جلس الأخوة الثلاثة في حديقة منزلهم المكون من ثلاث طوابق، أو بالأحرى ثلاثة شقق، لكل منهم شقة يقطنها مع أسرته.. كانوا وما زالوا يدا واحدة منذ عزوفهم من صعيد مصر إلى الإسكندرية، هربا من الثأر الذي لم يكن لهم دخل به ... إلى متى سنظل تائهين داخل دائرة الانتقام والنار.. رغم مرور السنين وتغير الأفكار والعادات والتقاليد إلا أنه ما زال هناك رواسب من عادات الماضي بداخل بعض النفوس .. استمر حوار الأخوة لمدة ساعتين ولم يستطع أيا من عائلة المهدى قطع هذا الحوار .. تابع الجميع اجتماعهم المغلق بقلق بالغ، بعضهم فطن لما يتحدثون عنه وبعضهم تابع الأمر بقلق وتوجس.. اعتدل جاسر المهدى _الأخ الأكبر_ في جلسته وقال بضيق و هو يدعس أطلال سيجارته بقدمه: _ یعني خلاص كدة اتفقنا؟، لازم أدهم ابني يرجع مصر بقا.. أمه هتتجنن عليه، كفاية بعد لحد كده و احنا دلوقتي نقدر نحميه، الحال اتغير. رد عثمان المهدى _الأخ الأوسط_ مؤكدا وقال و هو يفرك أنامله بتوتر كعادته: _ عندك حق يا حاج جاسر أدهم لازم يرجع .. أربع سنين كتير برضه.. بس إنت عارف إننا كنا خايفين عليه، ولاد البردويلي كانوا هيموتوه لو فضل في مصر.. رغم إن التار تارنا احنا بعد ما قتلوا أخوى عبد الرحمن يرحمه. أومأ جاسر برأسه مؤكدا بينما قال جلال المهدى _أخوهم الأصغر_ بابتسامة راحة و هو يستند بمرفقيه على الطاولة: _ خلاص يا جماعة إحنا قتلنا الموضوع ده بحث، خلاص بعد ما عيلة البردويلي متاخد كل الأراضي بتاعتنا اللي في البلد وأدهم يقدم كفنه ونرتاح بقا من الهم ده. قطع جاسر استرساله بهمس وهو يتطلع حوله بقلق حذر: _ وطي صوتك يا جلال، أصل لو حد سمع ووصل الكلام للحاجة منيرة مراتي هتموت من خوفها على أدهم. أومأ جلال برأسه بإنصياع قائلا: _ حاضر يا حاج محدش هيعرف حاجة عن كلامنا ده، بس إنت كلمت أدهم علشان يرجع مصر و لا لسه ؟! أومأ جاسر برأسه مؤكدا وقال برزانته: _ أيوة، كلمته وعرفته كل حاجة وهو وافق وهيرجع في أقرب فرصة، بس سفره ده نفعه.. كمل تعليمه وخد الدكتوراه وبقا محامي دولي قد الدنيا. إبتسم عثمان وقال بفخر: _ ربنا يباركلنا فيه هو وولادنا كلهم، دول أهم حاجة في حياتنا. رددوا وراءه: _ آمييين. وقفت فريدة في شرفتها تطالع هذا الحوار الساخن بتركيز، التفتت داخل غرفتها وقالت مخاطبة أختها بتعجب مستتر: _ أموت وأعرف الاجتماع المغلق ده سببه إيه ؟! لم تعيرها أختها اهتمام وهي تتابع عملها على حاسوبها .. فالتفتت فريدة بكامل جسدها و قالت بضيق من تجاهلها لها: _ سهى، سیبي الهباب اللي في إيدك دة وردى عليا. زفرت سهى بضيق ورفعت عينيها ناحيتها، طالعتها قليلا بنزق ثم قالت بفتور: _ يا ساتر على فضولك يا شيخة، إنتي مالك أصلا يا فضولية .. ولا علشان اجتماعهم ده بخصوص سي أدهم مش علي بعضك. تلعثمت فريدة في كلماتها و عقدت ذراعيها أمام صدرها و قالت متصنعة اللامبالاة: _ أدهم إيه وبتاع إيه، أنا ... أنا مش في دماغي أصلا علي فكرة. رفعت سهى نظراتها و تعمقت بعينيها و التي كانت تلمع بخبث و قالت بابتسامة ماكرة: _ عليا أنا برضه يا ديدة .. بصي لنفسك في المراية وشوفي شكلك بقا إزاي بعد ما سمعتي سيرته يا قلبي. حدجتها فريدة بنظرات غاضبة وقالت بحدة: _ طلب قفلي على السيرة دي وبصي في اللاب اللي قدامك ده لأنك مستفزة و أنا غلطانة إني بكلمك أصلا. ضحكت سهى بنبرتها الرنانة و قالت بحدة: _ ما أنا كنت باصة فيه وبشتغل وإنتي اللي نكشتيني .. مش إنتي اللي نكشتيني و لا أنا بتبلى عليكي ؟! ابتسمت فريدة ابتسامة سخرية وعقدت ذراعيها أمام صدرها و قالت بمزاح: _ أسفين على الإزعاج يا جينيس عيلتنا. ثم اعتدلت في وقفتها وسألتها بفضول من انشغالها الجاد: _ قوليلي صحيح، إنتي متكلفة بمهمة جديدة صح .. انشغالك ده مش طبيعي. نظرت لها سهي من فوق نظارتها وقالت بملل وفقدان صبر: _ وإنتى مالك، ما إنتي عارفة إن شغلي دايما سرى وللغاية كمان .. ولا عاوزة تترميلك في الحجز يومين علي تطفلك ده. ردت فريدة بازدراء و هي تلملم شعراتها بخوف مستتر: _ لا يا أختي الله الغنى .. أصلا اللي يشوفك كده يقول بكلم ظابط وأنا معرفش.. ده إنتي يا دوب موظفة في شرطة الجرائم الإلكترونية. حرکت سهى رأسها بعصبية وقالت مستهزئة بفريدة و بحكمها الواهي و جهلها بطبيعة عملها الدقيقة و الهامة: _ انا موظفة يا جاهلة .. مضطرة أشرحلك... للمرة المليون يا أمي أنا معايا ماجستير في الكشف عن جرائم الإنترنت، عارفة يعني ايه ؟! لاحظت شرودها و الذي تعرف سببه جيدا .. فوجود اسم أدهم حول فريدة بأي شكل من الأشكال كفيل بإرباكها و سعادتها و حزنها و سوء حالتها مهما وارت بداخلها .. لعنت سهى الحب و من يحبونه و من يقعون به و حاولت لفت إنتباهها و هي تقول بنبرة عالية متذمرة: _ أنا مش عارفة باخد وأدى معاكي في الكلام ليه .. أنا اللي غلطانة أصلا. خرجت فريدة من شرودها علي تذمرها بعدما انعقد حاجبيها و قد اغتاظت مـن رد سهى المتعالي وهتفت بإصرار شديد: _ إيه مش مالية عينك يا أستاذة سهي.. ده أنا كلها السنة دي واتخرج وأبقى محامية قد الدنيا. زمت سهى شفتها وقالت ساخرة و هي تستمتع بإغاظتها: _ عندك حق ده حتى المحاماة شغلة من لا شغلة له .. ده غير إنك عاوزة تبقي زي حبيب القلب. ابتلعت فريدة ريقها بتوتر وقالت بتلعثم: _ حبيب ايه و قلب مين .. عيب كده علي فكرة. عادت سهى بعينها للحاسوب و هي تقول بمداعبة: _ داري يا قلبي مهما تداري قصاد الناس حبنا مكشوف. زمت فريدة شفتيها وقالت بغضب: _ کده یا سهى؟ ماشی، عموما خلاص خاصمتك. تنهدت سهى براحة وقالت: الحمد الله، و اخيرا هعرف أشتغل. سمعوا طرقات على باب الغرفة فقالت سهی بضيق: _ هو يوم مش فايت أنا عارفة .. إدخل. دلفت الغرفة مي ابنة عمهم عثمان وقالت بابتسامة عذبة: _ وحشتوني یا قطاقيط جدا جدا. صاحت بها فريدة قائلة بفرحة : _ بكابوظة، وحشتيني موت.. هي أمك خلاص فكت الحظر و سمحتلك تطلعي عند الاعداء .. اللي هما احنا و لا بلا فخر. أجابتها مي بغضب مفتعل و هي تغلق باب الغرفة خلفها: _ يا بايخة، مش هتبطلي بكابوظة دي بقا، سوئتي سمعتی يا باي عليكي. ابتسمت سهى عليهما وهزت رأسها بيأس وهي تشير بيدها لمي أن تأتي و تجلس بجوارها علي الفراش قائلة بحب: _ تعالي یا میوش، مالكيش دعوة بالبت دي، والله وحشتيني جدا يا قلبي و افتقدت هزارك و دمك الخفيف الفترة اللي فاتت. جلست مي على الفراش بجوار سهی و هي تطالعها بابتسامة متسعة و قالت بامتنان: _ محدش بيرفع من معنوياتي غيرك إنتي يا سهى، ربنا يخليكي ليا يا أحلى بنوتة في العالم كله. سبلت فريدة عينيها وقالت مازحة بنبرة ساخرة: _ أجيب شجرة واتنين هوت شوكلت.. صحيح الحب ولع في الدرة. ضيقت سهى عينيها و نفثت بغضب و حملت وسادتها و قذفتها بها و هي تقول بحدة: _ اطلعي برة اوضتي يا بت إنتي يالا .. و ما تدخليهاش النهاردة تاني انتي سامعة؟. ارتسمت على وجه فريدة تعابير الضيق و هي تلتقف الوسادة و قالت: _ إنتي بتتلككي أصلا علشان تطرديني يا سهي. وخزت مي سهي في ذراعها و غمزت لها بعينيها و قالت بمكر عابث: _ سيبيها يا سهي، هي هتقضي اليومين دول علي حالتها دي علشان الجو بتاعها اللي راجع من السفر .. حقها. تعالت ضحكات سهي الرنانة و صفعا كفيهما ببعضهما و فريدة تتابعهما بحنق لتقول سهي مؤكدة: _ و الله عارفة، و من الصبح شغالة تريقة عليها .. فرصتنا بقا. عقدت فريدة ذراعيها أمام صدرها و قالت بعبوس بطريقة مسرحية: _ حتى أنتي يا بكابوظة... كلهم خانوك يا ريتشارد. ساد الضحك لدقائق .. حتى قالت مي وهي تطالع فريدة بجدية و بنبرة عميقة محذرة: _ ديدة يا حبيبتي أحب أقولك إن أمي وحياة مش هيسيبوه في حاله وهيرموا عليه شباكهم لحد ما يصطادوه، وأدهم صيدة برضه تستاهل. صکت فريدة على أسنانها من الغيظ و قد احتدت نظراتها بغضب و قالت بضيق: _ وبعدين بقا في أمك الكركوبة وأختك اللعوبة! هيفضلوا حاطني في دماغهم ليه نفسي أفهم. احتدت نظرات مي وقالت بحزن: _ إتلمى يا فريدة دول برضه أمي وأختي .. أنا بس قولتلك علشان تعملي حسابك و تخلي بالك. تعالت ضحكات سهى مجددا وقالت ساخرة: _ وإنتي يا هبلة أي حاجة تسمعها في بيتكم تيجي تقوليها يا فتانة، أمك لو عرفت هترجع الحظر تاني و مش هتقدري تطلعي هنا و هتتحبسي مع حياة، و ده أكبر عقاب لأي حد. لوحت مي بيديها في الهواء باستخفاف وقالت بلا مبالاة: _ يا ستي سبيها علي الله الحاج عثمان ليه كلمة بالبيت و بيقدر يقنعها تسيبني اطلعلكم. صفعت سهي كفيها ببعضهما و قالت بتعجب: _ حتي أبوكي مسلمش من لسانك يا مي .. يا ساتر عليكي. وقفت مي و قالت و هي تتمطأ بكسل: _ هي الصراحة كده مش بتعجب حد .. لما انزل شقتنا بقا، والله جعت جدا. زفرت فريدة بألم وقالت بجدية: _ كفاية أكل بقا يا ميوش قربنا ندحرجك يا قلبي و هتتعبي و إنتي لسه صغيرة. تنهدت مي بأسى وقالت بابتسامتها العذبة: _ أعمل إيه؟ منا بحب الأكل جدا زي ما بحب الواد ياسين ابن عمك بالظبط. طالعتها سهي بإشفاق للحظات .. ف مي من أطيب القلوب التي قد يصادفها شخص .. شخصية ترفض الحزن أو المواساة .. متصالحة مع نفسها بشكل يجعل الجميع يحسدها علي رضاها بالواقع .. قطع تفكير سهي صوت فريدة و هي تقترب من مي قائلة بمزاح: _ أنا عاوزة اسألك سؤال واحد بس، هيشوفك ازاي وإنتى كده؟.. هيشوفك من أي إتجاه وإنتى الاتجاهات عندك كتير قوي. ضربتها مي على ذراعها وقالت بضحكتها البشوش: _ يا بايخة، عموما أنا هفضل وراه والزمان طويل .. يا أنا يا هو .. يالا سلام یا قطاقيط. أرسلت لها فريدة قبلة بالهواء و قالت: _ سلام. تركتهما مي و نزلت لشقتها، فرأت ياسين يخرج من شقتهم فلمعت عيناها بسعادة و صاحت به قائلة لإيقافه: _ سانسونتي .. إستنى وحشتني قوى بقالی زمان ما شوفتکش. توقف ياسين أمام باب شقته و هو يزفر بضيق وقطب حاجبيه وقال بحدة : _ أعوذ بالله من الخبث والخبائث. هبطت الدرج مسرعة ووقفت أمامه و تأملته بابتسامة بلهاء و قالت بهيام: _ أخبارك إيه .. وحشتني جدا. كز ياسين على أسنانه وقال ببرود و هو يطالع ساعة معصمه: _ كويس الحمد لله. حركت