صفعة قوية دوى صداها من حائط لحائط، ثم صمت أشد وقعًا من الصراخ في تأثيره لف المكان بجناحيه، تخلله صوت نشيج أنفها ورديَّ اللون وسيل من الدمعِ انساب من عينيها المنكسرتين. تحسست وجنتها التي تلقت الصفعة، وبصقت في وجهه كلمات قاسية أشد لذاعة من الكلمات التي قاطعت بها ثرثرته الفارغة فلم يستطع السيطرة على نفسه ولطمها، وفي المقابل أغمض هو عينيه لبرهة ثم فتحهما ضامًا يديه على شكل قبضة فانتفض جسدها من الخوف وأنين خفيض صدر منها، لاكَ كلماتها المسمومة التي دفعته لإطالة يده عليها بصدمة، وأغلق عينيه بشدة ثم لكم الحائط بدلًا من صفع الوجنة الأخرى. أخذته تلك النظرة اللوامة والحزينة التي حدجته بها عدة أعوام للخلف، رأى فيها النسخة الأكبر سنًا منه تصفع والدته بالقوة ذاتها التي صفعها بها، وتشاركت الاثنتين في نفس النظرة التي تفيض بالوجع، وجسد عقله ارتطام رأسه العنيف بطرف الطاولة المدبب جزاء لوقوفه كحائل، وبركة الدماء التي تكونت أسفل رأسه، وعند هذا الحد هز رأسه يمينًا ويسارًا نافضًا تلك الذكريات الحزينة عن عقله وتقابلت عينيها الدامعتين بعينيه الجاحظتين الثائرتين لكرامته عندما فتح عينه، ونظرا لبعضهما البعض وهنا عَجِزَ اللسان عن الكلام فخيم الصمت على الشفاه وتسلمت النظرات زمام الحديث، وشَكتْ الواحدة للأُخرى بلوعة... لقد تغير كثيرًا وكأنه كان قبل الزواج شخص وبعده شخص آخر لا يماثله البتة، أين هي وعوده التي وعدني بها في فترة خطبتنا؟ لقد رمى بهم كلهم عرض الحائط وجعلني بقايا أنثى تتحرك بآلية فقط لخدمته، هذه ليست أنا! أنا فتاة لا يعرف الحزن لها طريق، ترتدي ملابس أنيقة، شعرها طويل ناعم خصلاته الذهبية غدت الآن بفضله وبفضل أولاده كثيري المطالب مُقصفة ومتشابكة، وملابسي مهملة وغير متناسقة، ناهيك عن بشرتي التي كان يتغزل في نضارتها وملمسها الناعم جفت كجفاف قلبي الظمآن لكلمات عشقه التي كان يمطرني بها. لقد أصبحت حياتي مملة رتيبة، أبدأ يومي بالاستيقاظ باكرًا وطهي طعام الإفطار، ثم أستعد لتنظيف البيت وتجهيز الأطفال للمدرسة، وتغيير ملابس ابنتي الصغيرة دائمة التبول على نفسها، ثم تجهيز طعام الغداء، وتلبية طلبات الأولاد التي تنهال فوق رأسي واحدة تلو الأُخرى، والكثير من أعمال البيت اللامتناهية... وعندما أفرغُ منها وأرمي بجسدي على الفراش ليلًا صوت رنين جرس الباب معلنًا عن قدومه من العمل يجعلني أستفيق من أجمل نومة. انهض من الفراش بكسل وجولة أخرى من الأعمال المتعبة تنتظرني، ألقي نظرة على الساعة العتيقة المعلقة على الحائط فأجدها قد تعدت منتصف الليل بأربعة ساعات، فأترك نومتي الدافئة خلف ظهري وأفتح الباب، ثم أتوجه بتكاسل للمطبخ، وأخرج طعام الغداء من الثلاجة، وأشعل الموقد بادئةً في تجهيزه له، ومن فرط التعب يجبرني جسدي على الجلوس على أول كرسي تقع عيني عليه علني أجد