ومشاهد موت معظم الشباب تنهدت بعمق واغلقت كتابها ونهضت لداخل غرفتها وهي تنظر لكتابها بحيره شديده ثم وضعته على الكومود بجانب سريرها وهي شاردة حائرة بما حدث وبدون شعور منها التقطت حاسوبها النقال وبدأت رحلة البحث عبر النت حتى وجدت ضالتها الذي كان عبارة عن مقال يسرد أحداث تلك الحقبة ومرفق به صور لبعض الشهداء وما صدمها والجم لسانها رؤيتها لصورته من ضمن الصور، صدمت بشكل غريب فكانت آخر توقعاتها أن تجده بين من ضحوا بحياتهم لأجل الوطن واسترداده ولكن أكثر ما شغلها كيف وصل داخل احلامها هل يعقل ان تكون روحها سبحت للماضي أغلقت حاسوبها وهمت واقفه بتعب وكسل ثم خرجت مغلقة باب غرفتها خلفها وهي تفكر في أحداث حلمها جلست على المنضدة شاردة الذهن شاحبة الوجه بشده وكأنها بعالم آخر غير عالمنا فكانت أحاديث عائلتها بالنسبة لها مبهمة غير مفهومة حتى قطع شرودها يد والدها تهزها برفق ويتسأل بقلق: مالك يا سو فيكي حاجه يا حبيبتي؟ أدارت حدقتيها تنظر لوالدها نظرة شاردة تائهة وأجابت بنفس حالتها التي أزعجت والدها كثيراً: هااه بتقول حاجه يا بابا؟ عقد الأب حاجبيه وقد ارتسمت على ملامح وجهه علامات الاندهاش : مالك يا سارة شكلك متضايق يا حبيبتي هزت رأسها يميناً ويساراً مردفه بهدوء يتخلله نبرة غامضه تنم عن حيرة داخلية مما أثار شكوك الأب لكنه فضل الصمت : مفيش يا حبيبي انا كويسة ده ارهاق بس مش اكتر من المشوار واليوم كان طويل ربتت الأم على كتف ابنتها قائلة : خلصي اكلك وقومي نامي يا حبيبتي أجابتها سارة وهي تومئ بخفوت : حاضر يا ماما أنا فعلا محتاجه انام جدااا انتهت من تناول طعامها واستأذنت دالفه إلى حجرتها بعد ان ادخلت طبقها داخل المطبخ سارت نحو فراشها بخطوات متمهلة للغاية حيث جلست عليه ومدت يدها وامسكت كتابها تنظر له بتمعن وهي تفكر بما حدث حيث التقطت هاتفها المحمول تبحث بين المواقع على مبرر منطقي ولكنها لم تجد فألقته جانباً وتسطحت بشرود فهي للمرة الأولى تشعر وكأنها عاشت بأحداث حلمها وكأنه حقيقة