رأسها يمينا ويسارا و قالت بمداعبة: _ طب وأهرامك. رفع ياسين عينيه ناحيتها وهتف قائلا بغضب: _ مي هو إنتى موقفاني تحرقيلي دمي. تركها و ابتعد ليهبط الدرج، فأسرعت هي و وقفت أمامه و تمسكت بسور الدرج و هي تطالعه بحب .. ليسرع هو قائلا بنزق: _ بقولك إيه وسعي خليني انزل .. تعالي يمين كده ولا شمال، عاوز أنزل وإنتي قفلتي السلم. سبلت مي عيناها وهي تقول: _ متسربع على إيه الدنيا مش هتطير. لاحظت فقدان صبره و ضيق عينيه، فاعتدلت في وقفتها و سألته بتلهف: _ صحيح كنت عاوزة أسألك.. هو أدهم راجع فعلا و لا دي إشاعات. رفع عينيه بملل و أجابها ببرود: _ أيوة راجع الحمد لله .. وسعى بقا ولا هنط من فوقك. تعلم أنه لا يحبها و لكنها منذ نعومة أظافرها لم تشعر بأحد غيره .. رجولته و جماله الهادئ .. دمه الخفيف كحالها فرغم فظاظته بأوقات إلا أنه بأوقات أخرى يكون حنون بشكل يأسرها .. طأطأت مي رأسها وقالت بحزن مفتعل و هي تفرك أناملها: _ إنت بتعاملني وحش قوى يا ياسين، هو أنا زعلتك في حاجة ؟! تطلع لتمثيليتها الساذجة ورد عليها ببرود: _ وسعى يا مي أحسن ما أشوطك أرجعك الإستاد تاني. ضحكت على مزحته وقالت و هي تتعمق بعينيه: _ ماشي .. کده بتتريق عليا یا سانسونتی .. على قلبي زي العسل... والشوكولاتة كمان. مط ياسين شفتيه وقال بسخرية: _ سانسونتك !! رب إني لا أسألك رد القضاء ولكن أسألك اللطف فيه .. وسعي بقا. تنهدت بدلال و هي تبتعد من أمامه و قالت: _ حاضر هوسع و هسيبك تنزل .. بس هستناك ما تتأخرش. لوح لها بيده و هبط الدرج و قال بسخرية: _ أنا هبات برة النهاردة...يالا على قفصك يالا. تطلعت مي لأثره بتنهيدة ملتاعة .. بينما تابع هو هبوطه بوجه ممتعض و جبهة مقطبة، و فجأة عادت جبهته لطبيعتها و اختفي التجهم و علا وجهه ابتسامة هادئة، ولا أخفيكم سرا لقد كانت عينيه تشع قلوبا حمراء كأفلام الرسوم المتحركة .. لا يليق بها سوى أن تسمي شعاعا فارا من أشعة الشمس الدافئة .. عدل من ملابسه و رفع ياقة قميصه و تنحنح كي يطمئن بأن صوته مازال موجودا و لم يختفِ كحال دقات قلبه و قال بنبرة خافتة: _ ليلى. تركت ليلي حقيبتها ورفعت رأسها بسرعة ناحية الصوت، لتطير معها شعراتها الصفراء و عقل ذلك المتابع لها فاغرا فمه ويكاد لا يتنفس .. ابتسمت له بنعومة فهز رأسه مسرعا و تمالك مشاعره و هبط باقي الدرجات قائلا بمداعبة: _ ليلى عندنا يا مرحبا يا مرحبا .. البيت نور. اتسعت ابتسامة ليلي وقالت و هي تعيد حقيبتها لكتفها: _ های يا ياسين إزيك. وقف أمامها و وضع أنامله خلف أذنه، و قال متصنعا عدم السمع بمداعبة: _ ها... إنتي قولتي إيه ؟! تعجبت منه و قطبت حاجبيها وقالت ببديهية: _ قولت های ! طالعها قائلا : _ لا مش دي اللي بعدها. فكرت أكثر و قالت: _ إزيك !! تهدل كتفيه و قال بضيق: _ اللي في النص يا ليلي. _ ابتسمت ابتسامة جانبية وقالت: _ ياسين. اقترب منها أكثر قائلا بتنهيدة حارة متعمقا في بحر عينيها الازرق: _ أيوة .. هي ياسين دي .. طالعة منك زي الشهد. عقدت ليلي ذراعيها أمام صدرها و قالت له بمزاح ساخر: _ لا يا راجل!. اقترب منها حتي بات علي مقربة من لمسها وقال وهو يتطلع أكثر داخل عينيها: _ قلب الراجل. تعالت ضحكاتها المازحة وقالت: _ فرصة سعيدة يا ياسين. حاولت تخطيه لتصعد الدرج فأسرع هو قائلا: _ إستني هنا، رايحة فين؟. التفتت إليه و قالت: _ عند فريدة طبعا .. بتسأل ليه ؟! تنحنح بإحراج و قال: _ لا عادى، بس هي فريدة هتهاجر ما هي موجودة .. و احنا بنتكلم مع بعض وكده و إنتي حلقتيلي وطلعتي. لوت ليلى ثغرها و قالت بتعجب: _ نتكلم .. هنتكلم في ايه؟، ويا ريت تكون واضح. وضع كفيه بجيبي بنطاله وقال بابتسامة لعوب و هو يسير نحوها ببطء: _ عادي، كنت عاوز أقولك إني بدعيلك والله، و نفسي ربنا يرزقك بعريس طول بعرض وأسمراني وعنيه بني وشعره أسود زيي كده وما تتجوزي غيري. رمقته ليلى بنظرة حادة وقالت باندهاش: _ إيه !! انت تقصد إيه ؟! استقام راسما الجدية على ملامحه وقال بخوف: _ قلبتي ليه بس؟ .. استر ياللي بتستر .. أنا بهزر يا ستي، أسف. ضحكت علي هيئته وهي تحرك رأسها بتعجب وقالت: _ طب عن إذنك. تركته وصعدت الدرج وعيونه تتبعها .. لم يرَ بجمالها بحياته، و لم تحرك به أي فتاة ما حركته وتحركه ليلى بكل مرة يراها بها .. أخرج تنهيدة ملتهبة من صدره الملتاع بحبها وقال: _ تيجي مي تشوف البنات اللي على حق ربنا... مزة مزة يعني. _ هي مين دي اللي مزة يا واد إنت؟. انتبه ياسين للصوت الجهوري خلفه .. فالتقت بابتسامة خوف وقال بتلعثم: _ بابا، وحشتني والله، فينك يا حاج جاسر مش بتيجي ليه؟. ضحك جاسر عليه وقال بمكر و هو يهز رأسه بيأس: _ أنا فاهمك كويس و لم نفسك أحسنك .. مفهوم؟. ارتدى ياسين نظارته الشمسية و قال و هو ينصرف: _ أشوفك بالليل، سلام يا حاج. و تركه و خرج مسرعا .. صعد جاسر الدرج و قد تلاشت ابتسامته ببطء متذكرا عودة أدهم .. هو من أخذ قرار عودته كما أخذ قرار سفره و بالحالتين نفس شعور الخوف يداهمه و