للراحة سبيل، وتنغلق عيني بفردهما وبعد عدة دقائق استيقظ فَزِعة على صوتٍ حاد الطبقة وتأتيني ثرثرته في مواضيع تافهة يخلقها من العدم تُذهب آخر ذرة تحمل لدي مهب الريح، وتجعل أعصابي التي أُحاول ضبطها طيلة اليوم تنفلت وتتسرب من بين أصابعي كالرمال، فأنفجر فيه من الغضب ودون أدنى وعي لما أنطق أجدني أبوح بالكثير من الأشياء التي خبئتها عميقًا داخلي، وأعايره بعجزه الذي ليس له أي يد في حدوثه للمرة التي لا أعلم عددها... شيء انكسر داخلي، وشعرت بشظاياه تخترق خافقي، فتنساب منه مشاعري المحطمة، نعم إنه كبريائي!! كبرياء رجل تحطم على يد زوجة تذكره كلما نشب شجار ولو صغير بينهما بأنه نصف رجل بقدميه عديمتيّ النفع، التي يتعكزُ على عُكازين بدلًا عنهما ليستطيع نقل جسده من مكان لآخر، وتزيده آلام على آلامه بتشبيهها له بالنسوة اللاتي يفترشن مساطب البيوت، ويتحدثن في أمور فارغة، ويأكلن لحم الناس أحياءً بالنميمة. نعتتني بالثرثار وأنا الأبله الذي برغم ما أقاسيه من مجهود نفسي وبدني شاق في العمل كنت أعتصر عقلي اعتصارًا لأجد أي شيء يجعلني أتجاذب أطراف الحديث معها، فيذوب ذلك الصقيع الذي غلف علاقتنا وجعلها تتسم بالروتينية والبرود المطلق. ظننت أنا بفعلتي تلك سأدفعها لإخباري بالسبب خلف ذلك التغير الذي حدث لها، وكانت أمي هي من أرشدتني لتلك الطريقة للتقرب منها، فماذا سيثير فضول المرأة غير حديث القيل والقال، أمي السيدة المسنة طيبة القلب، التي أخذت تفكر في حلول لتحسين العلاقة بيننا في الوقت الذي تصيح هي كلما فاتحتها في موضوع أمي وخدمتها، وتصرخ متعللة بأن لديها ما يكفيها ويفيض من المشاغل التي تمنعها! ولكن أي مشاغل تلك؟ أتظن غسل الأواني ومسح بعض ذرات الغبار مشاغل؟! ليس أمي وفقط وحتى صغيري أيضًا لم يسلم منها، وصبت عليه جام غضبها، وضربته ضربًا مبرحًا فقط لأنه ببراءة أخذ من طبق الفاكهة التي كانت تُكرم به ضيافة إحدى صديقاتها. ولم يتوقف الموضوع على الأطفال وأمي فقط فقد تبدل حالها كثيرًا ولا أدري أين ذهبت تلك الفتاة الجميلة التي كانت تقابلني بأجمل طلة، وتداعب أنفي بعطرها الفواح، وتنتقي أرق الكلمات لتقولها، أصبحت تهمل في شكلها ونظافتها الشخصية، ويومًا بعد يوم تتحول من سيء لأسوء، ومازاد الأمر تعقيدًا هو عندما رغبت في أن أُراضيها بعد مُشادة كلامية حدثت بيننا بممارسة العلاقة الحميمية رفضت متعللة بأنها متعبة وتريد أن تنام! تكرر ذلك الأمر حتى قررت أن أخذ ما شرعه الله لي بالقوة؛ وفي المرات القليلة التي حاولت فيها ذلك كان جسدي ينتفض وينفر لا إراديًا منها ومن رائحة الثوم التي تفوح من جيدها. قطع أذان الفجر شرودهما الطويل ببعضهما البعض ونظراتهما اللوامة وحديثهم الصامت، فقال لها بصوتٍ خفيض بعد أن أخذ شهيقًا عميق وزفره ببطىء: _من بكرة هخلي ماما تدورلي على عروسة تقبلني زي