يصيبه بالتوتر و الأرق .. أغمض عينيه و هو يدعو ربه في داخله أن يوفقهم هذه المرة و يقبل كفن أدهم دون أن يتأذى .. و عند هذه النقطة فتح عينيه اللتان اشتعلتا و هو يقسم بداخله أنه و لو خدش ابنه خدش صغير حينها سينفتح باب للدم قد هربوا منه سابقا لن يغلقه سوى قضاء الله .. ..................................................... وحده الاشتياق القادر علي تغيير حالتك للنقيض رغم أنه ثابت .. لفت خصلاتها علي أناملها بشرود و هي تقاوم شعور الاشتياق الذي يجعل قلبها يطير فرحا لمجرد فكرة عودته عن قريب .. بإمكانها إخفاء شعورها عن الجميع دون استثناء، و لكن بداخلها تعلم أنها قد قضت أربع سنوات عمرها في لوعة و ألم .. لتتوقف عن حركتها و هي تعقد حاجبيها و قد ارتسم التحدي علي ملامحها، فهو لا يستحق لحظة حنين واحدة .. بعد أن ابتعد عنها بسهولة و تركها بمفردها .. لن تشفع له مهما حدث .. ولا يفرق معها رجوعه من عدمه، فهي الآن قوية وتعتمد علي نفسها وستنجح و تثبت له أنه مجرد شخص أو فرد من أفراد عائلتها .. و فقط !.. أومأت فريدة برأسها مؤكدة و قالت بشرود: _ أيوة كده. رفعت سهي عينيها ناحيتها و قالت بتعجب: _ اتجننتي يا فريدة؟!، بتكلمي نفسك؟. خرجت فريدة من شرودها قائلة بخجل: _ لا مش بكلم نفسي، بس بفكر في حاجة كده. أعادت سهي ارتداء نظارتها الطبية و قالت بابتسامة مراوغة: _ ربنا يرجعك بالسلامة يا سي حاجة كده، للبت خلاص مخها هيفوت. كادت فريدة أن تنهال عليها بلسانها و لكن دلوف ليلي عليهم لفت انتباههما و هي تطرق عالباب و تغني بمزاح: _ وحشتوني و حشتوني وحشتوووني .. وحشتوا عيوني. طرقت فريدة هي الأخرى علي مكتبها و غنت معها: _ أهلا أهلا أهلا أهلا بأعز الحبايب أهلا. لتخرج سهى عن صمتها وصاحت بهم قائلة بحنق: _ يا سلام إنتوا هتغنوا وتردوا على بعض، ده يوم ايه ده بس يا ربي مش عارفة أشتغل، يالا يا بت إنتي وهي بره. ردت ليلي بدلعها المعتاد وهي تدلف لداخل الغرفة: _ کده؟، مخمصاکی یا سهی. زمت سهى شفتيها وقالت ساخرة من دلالها المستفز: _ إيه المياصة دي؟.. إنشفي شوية يا بت إنتي، بلاش دلعك ده. جلست ليلى بجوارها علي الفراش و هي تخلع حقيبتها و قالت بجدية بعدما لاحظت انهماكها بالعمل علي حاسوبها: _ سيبك من دلعي دلوقتي، عندنا كلاس زومبا مش يالا هنتأخر. جلست فريدة على مكتب سهى وهي تتمطأ بكسل وقالت: _ لا أنا النهاردة our مش قادرة أخرج. ردت سهى بجدية بعد أن ضجرت من ثرثرتهم الزائدة: _ وأنا كمان ورايا شغل كتير، وبصراحة إنتم معطلني، روحوا ذاكروا لكم كلمتين ينفعوكم يالا. غمزت ليلي لفريدة وسألتها بهمس خافت: _ مالها دي متعصبة علينا ليه كده؟. تأففت سهي بغضب، فوقفت فريدة مسرعة وقالت بخوف: _ حاضر، ما تزقيش يا ساتر عليكي لما بتقفلي .. قدامي يا لولة على اوضتى نتكلم براحتنا. حركت ليلي كتفيها بتسليم وحملت حقيبتها و خرجت مع فريدة و قد تركوا سهى بغرفتها تكمل عملها .. حركت سهي عنقها وطقطقت أناملها و قالت بابتسامة راحة: _ و أخيرا .. كده أعرف أشتغل بمزاج بقا. و بدأت بالتنقل بين صفحات ملفها وهي تطالع تلك الوجوه الحقيرة و التي تغترف من قوت الشعب دون رحمة أو ذرة شفقة علي حال الفقراء .. خرج صوتها عميق بعمق نظرات التوعد في عينيها وهي تقول بقوة: _ وحياة أمي لكون فاكه لغزكم ده يا نصابين يا حرامية، وهكشف غسيل الأموال اللي إنتم شغالين بيه حتى لو كنتم مين في البلد .. يا أنا يا انتم. تحركت عيناها لذلك الشعار المثبت علي الحائط والذي كتبته بيدها كي لا تتغير: _ الوطن للأغنياء.. والوطنية للفقراء! عادت لعملها مرة أخرى بانهماك أفقدها حتي الشعور بألم ظهرها من جلستها تلك لساعات ..... وقت فريدة فجأة بردهة شقتها أمام باب غرفتها وهي تطالع ليلى بنظرات زائغة جعلت ليلي تضم شفتيها بترقب لتلك الكارثة التي تنتظرها .. فصداقة السنين كفيلة بأن تجعلها من نظرة واحدة تتعمق بعقل فريدة و تفهم ما يدور به .. و ينتظرها خرجت فريدة من صمتها واقتربت من ليلى وقالت بهمس و هي تتطلع لخوفها بحذر: _ عرفتي إن أدهم راجع. اتسعت عينا ليلى وقالت بفرحة: _ واو بجد .. احلفي. أومأت فريدة برأسها وأجابتها بملامح متجهمة: _ ايوة راجع، ومالك فرحانة كده يا أختي؟ . عقدت ليلي حاجبيها بتعجب و قالت مسرعة: _ و الله! المفروض إنتي تكوني اللي فرحانة مش أنا .. مالك ضاربة الوش الخشب ليه ؟! أشاحت فريدة بيدها في وجهها لتقول ليلي لإغاظتها: _ تصدقي نفسى أشوف شكله لما اتغير بقا إيه، ده هو مسافر قمر .. أكيد دلوقتي بقا قمرين .. بس أيوة يا عم حبيب القلب راجع، هنيالك. تطلعت فريدة حولها وقالت بقلق: _ يخرب بيتك، حد يسمعك يا مجنونة كانوا جطعوكي جطيع .. إنتي ناسية إن أهلي صعايدة. سمعوا صوت بجوارهم يقول ببديهية: _ ما ليلى عندها حق يا فريدة، إنتي وأدهم بتحبوا بعض من قبل ما تتولدوا .. بس مش عارفة إنتي قلبتي عليه ليه لما سافر؟. توردت وجنتي فريدة وقالت بخجل: _ إيه الكلام ده يا ماما بس؟ ما فيش حاجة من الكلام ده طبعا. تابعت أمها موضحة بجدية وقد قلبت ما بين حاجبيها: _ عليا أنا يا بنت بطني!. تأبطت ليلى ذراعها وقالت بتأكيد: _ معاكي حق و الله يا أنطي .. أنا كمان كنت لسه بقولها و الله. ابتسمت سعاد و هي تطالع لمعة عيون ابنتها و تهدج أنفاسها و قالت بمكر: _ أهي بقالها فترة عمالة تكابر كده يا ليلي و الكل مستغرب من موقفها جدا .. إنتي عارفة هما كانوا متعلقين ببعض إزاى. رفعت فريدة عينيها بملل من حديثها فأردفت سعاد قائلة: _ عموما إنتم مقري فاتحتكم من وإنتوا صغيرين .. يعنى هو في حكم خطيبك دلوقتي، فاضل رجوعه علشان نتمم الموضوع رسمي. عقدت فريدة حاجبيها بغضب وصاحت بسعاد بحدة: _ مخطوبين إيه وبتاع إيه يا أخي ديه ده. لاحظت ليلى تغير ملامح فريدة و عصبيتها فخافت أن يتطور الحوار بينها و بين والدتها وهي تعلم صديقتها جيدا فقالت لسعاد بترفق: _ معلش یا أنطى سعاد، ممكن تعميلنا كوبايتين شاي صعیدي؟ ورانا مذاكرة كتير و فريدة متعصبة من الضغط .. بعد إذنك. عقدت فريدة ذراعيها أمام صدرها و قالت بضيق: _ لا يا ستي، بسبب سي أدهم و مش عاوزة حد يجيب سيرته قدامي تاني، صعبة دي؟. وضعت ليلى كفها علي فم فريدة و دفعتها لغرفتها وأغلقت ورائهم الباب .. وصاحت بها قائلة بحدة: _ هو إنتي علشان أمك طيبة هتسوقي فيها؟.. لو كان مازن سمعك كان طقملك. أجابتها فريدة بضيق و هي تسحب كرسي مكتبها وتجلس عليه باندفاع: _ ما هي اللي ضايقتني يا بنتي .. قال مخطوبين قال. جلست ليلي أمامها علي فراشها و قالت بهدوء: _ يا بنتي مامتك بتتكلم من الواقع وإنتي عارفة عادة أهل الصعيد كلمتهم واحدة. سحبت فريدة نفسا طويلا وزفرته علي مهل لتهدئ من نفسها و قالت بتعقل: _ ده بقاله أربع سنين في أوروبا .. عارفة يعني ايه ... يعنى عرف ستات بعدد شعر راسه .. قوم لما يرجع يلبسوه فيا بالعافية.. كرامتي لا تسمح طبعا. ضحكت ليلى ضحكة عالية وقالت بخبث: _ قولي بقا.. كده أنا فهمت كل حاجة .. دي غيرة مش موضوع كرامة. ابتلعت فريدة ريقها و حلت عقدة شعرها تخفي بها توترها و قالت: _ اهه ده اللى باخده منك، هيافة على الفاضية والمليانة و بس. وكزتها ليلي في ذراعها وهي تطالعها بغضب وقالت بتحذير قوي: _ شکلی کده هطلبلك الإسعاف يا حلوة علي طولة لسانك. تأوهت فريدة من وكزتها المؤلمة و مسدت ذراعها وقالت بابتسامة رائقة: _ أه إيدك تقيلة، يا ساتر عليكي .. اللي يشوف عنيكي الزرقا دي وشعرك البنى الطويل اللي إنتي فرحانة بيه ده.. ما يشوفش إيدك الطارشة دي. مطت ليلى شفتيها في تبرم وقالت بحنق: _ بتريقي عليا علشان مش محجبة زيك .. روحي قولي الكلام ده لأختك الكبيرة اللي عامللنا فيها مريام فارس بشعرها الكيرلي ده.. وقال إيه صعايدة. ضحكت فريدة ضحكة عالية و قالت وهي تفتح أحد الكتب و تطالعها بتركيز: _ لا، سهى دي حاجة تانية، دي الوحيدة في البيت كله اللي أبويا وأعمامي بيعملولها حساب .. بعد أدهم طبعا.. مش عارفة فرحانين بيها ليه؟ يمكن علشان بقت أمين شرطة على كبر. ضحكت ليلى هي الاخرى و أشارت لها أن تخفض صوتها وقالت بمزاح: _ أمين شرطة ايه بس .. دي أختك صاروخ أرض جو عابر للقارات كمان.. إنتي مش بتشوفي بصات الرجالة عليها لما بنخرج معاها.. وإحنا بنبقى جنها صفر عالشمال. أومأت فريدة برأسها وقالت مؤكدة كلامها: _ عندك حق هي قمر، بس الأحلى فيها شخصيتها القوية تقولي ظابط بجد .. الله، هو إحنا هنقعد نكحي في المحكي وننسى المذاكرة يا بسكوتة هانم؟. ردت ليلى وهي تسحب كرسيها وتجلس بجوارها وتخرج كتبها من حقيبتها: _ عندك حق، في حاجة في القانون المدني عاوزاکی تشرحيهالي. _ هاتي ما عندك. ..................................................... الترقب هو نقيض الاشتياق فالاشتياق؛ شعور أنقي وأجمل من وصفه، يصيبنا دون شروط، أو تجميل، أو تخطيط و لا ننتظر منه أن يعود بأي نتائج علينا سوى أننا نشتاق و فقط ... أما الترقب؛ فهو علي النقيض تماما، دائما ما يكون مخطط له ليأتي بنتائجه بالنهاية كما رغبنا .. دائما ورائه سبب وغاية .. تترقب عودته بفارغ الصبر .. توهم نفسها أنه اشتياق وتعلم جيدا أنها تتوهم و مع ذلك غايتها أهم .. و سبيلها أقوى .. وقت حياة أمام مرآتها تمشط شعرها الطويل الناعم، وتتأمل جمالها الأخاذ بهدوء الواثق .. دخلت عليها مي وقالت باندفاع: _ حياة انتي فين يا بنتي؟!!.. ثم توقفت قليلا و دلفت لغرفة أختها قائلة بتعجب: _ يادي شعرك اللي بهدلتيه من كتر ما بتسرحي فيه .. ارحمي نفسك إنتي زي القمر و الله. لم تتطلع إليها حياة و هي مازالت تطالع نفسها بإعجاب .. ولكنها ردت عليها قائلة بجمود: _ جريتي عليهم بسرعة أول ما أبوكي قالك صح ؟! أومأت مي برأسها مرددة بقوة: _ آه وحشوني و طلعتلهم .. وبعدين أنا بحبهم زي ما بحبك بالظبط، وهما إخواتي كمان. ألقت حياة بفرشاة شعرها علي الأرض بقوة، والتفتت برأسها نصف التفاتة لترد عليها بغضب: _ هبلة، و هتفضلي طول عمرك هبلة و ساذجة. ضربت مي الأرضية بقدمها وقالت بتذمر غاضب: _ ما تشتمنيش يا حياة وأنا مش