ما أنا يا ست ليلة، ومتعايرنيش بعجزي كل مرة نتخانق فيها، وأوعي تفتكري إني هطلقك لا ده بعدك، هخليكِ خدامة هنا عندها وعند ولادي! -مش ممكن، أنت هتعمل فيا كدا؟! وجحظت عينيها وغطت بيدها شفتيها التي خرجت مهنا شهقة عالية، وركضت نحو غرفة النوم وأغلقت الباب من الداخل، وجر هو قدميه جرًا نحو المرحاض ليتوضأ. وقف على أعتاب الشقة وقلبه مُحمل بالأسى، وأخذ يبحث في جيبه عن مفتاح الشقة حتى وجده وفتحها ثم جلس على الأريكة المخملية التي تتوسط غرفة الضيوف وخطبة شيخ الجامع القصيرة التي خطبها فيهم بعد الصلاة تتردد في أذنه، والتي كانت عن حقوق الزوجين وواجباتهم تجاه بعضهما البعض، وكيف يكون لتفهم الزوجين لمشاعر بعضهما، وتقدير الزوج لزوجه وعدم تشبثه برأيه وأخذ دور (سي السيد) وقمعها في دور (أمينة) اليد العليا لحل نزاعات تولد جفاءً كبيرًا قد يصل بهم في نهاية المطاف إلى مفترقِ الطرق. استقام عن المُخملي، وتوجه إلى غرفة النوم، وقبل أن يطرق الباب طرقتين ويدخل عازمًا على التحدث معها تراجع وقال في قرارة نفسه: _أعمل إيه بس معاكِ يا ليلة؟ هتجنيني. فسمع الرد على سؤاله يأتيه في كلمات صرخ بها الشيخ في رأسه " اللين، اللين يا رجل! " فأكمل مؤنبًا نفسه: _ما هو أنا برده اللي غلطان ما كنش ينفع أمد إيدي عليها مهما حصل، أعاقبها بأي طريقة غير مد الايد، مش عارف بقا أنا هدخل. ضرب كفًا بكف ونظر إلى الباب الذي خرج منه للتو وابتسم ابتسامة كبيرة بملىء فمه حين جالت أفعال زوجته الغريبة في خاطره، زوجته الذي توقع أن يراها حزينة وبائسة بعدما هددها بالزواج عليها، لكنه فوجئ بها تشحذ أسلحتها الفتاكة في وجهه. كانت تشاهد أحد برامج الطبخ بتركيز عندما دخلَ عليها، وتدون في ورقة موضوعة أمامها طريقة عمل بعض المقبلات التي يحبها هو وتفشل هي دائمًا في صنعها مهما حاولت! مستلقية على بطنها وقد غيرت ثيابها لأخرى قصيرة وضيقة تلف منحنياتها بنعومة وتظهر نصف ظهرها أمام عينيه النهمتين، وتضع أحمر شفاة فاقع تصبغ به شفتيها، تعجب لمظهرها هذا الذي بدى فيه اهتمامًا زائدًا بنفسها على غير العادة، لكنه أرجع ذلك بعد لحظات من التفكير إلى أنها تتبع أسلوب (شوق ولا تدوق) الذي سمع شرح مفصل عنه من صديقه المقرب؛ فقد استعملت زوجته هذا الأسلوب وأخذت تعاقبه به بطريقتها الخاصة؛ فكانت تصوب سهام الإغراء عليه وعندما يقترب منها تتمنع بدلال. كتم قهقهة عالية كادت تنفلت من بين شفتيه وهو يفكر في أن سماعها فقط لمجرد تفكير عابر في أنثى غيرها أنجب ذلك التغيير الجذري فماذا سيحدث إن حدث زواج فعلي؟! ثم توجه للمرحاض يغسل وجهه وكفيه وبهدوء تعكز على عكازيه ووجه خطاه نحو غرفة نومهم مرة أخرى، عندما شعرت به اعتدلت في جلستها وتصنعت الانشغال بتدوين شيءٍ ما، صمت لبرهة من الوقت ونظر نحو يده التي صفعتها بندم وقال:- _أومال فين الأولاد؟