هبلة و لا حاجة. ابتسمت حياة بسخرية و التفتت إليها بكامل جسدها و قالت بتهكم: _ لا هبلة .. دول بيستغلوا هبلك علشان يعرفوا أخبارنا، و إنتي ما بتصدقي. جلست مي على فراش حياة وقالت بثقة: _ هما بيحبوني زي ما بحبهم، و فريدة و سهي طيبين جدا .. بس إنتي اللي مش بتحبى حد غير نفسك، فا شايفة الناس كلهم وحشين ومنافقين. لاحظت صكها لأسنانها، فأسرعت قائلة: _ انضفي من جوة بقا يا حياة .. يا ساتر عليكي. اقتربت منها حياة وقالت وعيونها تقدح شرارا: _ احترمي نفسك يا مي، ولا نسيتي إنى أختك الكبيرة؟. تهدل كتفي مي بندم ووقفت أمامها و قالت بهدوء: _ هي ماما السبب في إنك تكرهيهم كده و تحقدي عليهم، و زرعت في قلبك الكره من ناحيتهم.. وإنتى زي الخروف مشيتي وراها من غير ما تشغلي عقلك. صاحت بها حياة وقالت بغضب أعمى، وهي تقبض بكفيها متحكمة بانفعالها: _ انتي اتهبلتي في عقلك!.. إزاي تقولي عليا وعلى ماما كده.. طب ايه رأيك بقا أنا هقولها. ألقت عليها مي نظرة احتجاج ثم قالت في ثقة: _ قوليلها، ما أنا بقول الكلام ده في وشها ومش بخاف عادي. ثم سارت خطوة و وقفت امام حياة و حملت كفها المقبوض بقوة و فردته وهي تقول بترفق: _ طب ماما وبتكره طنط سعاد مامت سهى علشان تار قديم بينهم لما أبوكي كان عاوز يتجوزها على ماما علشان حبها.. بس عمك سبق وكل النبق.. إنتي بقا مالك بفيلم التار ده. تطلعت حياة ناحية باب غرفتها بقلق و قالت بقلق لا يليق بها: _ طب وطي صوتك علشان ماما لو سمعتك ممكن تموتك وأخلص منك بقا وأرتاح. تنهدت مي باسى وهي ترد عليها بتعقل: _ يا حياة يا بنتي يا حبيبتي نضفى قلبك من السواد اللي جواه ده.. وحبى الناس علشان يحبوكي. ضيقت حياة عينيها و قالت بضجر: _ فكك منى يا مي وقومي اطلعي برة وسبيني براحتي. طالعتها مي مطولا بيأس، هي تخشى عليها من نفسها وربتت على ذراعها وقالت بحنو: _ حاضر هخرج .. بس خليكي عارفة إنى بحبك أكتر من أي حاجة في الدنيا و الله. قاومت حياة مشاعرها التي لامستها مي بكلماتها النقية مثلها و أشاحت ببصرها عنها ببرود .. تركتها مي وخرجت لتعود مرة أخرى و تقف أمام مرآتها تتطلع لنفسها، وقد برقت عيناها بوميض شيطاني وقالت بتوعد: _ نفس اللي حصل لأمي زمان هيحصلي دلوقتي .. و أنا مش هسمحلك يا فريدة تاخدي أدهم منى مهما حصل .. هو ليا أنا وبس .. وتار أمى من أمك.. أنا اللي هاخده. ثم انحنت و حملت فرشاة شعرها و عادت أمام المرآة تمشطه بشرود و هي تبتسم بخبث و تترقب عودته بفارغ الصبر .. لم تكن هي الوحيدة التي تترقب عودته .. فتلك الواقفة خلف باب غرفتها تطالعها بانتصار و تطالع حقدها و غضبها الذين زرعتهما بيدها قد أصبحوا علي أتم الاستعداد ليعود لها حقها و تأخذ ثأرها من سعاد، و التي رغم زواجها من جلال إلا أن عثمان والد حياة مازال يرتبك كلما وقعت عينيه عليها و كأن حبها بقلبه لا ينضب و لا يتوقف .. و لن ترتاح إلا إذا كسرت خاطر فريدة كما ينكسر خاطرها بكل مرة تقع عينيها علي سعاد أم فريدة .. ..................................................... في شقة جاسر، جلست أميرة زوجته بجواره وهي سعيدة.. فابنها البكري سيعود إليها بعد غياب أربع أعوام كاملة لم تره بها إلا عن طريق المحادثة المرئية .. تفاوتت أحلامها ما بين رؤيته و تزويجه بأقصى سرعة، و فتح مكان لممارسة عمله به .. أي شيء سيطلبه ستنفذه له .. وضعت رأسها برفق على كتف جاسر الذي قربها إليه بذراعه وقبل جبينها، فهي لم تكن وحدها السعيدة فهو أيضا يشتاق لأدهم كثيرا، فابتسم بهدوئه الرزين و قال: _ مبسوطة يا أميرة إن أدهم راجع؟. نظرت إليه وفي عينيها مزيج من الفرحة والشوق وقالت بسعادة: _ مبسوطة قوى يا حاج، مش مصدقة إنى هاخده في حضني أخيرا.. وحشني قوى و البتاع ده اللي كنا بنشوفه عليه فيديو ما كانش بيطفي ناري. ملس علي ذراعها بحنو و قال: _ عموما يا ستي اهه راجع بعد بكرة الصبح .. إبقى بيتيه في حضنك لو عاوزة. ابتسمت ابتسامتها المعهودة وأجابته بقوة: _ إنت بتقول فيها يا حاج .. ده أنا مش هسيبه ثانية لغاية ما أشبع منه. بادلها جاسر ابتسامتها و قال: _ المهم إنك مبسوطة وفرحانة، دي أهم حاجة عندي. شعرا بنفس أحدهم في ظهرهم فالتفتوا سويا .. ليجدوا ياسين مستند على مرفقه و يستمع لحديثهم .. تنهد تنهيدة طويلة وقال مازحا: _ إيه؟ هنقضوها أحضان بس ما فيش بوس؟. صفعه والده على رأسه بقوة وقال بغضب: _ واقف تتصنت عليا أنا وأمك؟ ده أنا هجطعك جطيع يا ولد. ركض ياسين على غرفته وهو يقول بخوف: _ استر .. العرق الصعيدي نط .. بس برضه داروا على اللي بتعملوه، عيب معاكم شباب بالبيت ..ماشی یا حاج یا حبیب. حرك جاسر سبابته.. وقال بتحذير: _ و ديني يا ياسين لو قومتلك هضربك والله زي زمان و لا نسيت. رد عليه ياسين وهو يحتمى بباب غرفته قائل بمزاح: _ لا يا عم أنا أسف خلاص .. قومي يا فيرجينيا حضريلي العشا، معلش هنقطع حالتكم الرومانسية أصلي جعااان. بدأ الانفعال يسيطر على جاسر فقال بغضب: _ بتتريق على أمك؟. طب أنا قايملك يا عديم الرباية. وقف والده وهو يهم بملاحقته ولكن أميرة جذبته من ذراعه و أجلسته برفق و هي تقول بتعقل: _ إنت هتعمل عقلك بعقل الواد ده .. اقعد إنت يا حاج ما تحرقش دمك، و لا أقولك قوم إنت إغسل وشك و أنا هحضرلك العشا. ضحك ياسين وتابع مداعبا: _ سبلوا سبلوا، ما أنا إريال في البيت ده. التفت إليه والده وقال بحدة: _ ما انت لو راجل صوح سيب الباب اللي إنت مستخبي وراه ده وتعالى واجهني. خلع ياسين سترته و ألقاها علي فراشه و هو يقول: _ أنا راجل من ضهر راجل، بس الجبن سيد الأخلاق وابنك مثال للأخلاق و الأدب. تعالت ضحكات أميرة التي قالت بحنين: _ مش ناقص لمتنا دي غير وجود أدهم معانا، كان كسرلك سنانك يا زفت إنت. شمر ياسين عن ساعديه و جلس علي طاولة الطعام و هو يقول: _ بكرة يرجع و تهتمي بيه و تنسيني يا فيرجينيا. وقفت أميرة و اقتربت من ياسين و هي تقول بمداعبة: _ ده أنت حبيب قلبي، و لو طلبت عيني كده اديهالك يا قلب أمك. اشرأب ياسين بعنقه من خلفها و غمز لوالده و قال بمزاح ساخر: _ سامع يا حاج .. مش إنت بس اللي بيتقاله كلام حلو، احنا برضه في القلب بس سايبينك تاكل عيش. ضحك جاسر عليه و هو يهز رأسه بيأس بينما عاد ياسين لوالدته و قال: _ الأكل بقا يا ست الكل لإن أنا هلكان و هموت و أنام. ..................................................... وقفت ليلي وقالت بتعب محركة فقرات عنقها التي تيبست: _ أنا هقوم أمشي بقا.. إتأخرنا النهاردة و أنا تعبت. أجابتها فريدة بتأكيد و هي تتمطع بكسل: _ بس أنجزنا بارت كبير .. قعدتين تلاتة زي النهاردة نلم باقي المواد. لملمت ليلى كتبها و وضعتهم بحقيبة يدها و قالت: _ فعلا، هروح أنا بقا، عاوزة حاجة؟. وقفت فريدة مسرعة و قالت بإصرار: _ إستني ألبس هدومي وأوصلك بعربيتي. أوقفتها ليلى و هي تقول بقوة: _ لا يا حبيبتي شكرا، أنا هركب أوبر، بعتله ماسدج و زمانه جه قدام البيت .. يالا أشوفك بكرة في الجامعة سلام. أوصلتها فريدة لباب الشقة وودعتها.. وهي عائدة لغرفتها سمعت صياح سهى الذي جمع كل من في المنزل أمام باب غرفتها بذعر. وقف مازن _أخوهم الأكبر_ خلفهم وقال بخوف: _ إيه الصويت ده؟ في إيه ؟! رد جلال والدهم بقلق أكبر: _ والله يا ابني ما أنا عارف. طرق جلال باب غرفة سهي مسرعا ليأتيه صوتها قائلا : _ إدخل. لتتفاجأ سهى بالجميع يقف بغرفتها و يطالعونها بترقب.. وزعت أنظارها عليهم و قالت بذهول: _ في إيه مالكم؟!!! رد عليها مازن بقلق : _ إحنا اللي مالنا يا سهي؟!... كنتي بتصوتي ليه طالما إنتي كويسة؟.. قلقتينا يا مفترية. ابتسمت سهى ابتسامة واسعة وقالت بعدما تذكرت: _ أيوة صحيح فكرتني... استنوا ثواني. أخرجت هاتفها وهاتفت اللواء سالم و انتظرت الرد حتى أتاها صوته قائلا برسمية: _ السلام عليكم. وقفت معتدلة وقالت بصرامة: _ وعليكم السلام يا فندم. تطلعت فريدة بمازن الذي يطالع سهي قاطبا حاجبيه بنفاذ صبر... بينما رد اللواء باهتمام مصاحب بابتسامة رائقة: _ بما إنك كلمتيني دلوقتي يا سهي، يبقى عملتي المطلوب منك صح؟. هزت سهي رأسها بالإيجاب وهي تقول بسعادة: _ صح يا فندم .. أنا فرحانة قوي، بس الأسماء اللي اكتشفتها لناس كبيرة قوي في البلد، تفتكر هنقدر نحقق معاهم؟. رد مسرعا بنبرة قاطعة: _ ما فيش حد كبير على القانون يا سهى، أنا فخور بيكي جدا وثقتي فيكي كانت في محلها. ابتسمت بفرحة وقالت: _ متشكرة على ثقة حضرتك فيا يا فندم... بكرة إن شاء الله هيكون قدام حضرتك فايل بكل المعلومات. أتاها صوته قائلا: _ إن شاء الله... يالا تصبحي على خير. اعتدلت بوقفتها مجددا و قالت: _ وحضرتك من أهل الخير يا سيادة اللواء. أغلقت الخط وهي سعيدة.. ركضت على والدها وارتمت بأحضانه وقالت بنشوة: _ أنا مبسوطة قوى يا جلجل، قدرت أوقع أكبر مافيا لغسيل الاموال بمصر. احتضنها بقوة وقال بابتسامة كبيرة و زهو: _ وأنا فخور بیکي یا قلبي، من نجاح لنجاح دايما. قبلته بوجنته و قالت بحب: _ ربنا يخليك ليا يا بابا. اجتذبتها أمها من حضن والدها وقالت وهي تضمها لصدرها: _ برافو عليكي يا حبيبة قلبي.. ربنا يوفقك دايما ويرزقك بابن الحلال اللي يسعدك يا رب. استنكرت سهى ما قالته والدتها واعترضت بشدة قائلة بنفي: _ ابن حلال إيه بس يا ماما.. أنا مركزة في شغلي وبس. ابتعدت عنها والدتها و قالت باستنكار: _ هتترهبني يعني يا سهي؟ ما أكيد في يوم تتجوزي و تفتحي بيت. أسرع جلال منهيا الحوار و هو يقول بجدية: _ مش وقت الكلام ده، ويالا كل واحد على أوضته يالا. وقف مازن أمام سهى وقال بقلق و هو يعيد شعراتها الغوغائية خلف أذنها: _ حبيبتي يا سوسة، ربنا يوفقك دايما ويحميكي من عش الدبابير اللي إنتي مصممة تحطي نفسك فيه ده. ردت معترضة بعناد أكبر: _ ربنا الحامي يا مازن ما تقلقش، المهم إنى ضميري مرتاح و بعمل شغلي بما يرضي الله. ربت على ذراعها و قال بحنو رغم قلقه عليها: _ برافو عليكي يا سو.. إنتى قدها و أنا عارف.. يالا تصبحي على خير. وقفت فريدة أمامها بابتسامة هادئة و تطالعها بصمت.. فقالت لها سهى وهي تبادلها ابتسامتها: _ إيه ! _إيه انتي؟! زادت ضحكاتهم فقالت سهى بنعومة: _ هتفضلي ساكته كده كتير يا ديدة. اقتربت فريدة منها واحتضنتها وقالت بحب: _ أنا فخورة بيكي قوي یا سو، ومتأكدة إنك في فترة بسيطة هتبقي حاجة مهمة جدا. ابتعدت سهي عنها قليلا و ملست علي شعراتها و قالت: _ أنا و إنتي يا قلبي.. يالا علي سريرك بقا علشان تصحي بدري لجامعتك. ابتعدت فريدة عنها و قالت بابتسامة رقيقة: _ حاضر، تصبحي علي خير يا قلبي. هزت رأسها بالإيجاب وهي تقول: _ وإنتي من أهله يا ديدة. تركتها فريدة و خرجت... ارتمت سهى بفرحة على فراشها، وهي تفكر في مستقبلها وعملها الذي تعشقه.. و تطمح بأن تحقق به نجاحات كبيرة... لتثبت أن المرأة بأي مكان قادرة علي مجابهة أي ضغوطات مثلها مثل الرجل... بينما كانت فريدة تتطلع للهاوية وهي تفكر هل تشتاق له حقا وتتمنى رؤيته؟ ..أم لا تبالي بعودته من الأساس.. تذكرت جملة ليلي عن هيئته الجديدة.. فأربع سنين كفيلة بتغيير ملامحه التي تعشقها و تتذكرها كأنه لم يفارقها ثانية... أما حياة فكانت تفكر كيف ستثأر لوالدتها في فريدة.. بعد أن عزمت على الإيقاع بأدهم مهما كلفهـا الأمر ورغم علمها بمدى حب أدهم لفريدة، وحب فريدة لأدهم.. و لكن هذا لن يثنيها عن مخططها...... ..................................................... في الصباح كان العمل بمنزل آل المهدى على قدم وساق لاستقبال غائبهم... في منزل جاسر المهدى كانت أميرة تنظف المنزل بسعادة رغم ألم ساقيها المتزايد و لم تسمح لأحد بمساعدتها... وأعدت غرفته لتصبح جاهزة لاستقبال صاحبها بعد فراق طويل.. وأعدت أصناف كثيرة من الطعام استعدادا لتجهيز مأدبة طعام كبيرة، لتعويض أدهم عن كل ما فاته... أما في منزل عثمان؛ كانت زهرة وحياة تستعدان ولكن بطريقة أخرى فقد توجهوا لأحد مراكز التجميل لتصبح حياة ساحرة وجميلة أكثر.. لتخطف عقل وقلب كبير آل مهران... حتى تنتقم زهرة والدة حياة من سعاد و تذيقها طعم كسرة القلب و الروح ولكن في حبيبتها المفضلة... فريدة... وفي منزل جلال كانت سعاد تساعد أميرة في إعداد الحلويات التي سيتناولوها بعد الغداء وتحضير المقرمشات للمساء. أما الشباب فكانوا في حديقة منزلهم الكبيرة يزينوها لتصبح جاهزة لمأدبة عودة كبيرهم.... مازن وياسين تعاونوا في تعليق بعض الزينة وحبال الإضاءة.. مي وسهى كانوا يعدون الشواية لتحضير اللحوم المشوية عليها... أما فريدة فكانت جالسة تتابعهم بعيونها وتحاول ألا يبدو عليها التوتر والاشتياق.. فهو لا يستحق ذلك الشعور منها.. و ما سيريحها بعودته أنها ستذيقه مما أذاقها، سواء بسفرته المفاجأة أو بابتعاده عنها تلك السنين المنصرمة.. جلس الجميع في حديقة المنزل بعدما أتموا ترتيباتهم وعاد جاسر وإخوته من عملهم المشترك، وهو سنتر ملابس جاهزة كبير وفروعه بأماكن عديدة بالإسكندرية.. طاف جاسر بابتسامة شغوفة وهو يمرر أنظاره عليهم و على ما فعلوه بحديقة البيت و قال براحة: _ أكتر حاجة بتفرح الواحد لمتنا دي... ربنا ما يحرمنا منها أبدا. أجابه عثمان قائلا بهدوئه الحزين: _ ولسه لما آدم يرجع بكرة، كده لمتنا هتبقى أحلى بإذن الله. طالعت حياة فريدة بمكر و قالت: _ عندك حق يا بابا أدهم ده كبيرنا.. والدنيا من غيره مالهاش طعم خالص. لاحظت عبوس فريدة و صكها علي أسنانها بغضب فأردفت قائلة: _ سامحني یا عمو جاسر، بس أدهم كبير جيلنا و كلنا بنعتبره كبيرنا. أومأ جاسر مؤكدا كلامها: _ عارف يا حياة يا بنتي تقصدي ايه... ربنا يديم عليكم نعمة الأخوة و تفضلوا متجمعين عالخير. نظـر جلال لسهى وقال بنبرة آمرة: _ سهى... بكرة ما فيش شغل.. وتقعدي معانا مفهوم. ردت سهي بابتسامة رائقة: _ سيادة اللواء أساسا مريحني بكرة... یعنی مأنتخة معاكم ما تقلقش. وقفت فريدة ووضعت يديها في جيبها وقالت بلا مبالاة: _ أنا بقى الوحيدة اللي مش هكون في شرف استقبال أدهم.. عندي محاضرات مهمة. واروا جميعهم ابتسامتهم لعلمهم بكذبها.. بينما ابتسمت حياة بمكر و قالت بخبث: _ يعنى المحاضرات أهم من أدهم يا فريدة. ارتسمت بسمة ماكرة على طرفي شفتيها وقالت بتحدي: _ ايوة يا حياة أهم . لاحظت مي توتر الجو بينهما فقالت بسرعة قبل تفاقم الأمر: _ بكرة إن شاء الله هنشوي بقا، ده غير الاكل اللي طنط أميرة و طنط سعاد عاملينه...ده إحنا هناكل أكل. زم ياسين شفتيه وقال ساخرا: _ مش بتفكري غير في الأكل وبس. حولت مقلتيها ناحيته.. وأطلقت نحوه نظرات نارية وقالت بنبرة ذات مغزى: _ لا، بفكر في حاجات تانية غير الأكل. فهم مغزی كلامها فأشاح ببصره عنها... ليقول مازن بمزاح: _ أخيرا، وحش عيلة المهدى راجع بكرة وهيشكمنا كلنا زي زمان. ردت عليه سهى بضيق: _ هیشكمكم إنتم، أنا خط أحمر يا بابا. صفعت سعاد كفيها ببعضهما و قالت بعبوس: _ مافيش فايدة... دايما إنتى وأدهم زي الزيت والماية ما بتخطلطوش مع بعض ابدا. وقف جاسر وقال بجدية: _ يالا كل واحد على على الساعة ١٢ الضهر. وقف الجميع واتجه كل منهم لشقته..